تصدع خرافة الرفاهية الراسمالية

 


 

د. حسن بشير
16 October, 2011

 



اثبتت مظاهرات (الغاضبون) العارمة التي اجتاحت 951 مدينة كلها تقريبا من مدن العالم الاول، في 82 دولة هي الاكثر تقدما اقتصاديا واجتماعيا، اثبتت للعالم اجمع ان النظام الراسمالي عاجز عن تحقيق الرفاهية حتي في اعلي الاقتصاديات اداءا ونموا. تفجر الغضب ضد ظلم النظام الراسمالي وضد جشعه ووحشيته غير المتناهية، تفجر في معاقله الرئيسية واستهدف اجل ايقوناته شأنا في وول ستريت وفي مؤسسات التمويل الدولي المناط بها انقاذ الدول الغارقة في الديون من محنتها وفي مقار بورصاته ورموزه الاكثر وضوحا. كان من المؤمل في عالم الرأسمال ان يقتطع جزء من الارباح الهائلة التي تحققها الشركات الضخمة عابرة القارات وفوق القومية خاصة مع تمددها في عصر العولمة، ان تقتطع مبالغ مقدرة للرفاهية الاجتماعية واجتثاث الفقر وعدم العدالة الدولية المخلة. الا ان ما حدث هو العكس فبعد انهيار النظام الاشتراكي في اوربا الشرقية تحول العالم الي غول من رأس المال الذي خلا له الميدان فاصبح يلتهم الاخضر واليابس.
لم يتوقف النهب عند الارباح في حدودها العليا وانما امتد الي الدخول المستقبلية وحقوق الاجيال المقبلة فتمددت الامبريالية المالية المعتمدة علي الديون الي مزيد من التوريق لتغرق العالم بمجمله في دوامة من العجز المالي ادخلته في ازمة اقتصادية شاملة انسدت جميع المعابر التي حاول اساطنة راس المال تعبيدها لايجاد مخرج منها. كانت محصلة العولمة مزيد من الفقر وغلاء فاحش في اسعار الغذاء، اهدار الموارد البيئية وارتفاع معدلات التلوث التي كانت واحدة من اهم عوامل التغيرات المناخية والتدهور البيئي بظواهره المدمرة في جميع انحاء المعمورة.
اذا كانت محصلة الكساد العظيم (1929 – 1933م)، هي انتاج الانظمة النازية والفاشية والنظام الديكتاتوري المتحالف معها في اليابان والتي قادت العالم الي الحرب العالمية الثانية وحصدها لارواح اكثر من 50 مليون انسان، فان حصاد الازمة المالية الراهنة التي تفجرت في العام 2008م هو افقار مئات الملايين من البشر ووضعهم تحت خط الفقر. اذا نظرنا لضحايا المجاعات، الكوارث الطبيعية والحروب واضفناهم لضحايا الفقر وسوء التغذية فسنجد ان محصلة اقتصاديات العولمة بتوجهها الليبرالي الجديد نحو التحرير الاقتصادي والخصخصة، كانت اشد فتكا بالبشرية من جميع الحروب التي شهدها العالم في تاريخه الحديث، اي منذ طلوع فجر الرأسمالية واختراع الة البخار.
لم يعد نهج الليبرالية الجديدة المنادي بالتحرير الاقتصادي والاعتماد الكلي علي اقتصاديات السوق والياته، لم يعد مجدي اجتماعيا علي الاقل. هذا الامر سيكون اكثر وضوحا عندما يتم التنديد به من معاقل الرأسمالية الرائدة عالميا. ستستمع منظومات رأس المال وهامات الامبريالية المرتفعة بغطرستها المعهودة الي هتافات الملايين التي ستخرج الي الشوارع. سيتجه كل الي (ميدان تحريره) و (وول ستريته)، مناديا بشعاراته للإنعتاق من العبودية وانعدام العدالة واختلال المعايير اي كان مصدرها او سببها. لن تنجح محاولات الاحتواء والقمع والمصادرة والتعتيم. لقد فضحت شرارات ثورات القرن الواحد وعشرين دعاوي الحرية والديمقراطية التي تنادي بها الانظمة الراسمالية، اذ شرعت في التعتيم اعلاميا علي التحركات الجماهيرية ثم عمدت الي احتوائها وقمعها كما تفعل مع ثورات الربيع العربي، احتواء وتفريغا من جوهرها، واظهار دول ديكتاتورية عتيدة في قمعها وكأنها حامية للحرية وحقوق الشعوب في الانعتاق من عبوديتها.
