حرب الموارد، اللعبة الخطرة

 


 

د. حسن بشير
20 April, 2012

 



للحرب وجوه عده، كما هو حال الأمن. بالتأكيد الحرب تناقض تماما مفهوم الأمن في شكله الاستراتيجي او العسكري او السلامة العامة، ناهيك عن الأمن التنموي. إلا أن الحرب بإهدارها للاستقرار السياسي والاجتماعي تنتهك الأمن الاقتصادي بشكل سافر في جميع أشكاله. الحرب إضافة لإزهاقها للأرواح وتعطيل النشاط الحياتي للإنسان فهي تعطل القدرات الجسدية والذهنية ولا تتيح إي مجالا لنشاط خلاق منتج يمكن أن يوظف لمصلحة الإنسان. فوق ذلك فان الحروب في الدول الفقيرة والمناطق الأفقر لا تعتبر كارثة فحسب بل هي أكثر من ذلك بكثير. لذلك يتولد انطباع بأن الأشخاص الذين يشعلون الحروب ويروجون لها ويعتقدون أنهم يمكن أن يصيبوا مجدا ما عبرها، هم ببساطة لا يدركون عواقب إعمالهم ويجهلون ليس فقط مصالح الشعوب وإنما مصلحتهم الشخصية، فهم أعداء حتى لأنفسهم. بالطبع هناك استثناء فيما يتعلق بتجار الحرب الذين لا يخوضونها مباشرة وإنما يتاجرون بها ويتكسبون عبرها في تجارة تشبه الاتجار بالبشر وفي الأعضاء البشرية وهم بذلك يتفوقون علي تجار المخدرات الذين يعتبرون الحرب شر لابد منه لتدوير تجارتهم واستمرارها.
نتيجة للقناعة بان الحرب شر مطلق لا جدال فيه ولا خير يرجي منها فأنني اتفق مع الآراء بان احتلال منطقة هجليج من قبل الحركة الشعبية الحاكمة في دولة جنوب السودان الفتية، هو عبارة عن حماقة محضة جانبت الصواب والإدراك السليم للأشياء.حتى إذا كانت حكومة الجنوب علي قناعة بان مثل هذا العمل يمكن أن يشكل ورقة ضغط في ملفات مختلف حولها او يشكل مكاسب في حلحلت عقد الملفات العالقة بين البلدين المنشطرين من بلد واحد، فان هذا يعتبر خطأ استراتيجي بحساب مستقبل العلاقات بين الشعبين وما يمكن ان تجره الحرب من خسائر مستقبلية في تقويضها لجملة من المصالح المشتركة والمكاسب المتبادلة، التي لا يمكن أن تتم إلا في إطار سلام مستدام. اللهم إلا إذا كانت الحركة الشعبية تتحرك برؤية انتقامية موجهة نحو (الجلابة) الذين قتلوا الجنوبيين. لكن السؤال هو من الذي قتل؟ هل الشعب السوداني مسئول بشكل جماعي عن الحروب الأهلية التي دارت وما زال بعضها قائم بين أفراد الشعب الواحد؟ هل هي عقلية العقاب الجماعي؟ أما مسألة تجهيل الشعب وإلغاء عقله وسلبه الحق في اختيار حكامه وتجريم وتخوين جزء كبير منه، الصادرة من جانبي الحدود، فهي أفعال خارجة عن عقلية معادية للشعوب وغير عابئة بأهليتها أو قدراتها، وهذا شيء طبيعي يعبر عن فحوى الإناء الذي تخرج منه.
الفكرة القائلة بان مثل هذا الفعل سيجد الاستحسان من الشعب السوداني او بشكل أدق فئاته وجماعاته الطبيعية من الناس العاديين، الذين يعيشون في السودان ويتقلبون بحمد الله (الذي لا يحمد علي مكروه سواه) في جمر المعاناة وشظف العيش والذين يعارضون حكم الإنقاذ أو يتمنون بجد وإخلاص سقوطها، الذين يعتقدون ذلك او يروجون له، إذا كانوا فعلا صادقين في قناعتهم هذه فعليهم أن يراجعوا سلامة عقولهم وعافية إدراكهم. هؤلاء الناس العاديون هم أول من يكتوي بنار الحرب