رفع الدعم ، الواقع والأسطورة

 


 

 




رفع الدعم الذي يجري الحديث عنه هو مسرحية من مشهدين، الأول يمثل الواقع، الذي هو الحقيقية التي لا يمكن إنكارها أو التهرب منها، بان رفع أسعار السلع والخدمات الإستراتيجية المعنية بالقرار، سيحول حياة الناس إلي أقصي درجات الجحيم استعارا، فوق المعاناة التي يعيشونها اليوم.
المشهد الثاني، تجسده أسطورة ايجابيات مزعومة يدعي البعض بان هذا الإجراء سيأتي بها، وهي خرافة لا علاقة لها بالواقع سواء أن كانت تصور بأنها المنقذ للاقتصاد من متاهته أو حتى بتوفيرها لمخرج للموازنة العامة من المأزق الذي تعيشه.
إذا كان الدعم الموجه لعدد من السلع والخدمات غير مهم ويجب رفعه، فلماذا وضع أساسا؟ الدعم المقصود هو الموجه الي البنزين، الجازولين ، الخبز والكهرباء، حسب التفسير الحكومي الشائع لمصطلح الدعم الذي لا يتفق مع تفسير الكثيرين. لكن المهم كماً سنوضح لاحقا ، ليس فقط إلغاء (الدعم)، بل أين ستتجه الموارد التي سيتم توفيرها نتيجة للقرار المرتقب؟هل ستقوم الحكومة بتخفيض رسوم التعليم العام والعالي؟ هل ستقوم بتوفير الأدوات الدراسية والتعليمية اللازمة للتلاميذ والطلاب؟ هل ستنخفض تكاليف المواصلات والترحيل وتقل المصاريف الخاصة بالإعاشة ؟هل ستنخفض أسعار الأدوية والعلاج؟هل سيزداد الإنفاق التنموي علي الزراعة والصناعة والبنيات التحتية؟ ما هي مكاسب القطاع الخاص، هل سترتفع قدرته علي الإنتاج والتصدير؟ وهل سيتم الوصول إلي سعر موحد للجنيه السوداني؟
هناك اختلاف حول المصطلح والفهم الخاص (بالدعم) بين الحكومة ومجموعة كبيرة من الناس بما فيهم اقتصاديين  وباحثين في الشأن العام، لذلك لابد لكل منهم أن يحدد فهمه لما يسمي (بالدعم)، قبل الحديث عن أثاره. حسب فهمنا المتواضع المبني علي النظريات الاقتصادية المفسرة للسياسات الاقتصادية ومنها (نظرية السلع والخدمات الاجتماعية)، فان تخصيص السلع والخدمات العامة يخضع لشيئين: الأول الإنتاج العام والثاني التوفير العام. فيما يتعلق بالأول، فمن الممكن ان تقوم الدولة بإنتاج بعض السلع والخدمات العامة او الخاصة وبيعها بالأسعار التي تحددها وفي هذه الحالة تعمل الدولة بآلية للتسعير تراعي المصلحة العامة او تحقيق أرباح وفقا لآلية العرض والطلب. في السودان تقوم الدولة بإنتاج البترول (حسب حصتها من جملة الاستثمارات في هذا القطاع الذي يشتمل علي مكون أجنبي مهم) والكهرباء، كما تنتج بعض المصانع الحكومية كميات من السكر علي سبيل المثال. الإنتاج الخاص بالدولة من هذه السلع يتم تمويله عبر الموازنة العامة، اي من المال العام وبالتالي فان طرحه بأسعار اقل من أسعار السوق لا يمكن أن يسمي دعم، إلا في حالة أن السلعة هي عبارة عن سلعة خاصة لا يلحق استبعاد فئات واسعة من جمهور المستهلكين منها إي ضرر اجتماعي. هذه المسألة تنطبق علي سلعة السكر ولا يمكن أن تنطبق علي سلعة البترول وخدمة والكهرباء (التي تعتبر حقا وليست سلعة عادية) نسبة لان الأخيرتين تؤثران بشكل كبير علي مستويات الأسعار للسلع والخدمات الضرورية كما تؤثران علي معدلات التضخم وتكاليف الإنتاج وبالتالي فان رفع أسعارهما إلي مستويات كبيرة سيؤدي إلي خسائر اقتصادية واجتماعية لا يمكن حساب تكلفتها، خاصة في ظروف الأزمات الاقتصادية الحادة مثل التي يمر بها السودان.
