تجربة باحثة أميركية مع مترجمين محليين من قبيلة الدينكا … ترجمة وعرض: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 


تقديم: قامت الدكتورة مارثا بيرد من مركز الأبحاث الطبية بجامعة كنساس الأمريكية  بنشر مقال في مجلة طبية علمية اسمها "مجلة التمريض عبر الثقافاتJ. Transcultural Nursing "، في العدد رقم 22 لعام 2011 عنوانه "الدروس المستفادة من (العمل مع) المترجمين التحريريين والفوريين من قبيلة الدينكا في جنوب السودان". ولن أنقل هنا ما ورد في المقال من محاور فنية وعلمية فهي للمتخصصين، ولكني أنقل هنا شذرات متفرقة لبعض الجوانب التي استرعت انتباهي – كقارئ غير متخصص- والتي رأيت فيها بعض الميل والتحيز (ولا أقول الاستعلاء) ضد المترجمين التحريريين والفوريين من قبيلة الدينكا، والضيق من تصرفاتهم غير المهنية، بل والسخرية المبطنة أحيانا من سلوكهم وطريقتهم في العمل وتعاملهم مع الوقت. فمثل ما ذكرت تلك الكاتبة ليس وقفا على الدينكا، بل هو سلوك و"طريقة حياة" لأغلب سكان عالمنا الثالث. لا شك عندي أن ذات الكاتبة كانت ستعاني أو تتعرض لمثل ما تعرضت له إن كانت تتعامل مع فرد أو أفراد من البجا أو الزاندي أو المحس أو الفور أو غيرها من المجموعات السودانية. لا يعني هذا بالطبع الرضاء عن مثل هذا السلوك المتسيب الذي لم نجن منه غير مزيد من التخلف والشقاء.
قامت الدكتورة مارثا بيرد بدراسة حول أحوال النساء من قبيلة الدينكا في جنوب السودان، واللواتي تم توطينهن مع أطفالهن في الولايات المتحدة. وتطلبت الدراسة أن تقوم الباحثة بتعيين مترجمين فوريين وتحريريين من ذات القبيلة للقيام بترجمة وثائق بحثية (من الإنجليزية للغة الدينكا)، وتوظيف النساء المشاركات في البحث، وتنظيم وترتيب المقابلات معهن، وترجمة ما يقلنه في تلك المقابلات المباشرة من اللغتين العربية والدينكاوية لللغة الإنجليزية، والقيام بدور "سماسرة/ وسطاء ثقافة" (إن صح التعبير) حيث يشرحون السياق الاجتماعي والثقافي للمقابلات، وتجارب النساء المشاركات وملاحظاتهن.
تقول الدكتورة إن تجربتها في العمل اللصيق مع المترجمين الفوريين والتحريريين من قبيلة الدينكا كانت مثمرة جدا لفهم أعمق، وتبصر أكثر بثقافة الدينكا، بيد أنها لم تخل من تحديات وعوائق كثيرة.
من ضمن الذين تم تعيينهم للقيام بالترجمة رجل دينكاوي (لم تسمه، فلنسمه هنا السيد "س") في الثالثة والثلاثين من عمره، يتحدث الإنجليزية، إذ كان قد هاجر للولايات المتحدة قبل خمسة أعوام، وأكمل دراسة المرحلة الثانوية، وكان قبل ذلك من "الأطفال الضائعين" في جنوب السودان (وهم جيل من الأطفال الأيتام ضحايا الحرب الأهلية من الذين لجأ معظمهم إلى الدول المجاورة، وتمت إعادة توطين معظمهم بعد سنوات في بلاد غربية). عهد إلي الرجل بترجمة استمارة التنصل/ التنازل القانونية (disclaimer) المعدة من قبل الجامعة، وأعطي التعليمات اللازمة، وحدد له موعد أقصى لاستلام الوثيقة مترجمة. مر أسبوعان دون أن يظهر الرجل أو يسلم ما طلب منه، ولم تتمكن الجهة المسئولة عن البحث من الاتصال به هاتفيا أو عن طريق البريد الإليكتروني. بعد مرور أيام من انتهاء الفترة الممنوحة له ظهر الرجل المترجم وبرر تأخيره بأنه كان مشغولا جدا بالعمل، وبالعناية بابنه الصغير، وأنكر تماما استلامه لرسائل بالبريد الاليكتروني. أكمل الرجل ترجمة الوثيقة من الإنجليزية للغة الدينكا بخط اليد، إذ أنه قال أنه لا يتوفر برنامج في الكومبيوتر يسمح بطباعة بعض حروف لغة الدينكا. لما سألت الدكتورة الباحثة عن ما إذا كان الرجل قد أكمل ترجمة الوثيقة، أفادتها المنسقة بأنه قد أعطى ما ترجمه لأحد أصدقائه لإعادة الترجمة التي قام بها من لغة الدينكا للإنجليزية، بيد أن صديقه