لكن هذه الشعارات اصبحت جاذبة اكثر من دواعي كفاءة الاسواق والاصلاح والتكيف الهيكلي، شعارات "يا شعوب العالم انهضوا"، "انزل الي الشارع اصنع عالما جديدا"، او كما قال اسانج، الذي استقبل، استقبال الابطال، عند ظهوره امام متظاهرين في لندن " ندعم ما يحدث هنا لان النظام المصرفي في لندن هو المستفيد من المال الناتج عن الفساد". هكذا خرجت المظاهرات في المدريد وبرشلونة، في مدن هولندا والمانيا، ممتدة الي فرنسا ولندن ومقترنة بمظاهرات "احتلوا وول ستريت" في نيو يورك، بينما تحولت المظاهرات الي معارك شوارع في روما التي يرأس حكومتها واحدا من اكثر الحكام فسادا في العالم، حتي انه قد تفوق علي حكام العالم الثالث في فساده وعربدته العلنية. لم تقف اسيا متفرجة فقد هتف متظاهرون قرب بورصة تايبه (نحن 99% من تايوان)، كذلك انتشرت المظاهرات في اليابان ، نيوززيلندا واستراليا. اما افريقيا فقد كانت ممتثلة بالدولة الوحيدة ذات العضوية في مجموعة العشرين، جنوب افريقيا، وهذا تمثيل منطقي لانها الوحيدة المؤهلة من حيث عضويتها في النادي الرأسمالي الدولي ومن حيث تقدم الحركات الاجتماعية والارث النضالي المعتبر.
هل بعد الذي حدث في 15 اكتوبر 2011م (شهر الثورات العظمي)، يمكن الحديث عن ان النظام الرأسمالي واقتصاديات السوق هي الطريق الي الرفاهية والازدهار. بالطبع لا يمكن الاستغناء عن السوق ونبذه او الرجوع الي القطاع العام بشكل نهائي ليكون هو المنتج للسلع والخدمات بشكل حاسم، المقصود هو التوجه الاجتماعي للسياسات الاقتصادية و(انسنة) اليات الاقتصاد عبر تغيير مجمل توجه السياسات الاقتصادية وعقيدتها لتتحول من منهج الاستغلال والافقار الي العدالة الاجتماعية، محاربة الفقر وتحسين شروط توزيع الدخل والثروة واقامة نظام متوازن اقتصاديا واجتماعيا، وليس نظام يحتكر فيه الثروة 3 الي 5% من السكان وترزح البقية في الفقر والعوز. لا مناص من اتجاه الدولة الي توفير السلع والخدمات الاجتماعية خاصة التعليم، الصحة، الخدمات الرئيسية مثل الماء والكهرباء وصيانة البيئة بشكل عادل يجعلها في متناول الجميع كما كان يحدث يوما ما في السودان، كما لا بد من مراقبة الاسواق وضبطها ووضع حد لجشع راس المال المميت.
سيبحث العالم عن طريق جديد بديل لرأسمالية الجشع والاستغلال وسيجده كما وجدته نماذج بشرية ماثلة، مثل الذي حدث في البرازيل وعدد من دول امريكا اللاتينية او كما تحدثنا عن ذلك تجارب التنمية الهندية وغيرها من النماذج الرائدة. الا ان ما يمكن ان يبتدعه الانسان من اجل تغيير الوضع الاقتصادي والاجتماعي البائس الماثل اليوم فهو ما لا يمكن التنبؤ به، فقط يمكن توقع انه سيكون افضل كثيرا من المأزق الراهن الذي ادخلت الامبريالية المالية العالم فيه. كما ان الوضع الجديد لابد ان يكون اكثر عدالة واوسع نطاقا لاستيعاب الفقراء واخراجهم من مدافن الفقر التي اصبحت تتضخم في جميع انحاء العالم. يبدو ان عهد المضاربة بالحياة " انتم تضاربون بحياتنا" و المقامرة بمستقبل الناس " انتم تقامرون بمستقبلنا"،يبدو انه في طريقه الي الزوال، وان العالم يضع مسارا جديدا لتطوره.
hassan bashier [drhassan851@hotmail.com]

 

آراء