لعنة “نيفاشا” .. الشيطان ليس في التفاصيل!َ!
خالد التيجاني النور
6 April, 2012
6 April, 2012
tigani60@hotmail.com
هل ذلك كله محض مصادفة؟. في 28 يونيو 2011 وقع نائب رئيس المؤتمر الوطني, ورجل الحزب الحاكم القوي الذي ينظر إليه على نطاق واسع بأنه زعيم جناح الصقور والمتشددين في حزبه, في أديس أبابا على اتفاقية إطارية بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان(شمال) تؤسس لشراكة سياسية بين المرتمر الوطني والحركة, وعلى ترتيبات سياسية وأمنية لمعالجة الاوضاع المتوترة في ولايتي جنوب كردفان, والنيل الأزرق ويمكن من يتجاوز الذيول السلبية لعملية السلام التي تم تبديد فرصها وقد لاح في الأفق مبكراً أن السيناريو الاسوأ في طريقه للتحقق, تقسيم البلاد وعودة الحرب.
ولقي اتفاق أديس أبابا حينها ترحيباً شعبياً واسعاً بحسبانه عملاً سياسياً عاقلاً وراشداً يعطي بارقة أمل في تدارك الإنزلاق إلى حرب جديدة قبل أن يجف نزيف الحرب الأولى التي دامت نصف قرن, غير أن تلك الاتفاقية والآمال العريضة التي جاءت بها لم تلبث إلا أياماً قليلة حتى عاجلها رد عسكري مضاد من مناهضيها في سدة الحكم في الخرطوم بحجج ومبررات لا أحد يدري ما الحكمة من ورائها أجهض مبادرتها السياسية ليفتح الباب رسمياً لعودة الحرب في "الجنوب الجديد".
لم تمر سوى بضعة أشهر حتى لاحت بارقة أمل آخرى في لحظة نادرة لم يكن ينتظرها أحد, ففي 13 مارس 2012, توصل الأمين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان, الرجل القوي في الحركة الحاكمة في الجنوب وزعيم الصقور فيها بلا منازع, في أديس أبابا أيضاً مع ممثلي الحكومة السودانية على تفاهمات لإجراء تغييرات جوهرية في تفكير ومنهج التعاطي مع مأزق القضايا العالقة, كان من المنتظر إذا قدر لها أن تتحق أن تشكل تحولاً نوعياً في العلاقة بين البلدين يعيدها إلى مربع التطبيع والتكامل المأمول بين بلدين ما بينهما من المصالح المشتركة والمتشابكة ما هو أكثر من بين أي بلدين آخرين. وارتفعت الآمال والناس يسمعون خطاباً جديداً متفائلاً من زعيم صقور الجنوب وهو يحط الرحال في الخرطوم داعياً الرئيس البشير لزيارة جوبا لتدشين عهد جديد في العلاقات يتجاوز الوضع المأزقي الراهن إلى آفاق أرحب.
واغلب العقلاء من الشعبين في "السودان الكبير", ويا له من تعبير عامر المعنى شديد العمق "السودان الكبير" لفت انتباهي إذ سمعت مذيعاً نابهاً لا يحضرني اسمه يستخدمه في تلفزيون الجنوب الحكومي في وصف السودان قبل التقسيم, رحبوا بالاتفاق الجديد ومشاعرهم تتقلب بين الأمل في مخرج آمن للطرفين من السيناريو الانتحاري الذي يسيران فيه, وبين التوجس من أن يعيد تاريخ نقض العهود المتبادل نفسه, وأيضاً ما لبثوا إلا أياماً قليلة حتى جاءهم من الجنوب نبأ فزعوا فيه بآمالهم إلى الكذب, ولكنه لم يكن كذباً, فقد جاء الرد من مناهضي الاتفاق أيضاً عسكرياً وجاء هذه المرة من الجنوب لتجهض مبادرة تفاهمات أديس أبابا السياسية التي جاءت على حافة الهاوية لتجنب البلدين الوقوع في متاهة بلا قرار.