اختفى فجأة! أضافت المنسقة أن المترجم يقول إنه سوف يقوم بإعادة الترجمة التي قام بها بنفسه من لغة الدينكا إلى الإنجليزية! (وهذا خطأ مهني فادح، بالطبع، إذ ينبغي أن يقوم بذلك العمل شخص لا صلة له البتة بالمترجم الأول، ولم ير الوثيقة الأصلية، وذلك لضمان صحة الترجمة ودقتها). بعد ذلك اضطرت المنسقة لتعيين شخص آخر من ذات القبيلة لإعادة ترجمة النص الأصلي للوثيقة حتى تضاهيه بما قام به المترجم الأول. كان ذلك الشخص امرأة دينكاوية قضت في الولايات المتحدة سبعة عشر عاما، ولم تبلغ من التعليم غير الصف الثامن، غير أنها عملت كمترجمة لجهات حكومية في الولايات المتحدة، وعملت كذلك كمترجمة فورية وتحريرية في دارفور بالسودان. فحصت الباحثة الأمريكية الترجمتين، وبعد المضاهاة تبين أن الترجمتين متطابقتان للحد البعيد. تقول الباحثة أنها تعلمت من تجربتها الأولى تلك أمرين: أولهما ضرورة معرفة وتقدير الاختلافات الثقافية الكبيرة بين الثقافة الأميركية وثقافة الدينكا فيما يتعلق بإدارة الوقت، وباحترام المواعيد النهائية المحددة سلفا، وأن لتعبير "إدارة الوقت" و"المواعيد النهائية" معاني وتفسيرات مختلفة في الثقافتين، والمثال على ذلك هو تخلف المترجم الأول عن الإيفاء بالموعد المضروب، وعدم اكتراثه بالرد على الاتصالات الهاتفية والإليكترونية العديدة التي تلقاها. كان الدرس الثاني الذي تقول الباحثة إنها تعلمته من تجربتها تلك هو ضرورة تلافي سوء الفهم في الوسائل العملية، والضوابط الواجب الالتزام بها عند الترجمة، وضرورة العمل مباشرة مع المترجم دون وسيط (مثل منسقة في وكالة تخديم). استفادت الباحثة من تلك التجربة الأولية عند بدء الجزء الأكبر من الدراسة، والتي تطلبت عملا لصيقاً مع المترجمين التحريريين والفوريين من قبيلة الدينكا.
كان مضمون البحث يدور حول دراسة نوعية لآراء وملاحظات 10 من نساء الدينكا اللاجئات  اللواتي تم إعادة توطينهن في الولايات المتحدة عن تجربتهن وفترة التحول في حياتهن. كانت أولئك النسوة قد أحضرن للولايات المتحدة مع أطفالهن في خلال العشرة سنوات الأخيرة بسبب ظروف الحرب الأهلية التي كانت تدور في السودان حينها، والتي أدت لمقتل مليونين، وتشريد 4 مليون من البشر. كررت الباحثة المقولة المعتادة من أن سبب الحرب هو الاختلافات الدينية والعرقية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية واللغوية (؟!) بين الشمال المسلم في غالبه، والجنوب المسيحي في غالبه. وذكرت أيضا أن الشمال يعد عربيا ومسلما (في غالبه) ويحكم بالشريعة، بينما يتكون الجنوب من قبائل نيلية من أصول أفريقية (غالبها مسيحي) ويعتمد علي الزراعة ورعي الأبقار.
ذكرت الباحثة بعض المعلومات الأولية المفيدة عن قبيلة الدينكا (ربما نقلا عن كتاب د/ فرانسيس دينق الشهير عن الدينكا الصادر في 1984م) منها أن الدينكا من أكبر قبائل جنوب السودان، وهم شعب فخور بنفسه وشديد التدين. كانت لغة الدينكا لغة شفاهية (غير مكتوبة) حتى أربعينات القرن الماضي حين قام البريطانيون بتدوينها حتى يتمكن شعب الدينكا من قراءة الإنجيل. تم إنشاء أول مدرسة في أرض الدينكا عام 1943م، بيد أن عدد المتعلمين من تلك القبيلة قليل نسبيا بسبب الحروب المتصلة، خاصة بين النساء اللاتي يتزوجن في سن الخامسة عشرة، وينجبن كثيراً من الأطفال. قالت الكاتبة إنه توجد أكثر من 400 لغة قبلية في جنوب السودان، منها لغة الدينكا، واللغة العربية هي اللغة المستخدمة حصريا في السودان الشمالي (وهذا غير صحيح بالطبع، فلا العربية هي اللغة  المستخدمة حصريا في السودان الشمالي، ولا يعني وجود 400 لغة قبلية في جنوب السودان عدم استخدام العربية أو ما يعرف ب "عربي جوبا" في ذلك البلد كلغة تخاطب مشترك).