ويدفع ثمنها من قوتهم وصحتهم وصحة اطفالهم وأول من تخصم الحرب من حياتهم ما كان متاحا لها من لقمة عيش وفرصة في التعليم والدواء وشيء من متاع أخر قليل يعيشون به علي هامش الحياة أو يمارسون به وجودهم الكوني فيما سطره الله لهم من اجل دون ان ينعموا بحياة حقيقية تشابه حياة الناس في اي وضع طبيعي مستقر. فوق ذلك فمن الذين قال ان الشعب السوداني غير ملم بوضعه ويحتاج الي (حوافز) خارجية لتغييره إلي الأفضل؟ من الذي قال بان فعل فيه كثير من الإذلال وامتهان الكرامة وتدنيس شرف الوطن يمكن ان يلقي التأييد والمباركة من الشعب السوداني مهما كانت معاناته وعنت عيشه؟ متى حدث ذلك؟ انه لم يحدث ولن يحدث.هذا شعب لا ينتظر من احد أن يعطيه دروس في الوطنية وتبجيل الأوطان، ألا يعلم القاصي والداني، القريب والبعيد انه شعب معلم ".. يفج الدنيا ياما ويطلع من زحاما"؟
لكن ومع كل ما تقدم تظهر قناعة أخري بان وجها من وجوه الحرب الدائرة ألان، ضمن وجوهها المتعددة، هو الخاص بالموارد، إنها حرب موارد في واحدا من أهم معانيها وتجلياتها.ترتبط هذه الحرب كما هو معروف بمفهوم لعنة الموارد ومن أهم ما يتم تناوله فيها الجوانب المتعلقة بالبترول ولعناته الحقيقية التي أصابت العديد من الدول. لا غرابة إذن من أن ملف البترول قد شكل أكثر الملفات سخونة في العلاقة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ولاحقا بين السودان وجنوب السودان. يضاف لملف البترول ملف الحدود في ارتباطه بالمناطق الثلاث (السودانية التي تحولت إلي مناطق متنازع عليها)، هذه المناطق من اغني أراضي السودان بالثروات الطبيعية المتجددة والسوقية الناضبة مثل البترول والمعادن. إضافة إلي أن المناطق الثلاث هي اغني مناطق السودان بالأراضي الصالحة للزراعة والمراعي والمياه.
شكل البترول العنصر الأبرز في المد والجزر وفي معطيات الحرب والسلام، بل لعب دورا محوريا في الوصول الي اتفاقيات السلام الشامل الموقعة في نيفاشا. عندما انفصل الجنوب، انفصل ببتروله الذي شكل أكثر من 70% من بترول السودان الموحد وقد تم الانفصال دون الوصول إلي رؤية، ليس فقط حول قسمة البترول بعد الانفصال، بل أيضا حول شروط التصدير والاستخدام والمعالجة والتكرير الخ. بذلك كان سيف البترول بلعنته مسلطا فوق رؤوس الشعبين. بعد الخلاف حول رسوم العبور عبر الأراضي السودانية إلي المواني السودانية باستخدام المعامل السودانية وجهود الاستخراج والعواقب البيئية الخ ي أخر الأشياء، قام الجنوب بإغلاق أنابيب الصادر في ظاهرة ربما تعد الأولي من نوعها في العالم، إذ مهما وصلت حدة الخلافات إلا أن الوصول إلي اتفاق ممكن قبل نشوب الحرب. لكن الجنوب لم يحتمل ذلك العبء، إضافة للضائقة الاقتصادية التي سببها الانفصال للسودان، فجرت محاولات الوصول إلي تفاهمات مع الشمال. نجحت جهود التفاوض بين وفدي البلدين في الوصول إلي نتائج مهمة كانت كفيلة بنزع فتيل الحرب إلا أن تلك الاتفاقيات التي تم الوصول إليها عبر جهود مضنية وبوساطات خارجية مختلفة المستويات قد تم تفجيرها واحدة بعد الاخري مع تصميم لوبيات الحرب علي المضي قدما فيها إلي أن تم لها ما أرادت.