توافق, أو بالآحرى تطابق لا تنقصه الغرابة, أن تحل اللعنة على اتفاقيتي أديس الأولى والثانية ويتم إجهاضهما بالسيناريو ذاته, مبادرة سياسية بعيدة النظر في الحالتين تمنح أملاً للخروج من وضع مأزقي لا تلبث إلا قليلاً حتى تعاجلها أجندة حربية تستخدم الآلة العسكرية لإجهاضها وللعودة بالامور إلى أوضاع أكثر تعقيداً مما كانت عليه, من المؤكد أن تكرار السيناريو على هذا النحو المثير لا يمكن أن يكون محض مصادفة, ولكن ينبئ عن حقيقة واضحة أن العقلية التي تمسك بزمام الحكم وتدير الأمور في الخرطوم وجوبا هي ذهنية سياسية واحدة وإن اختلفت شعاراتهما المرفوعة, وأنهما وجهان لعملة واحدة, ولذلك يدور اللجاج على غرار الجدل البيزنطي الشهير أيهما أولاً البيضة ام الدجاجة, وتكر مسبحة الاتهامات المتبادلة عمن يتحمل المسؤولية الاولى في جر الأمور إلى ما هي عليه, والله أعلم إلى أين تقود أو تنتهي.
وثمة حالة فريدة في الساحة السياسية السودانية أفرزتها تسوية نيفاشا التي كان يأمل عرابوها في تأسيس شراكة سياسية بين طرفيها تضمن على الأقل صيغة فضفاضة لبقاء السودان موحداً ينفرد فيه المؤتمر الوطني بحكم الشمال وتنفرد فيه الحركة الشعبية بحكم الجنوب في حالة أقرب لكونفدرالية غير معلنة, ولكنها انتهت عملياً إلى تحالف متناقضات غير مسبوق بين المتطرفين في الجانبين, قادتهما قناعتهما المشتركة باستحالة التعايش في بلد واحد إلى الاتفاق والعمل معاً من أجل تقسيم السودان, بيد أن قناعتهما العدمية لم يخبأ أوارها حتى بعد التقسيم لتصيب إمكانية التعايش المشترك في بلدين متجاورين في مقتل.
حسناً لا بأس أن يرى متطرفون قصيري النظر من الجانبين, لم يملكوا الحكمة ولا الصبر والقدرة على العمل الجاد من أجل معالجة جذور الأزمة الوطنية وتمثلاتها في قضية الجنوب, أن تقسيم البلاد وذهاب كل في حال سبيله هو الحل السهل والممكن لحرب أهلية دامت خمسين عاماً, وقد حدث التقسيم الذي طالما تمنوه وعملوا من أجله, وكان عليهم الاحتفاء بذلك ورفع أنخاب التقدير ل"تحالف المتناقضات" والاكتفاء بهذا "النصر المزموم". ولكن من الذي أفتى بأن الصراع المرير والحرب المدمرة التي أقعدت "السودان الكبير" طوال سني الحكم الوطني يجب أن يستمر, وأن يعاد إنتاج إرث الكراهية في البلد الواحد الذي لم يسع أهله, ولعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن "أفهام" وليس أخلاق الرجال فحسب تضيق, ليورث للعلاقة بين البلدين الجارين الجديدين بدون أية مبررات موضوعية.
هل كان الأمر يحتاج إلى كل هذه الجلبة والمغالطات التي أحاطت بتفاهمات أديس أبابا "الثانية", وقبلها "الأولى", بين الخرطوم وجوبا بشأن خارطة طريق حسن نية لإعادة الأمل من أجل علاقات طبيعية بين البلدين الوليدين الخارجين من رحم "السودان الكبير" تكفل لهما تكاملا اقتصاديا واجتماعيا وامنياً محتموماً تفرضه مقتضيات أسباب البقاء وجدوى القابلية للحياة بعد أن عزت الوحدة السياسية.