حكت الباحثة بعد ذلك عن تجربتها مع رجل وامرأتين من قبيلة الدينكا تم ضمهم لفريق البحث كمترجمين تحريريين وفوريين. كانت المترجمة الرئيسة هي "راشيل" (31 عام)، وهي أم درست في كلية التمريض العالي بالخرطوم، وتجيد الترجمة من وإلى اللغة العربية والإنجليزية والدينكاوية بالطبع. عملت راشيل مع الباحثة كوسيط ثقافي لتشرح لها وللمشاركين في الدراسة كثيرا من الأمور المعقدة المتصلة بالبحث في السلوك والمضامين وغير ذلك. عينت الباحثة ا الأمريكية زوج راشيل (واسمه جيمس) للقيام بترجمة ثلاثة وثائق من الإنجليزية للغة الدينكا، وجلست في اجتماعات مشتركة كثيرة معهما لبحث ومراجعة الوثائق وترجمتها للتأكد من دقة الترجمة وقدرتها على توصيل المطلوب للنساء الدينكاويات. اكتشفت  بعد عدد من اللقاءات– لعجبها الشديد- أن جيمس هو نفسه من قام بترجمة الوثيقة الأولى التي بدأ بها البحث (وهو الشخص الذي أسميناه "س")! اكتشفت أيضا عددا كبير من الهنات والاختلافات والأغلاط في الترجمات التي قام بها جيمس رغم إجادته للغتين الدينكاوية والانجليزية. استعانت الباحثة  كذلك بسيدة أخرى اسمها "مارجريت"، وهي في الثالثة والعشرين من عمرها، وقد درست المرحلة الثانوية العليا بأمريكا (ورغم ذلك لا تجيد الكتابة بالإنجليزية ولا الدينكاوية بصورة جيدة!). كانت الباحثة تستعين بخدماتها عند ما تغيب المترجمة الرئيسة راشيل، بعد أن قامت بتقديم تدريب مكثف سريع في مجال الترجمة، وطلبت منها القيام بالترجمة الأمينة دون تلخيص أو تفسير أو نقص أو زيادة في ما تقوله النساء المشاركات في البحث.
من الدروس المستفادة من تعامل الباحثة ا الأمريكية مع هؤلاء المترجمين هو ضرورة التوافق بين المترجمين والمشاركين في البحث، وإدراك أن مجرد معرفة (أو حتى إجادة) اللغة لا يعني بالضرورة إجادة الترجمة منها وإليها. كذلك ذكرت الباحثة أنها وجدت أن الدينكا (هكذا في تعميم كاسح) لا يشاطرونها إدراكها ونظرتها للوقت وضرورة احترامه، وأن للمواعيد وقدسيتها! بل إن للدينكا تعبيرا مميزا لوصف نوع التوقيت هو "توقيت الدينكا" Dinka time وهو يعني بالطبع توقيت يفتقر إلى لدقة! (لعل ذلك يشابه تعبير"مواعيد خواجات" في شمال السودان للدلالة على الصرامة في التوقيت).
"اكتشفت" الباحثة أن كثيرا من رجال ونساء الدينكا لا يعرفون تاريخ ميلادهم بالتحديد (لعدم وجود شهادات موثقة للميلاد والوفاة في جنوب السودان) مما اضطرها لتغيير السؤال المعتاد : "ما هو تاريخ ميلادك؟" إلى "كم عمرك الآن؟". يقوم كثير من السودانيين بتلفيق تاريخ ميلادهم، أو الحصول على شهادات (تسنين) تقريبية من أطباء لتاريخ ميلادهم بناء على مظهرهم الخارجي. تعلمت الباحثة أيضا أنه يعد عند الدينكا من الوقاحة وعدم التهذيب سؤال المرأة (الدينكاوية) عن عمرها، ويساورها شك عظيم في أن أعمار الذين شاركوا في البحث أكبر مما ذكرنه لها.
أخيرا ذكرت الكاتبة أنه ما كان لها أن تكمل بحثها لولا اعتمادها علي قادة الكنيسة التي يرتادها رجال ونساء الدينكا؛ وذلك حيث أن الدينكا شديدو التدين. اعتبرت الباحثة أن قادة الكنيسة هم بمثابة "حراس أبواب" ثقافة الدينكا، فسلطتهم المعنوية لا نظير لها، وبدونهم لم تكن لتظفر بموافقة وتعاون المشاركات في بحثها.
لابد في الختام من القول أن جل ما ساقته الباحثة من نقد سافر ومبطن لسلوك من تعاملت معهم من قبيلة الدينكا كان سينطبق تمام الانطباق على أي قبيلة سودانية أو حتى أفريقية...وهذا بالطبع ليس من باب الدفاع عن الدينكا أو غيرهم، ولكنه من باب التأكيد على ضرورة فهم (وتقبل) الآخر صاحب الثقافة المختلفة، والمنظور المختلف لأشياء تعد "مقدسة" في الثقافة الغربية مثل التمسك بأصول "المهنية" و بالوقت وقيمته، وبالمواعيد واحترامها، وغير ذلك.
نقلا عن "الأحداث"   

badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]

 

آراء