جانب أخر مهم في حرب الموارد قابل للانفجار في المستقبل هو ذلك المرتبط بالموارد الطبيعية حول المراعي والمياه.هذا الملف مرتبط بالتداخل السكاني بين البلدين بحدود تحظي بكثافة سكانية عالية إضافة إلي أنماط الاقتصاد التقليدي الذي شكل إنتاج البترول أهم اختراق له. في هذا الواقع فان الحرب هنا تعتبر لعبة خطرة، بل شديدة الخطورة نسبة للخسائر البشرية والمادية الجسيمة المباشرة وغير المباشرة سواء أن كانت خسائر في الأرواح أو الممتلكات إضافة لتعطيلها للقدرات الاقتصادية وإهدار الموارد والآثار البيئية الكارثية الناجمة عنها.
لقد نبهنا مرارا وتكرارا مع كثيرين من المهتمين والباحثين في مستقبل العلاقة بين السودان وجنوب السودان بان تفعيل الجانب الاقتصادي يعتبر مسألة حياة او موت لشعبي البلدين كما ان التعاون الاقتصادي البناء بين البلدين يعتبر العاصم من الحرب والضامن لصيانة الموارد المشتركة واستخدامها بشكل منتج ورشيد في التنمية بدلا من تحويلها لعنصر صراع دموي والقتل المتبادل. إلي ألان نقول إن تفعيل العامل الاقتصادي في العلاقة بين البلدين والاستخدام المشترك للموارد واقتسامها ، اقتصاديا يعتبر الضمانة والمنقذ الوحيد للبلدين من الدمار والتفكك. إلا أن مثل هذا العمل لا يمكن أن ينجز، بعد الذي جري، إلا بمساعدة من شركاء خارجيين من أبرزهم الدول المتعاونة مع السودان مثل الصين إضافة لدول الجوار وبالتحديد التي تربط البلدين علاقات تكاملية او معاهدات إقليمية مثل الكوميسا والإيقاد.
يشكل العامل الاقتصادي عنصرا لا يمكن إنكاره أو تجاوزه، في الصراع بين دولتي السودان وهو من العناصر التي لا تجدي الحرب في التعامل معها او معالجة اي خلاف حولها إلا بإخضاع طرف للآخر بشكل تام، إي بالعودة إلي عصر استعماري جديد وهذا بالطبع من الأحلام التي تتطور بشكل حتمي إلي كابوس قاتل للبلدين. من هنا يمكن البحث عن خيوط النزاع والإمساك بها عبر مبادرة سياسية ما تنهي الحرب وتضع الأمور في مسار يمكن التفاوض حوله بعد الخروج من مأزق هجليج. في هذا السياق علي الذين أشعلوا الحرب او دفعوا نحوها أن يعلموا أن الاستمرار في هذه اللعبة الخطرة سيشعل نار لا يمكن السيطرة عليها وستقضي علي الأخضر واليابس وتفتح الباب علي مصراعيه لشياطين التدخل الأجنبي الطامعة في الموارد والتي لا تري حكمة، من اصحابها في تقديرها والاهتمام بها وتوظيفها في خير ما. سينشأ سيناريو للتقسيم جديد واصطناع دويلات اخري في المنطقة تحقق الأطماع الخارجية، عسي أن لا يكون ذلك هو المستقبل القريب . مع كل ذلك فان هذا الشعب سيظل يعمل ويسعي "... بكل همه وعبقريه ... ضد العنصرية ويحلم بالسلام). بانتظار معجزة ما نقول وقفوا الحرب ودق طبولها ولتعد هجليج إلي أهلها ارض سودانية خالصة وان يكون الدرس أن التضحية من اجل السلام أعظم واجل من إي مكسب يمكن تحقيقه بواسطة الحرب، باستثناء الدفاع المشروع عن النفس والكرامة والوطن والحق، وهو في حالة الأوطان حق حصري مملوك للقوات المسلحة دون سواها.
hassan bashier [drhassan851@hotmail.com]

 

آراء