لقد أثبت التجربة العملية للطرفين الحاكمين, المؤتمر الوطني والحركة الشعبية, خلال أشهر معدودة من التجربة المريرة بعد تقسيم البلاد, أن قدرة أي منهما لإيذاء الطرف الآخر متوفرة لكليهما, وأن عملية إنهاك الطرف الآخر ليست حكراً لأي منهما, ولذلك لا معنى للسيناريو الانتحاري سوى هلاكهما معاً, ولا بديل إلا تفاهم مسؤول على تطبيع وتكامل تتوفر كل أسبابه الموضوعية.
ولذلك تلف الحيرة الجميع وهم يبحثون عن أية تفسيرات منطقية لما يحدث أمامهم مما يعجز حتى أبرع كتاب الخيال السياسي أن يصوره, ما أن تلوح بارقة أمل لسلام في سماء "السودان الكبير" حتى ينبري من يجهضها. من أجل ماذا ولمصلحة من؟.
هذا هو السؤال الكبير الذي ينتظر إجابة, كيف, ولماذا, تحولت اتفاقية السلام الشامل التي كان من المنتظر لها أن تكون فرصة ذهبية بامتياز, ليس لإنهاء حرب فاقت بسنوات مآسيها التي طالت نصف قرن سنوات حرب البسوس, وتقديم أمل للسلام, بل عول موقعوها التسعة عشر من المفاوضين والوسطاء والشهود الدوليين أن تكون نموذجاً يحتذى به في حل المشاكل والنزعات الأخرى في السودان, كيف تبددت هذه السانحة الفريدة التي انتظرها السودانيون لأكثر من خمسين عاماً لإنهاء حالة التيه الوطني لتتحول إلى حالة من الهرج والمرج والتضليل والاستغلال السياسي غير المسبوق التي لم تؤد إلى تقسيم البلاد فحسب, بل أعادتها القهقهرى وأسلمتها إلى تبعات وتداعيات أكثر تعقيداً وحروب استنزاف جهوية تنذر بالمزيد من الشرذمة, وتعد باستدامة اللاستقرار بدلاً عن السلام الموعود.
كانت أية الاتفاقية وأوج تجلياتها المبادئ المؤسسة للتسوية, والحاكمة لعملية الانتقال وترتيباتها التنفيذية المفترض أن تفضي إلى تحقيق مقتضيات ومقاصد السلام الشامل, لم تكن مشكلة الاتفاقية أبداً تلك التفاصيل التي يزعم أن الشيطان يكمن خلفها, ولكن مشكلتها الحقيقية أتت من أن الصراع بين النخب الحاكمة للسيطرة على السلطة كان هو الشيطان الحقيقي الذي كمن في ثنايا المبادئ الحاكمة والتف عليها لتجيير التسوية لصالح أجندتها الذاتية على حساب المصالح الوطنية. لقد جرى الانقلاب مبكراً ومنذ أول عهد توقيعها, وربما حتى في خضم التفاوض على تفاصيل برتوكولاتها, على أهم مبادئ الاتفاقية وأسس الحلول الجذرية التي تواضعت عليها الأطراف ليس لحل مشكلة الجنوب فحسب, بل لتقديم حلول جذرية لمشكلة الصراع والتنازع العبثي على السلطة والثروة.
كانت أهم مبادئ الاتفاقية وأول بنودها تنص على أن الحفاظ على وحدة السودان وتحقيق المصالح الوطنية الحقيقية لشعبه لا تتحقق إلا على أساس "الإرادة الحرة لشعبه والحكم الديمقراطي, والمساءلة, والمساواة, والاحترام, والعدالة لجميع مواطني السودان", وقد تعهد الطرفان بالعمل سوياً على "إقامة نظام ديمقراطي للحكم يأخذ في الحسبان التنوع الثقافي, والعرقي, والديني, والجنس, واللغة, والمساواة بين الجنسين لدى شعب السودان", وأكدا على "إيجاد حل شامل يعالج التدهور الاقتصادي والاجتماعي في السودان, ويستبدل الحرب ليس بمجرد السلام, بل أيضاً بالعدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تحترم الحقوق الإنسانية والسياسية الأساسية لجميع الشعب السوداني".
كانت تلك ولا تزال هي أهم أهداف ومقاصد تحقيق السلام فهل اجتهد الطرفان حقاً في "التصدي للتحديات عن طريق إيجاد إطار يمكن من خلاله تحقيق هذه الاهداف المشتركة والإعراب عنها بأفضل صورة لمصلحة جميع السودانيين" كما نص على ذلك اتفاق المبادئ, للأسف الشديد لم يحدث من ذلك شيئ مطلقاً لقد تعمدت النخب الحاكمة المتصارعة القفز على تحقيق هذه المقاصد الحقيقية لعملية التحول الديمقراطي الحقيقية وأغرقا الشعب السوداني في أتون صراعاتهما العبثية حول تفاصيل انصرافية وإجراءات تنفيذية في برتوكولات وترتيبات الاتفاقية المفترض أنها جميعاً مصممة لإقامة نظام حكم ديمقراطي مكتمل الأركان يوفر الاساس الحقيقي لحل كل مشاكل السودان المعقدة.
صحيح أن الوثائق الدستورية والقانونية والمؤسسات التي اشترطتها اتفاقية السلام الشامل قد تم اعتمادها وتشكيلها, ولكنها كانت مجرد أجراءات شكلية فاقدة للمعنى والمضمون الحقيقي للتغيير الديمقراطي وتفتقر للإلتزام بروح الاتفاقية, تحتفي بنصوصها وتفرغها من مقاصدها الحقيقية, جرى تمرير كل تلك الاشكال لا لتخدم أغراض تجذير مقومات حكم ديمقراطي راشد تؤسس لنظام سياسي جديد يمتلك القدرة على تجاوز إرث الدولة الوطنية الفاشلة وتفتح أفاقاً أمام تأسيس عقد اجتماعي جديد يحقق تطلعات السودانيين جميعاً بكل تنوع مكوناتهم, يحفظ وحدة البلاد ويضعها على أعتاب مرحلة نهوض وطني جديدة.
كان للاتفاقية في مبادئها المؤسسة للتسوية سعة في حل الأزمة الوطنية بكل أشكالها وتمثلاتها لو أخذت بحقها, وتم تنفيذها بحيث تفضي إلى تحول ديمقراطي حقيقي في طبيعة وبنية وهياكل الدولة في "السودان الكبير" بحيث تستوعب تركيبته الاجتماعية المتعددة لتصبح مصدر إثراء وإغناء للبلاد, لكن تقاصرت طموحات وهمم النخب الحاكمة في الطرفين لتحولها إلى مجرد وسيلة للتشبث بالسلطة واعتبراها جائزة لحصد المكاسب الشخصية, وليس وسيلة لتحقيق المصالح الوطنية, حقاً لم يكمن الشيطان في تفاصيل الاتفاقية, ولكنه كان في العجز أو الانصراف المتعمد عن تحقيق مقاصدها الحقيقية.
وصدقت مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق التي قالت في مذكراتها "الجبروت والجبار" إنه "لا يمكن إلتماس العذر لأخطاء السياسات لأنه يمكن تفسير الدوافع الكامنة ورائها. وعلى من يتولون السلطة أن يتحملوا المسؤولية عن نتائج قراراتهم, حتى إذا كانت نياتهم طيبة, فالبلدان لا تستطيع احتمال القادة الذين يكثرون من ارتكاب الأخطاء, ولا يستطيع العالم ذلك".
نقلا عن صحيفة ايلاف السودانية
28 مارس 2012