سيؤدي إي رفع مصطنع في أسعار مثل هذه السلع ةالخدمات إلي تقليص القوة الشرائية للدخول وفي نفس الوقت يقلل من مصادر دخل عناصر الإنتاج الاسمية والحقيقية، إما بسبب نقص فرص العمل والاستثمار أو لتقلص مصادر كسب الدخل الشخصي، إضافة لانخفاض القوة الشرائية للجنيه السوداني. أما إذا تحدثنا عن سلعة السكر فلا يمكن لشخص ما أن يصف أسعارها في السودان بالمدعومة إلا افتراء وكذبا، فهذه السلعة مرتفعة السعر بالمستوي الإقليمي والدولي ومن الأدلة علي ذلك أن سكر كنانة في إثيوبيا (القريبة) يباع بسعر اقل من الذي يباع به في السودان، أما في مصر فلم تقترب أسعار السكر وكذلك تعرفة الكهرباء والمياه وأسعار الغاز والوقود من مثيلتها السودانية رغم كل ما يشهده المسرح المصري من تحولات.
الجانب الثاني المتعلق بالتوفير العام يعني أن القطاع الخاص هو الذي يقوم بالإنتاج وان الدولة تشتري السلعة او الخدمة من مواردها (التي هي موارد عامة يتم تخصيصها عبر الموازنة العامة للدولة) ومن ثم تقوم ببيعها للمواطنين بأسعار مخفضة (إي مدعومة)، وهذه الحالة تنطبق بكل صدق وموضوعية علي دقيق القمح المستخدم في صناعة الخبز. هذه السلعة تقوم الحكومة بدعم اسعارها من المطاحن الخاصة او تستوردها من الخارج وتقوم بتوفيرها بسعر اقل من سعر السوق في سبيل منع  السعر من الارتفاع فوق مستوي معين. في هذه الحالة يمكن أن نتفق مع الحكومة بان هناك دعم لأسعار رغيف الخبز، بالرغم من أن سعره مرتفع نسبيا ووزنه منخفض (معياريا)، قياسا علي المستويات العالمية وبعض دول الجوار وليس جميعها. آما إذا تحدثنا عن بدائل الخبز مثل الذرة (التي تصنع منها العصائد والكسرة) فهي غالبا ما تروح ضحية لتذبذب الأسعار.
لكن إذا اعتبرنا ان الصحة والتعليم من أكثر الخدمات العامة التي تحظي بالدعم علي النطاق العالمي فهل يمكن ان نقول أنهما مدعومتان في السودان؟ مرة أخري لا نتحدث عن المستشفيات والمدارس الحكومية الممولة من الخزينة العامة، والتي تنعدم فيها الكثير من المتطلبات والمقومات، وإنما عن أشياء أخري مثل الأدوية ونوعية الخدمات الصحية الضرورية التي لا تتوفر بالمستشفيات الحكومية مثل إجراء بعض التحاليل والفحوصات وأنواع من التشخيص الطبي، إضافة للأدوات المدرسية والمستلزمات الدراسية والتعليمية بالتعليم العام وتلك الخاصة بالتعليم العالي.الحقيقة ان تكاليف العلاج والتعليم في السودان مرتفعة جدا في بلد يعاني من ارتفاع الأمية وتفشي الأمراض،هذا هو الواقع، مما يجعل الحديث عن الدعم أسطورة.
هناك معلومة مهمة أخري ضرورية لتحديد مفهوم الدعم هي انه ولكي يكون هناك دعم، فلابد من فرض ضرائب. يعني ذلك ابتدءا ان الدعم القائم الممول من الخزينة العامة يتم علي أساس ما توفره الإيرادات الضريبية بشكل أساسي، إضافة لكمية لا حصر  لها من رسوم الخدمات علي مختلف مستويات الحكم، ماذا يحدث إذن في حالة رفع الدعم بشأن إيرادات  الضرائب والرسوم التي سيتم توفيرها؟ إلي أين ستذهب، وكيف سيتم توظيفها؟ ما هو المردود الاقتصادي والاجتماعي الناتج عنها؟ قبل ان تتوفر إجابة علي هذا السؤال ومن غير تفسير واضح للجدوى الاقتصادية والاجتماعية للإجراء المتوقع، ومن غير نتائج ايجابية خاصة علي المستوي الاجتماعي، فان ما يسمي برفع الدعم الذي تنوي الحكومة  القيام به سيكون جريمة بكل معني الكلمة.ما يسمي برفع الدعم هو عبارة عن زيادة في الضرائب غير المباشرة المفروضة علي السلع والخدمات المعنية بالقرار، يعني ذلك وبشكل لا لبس فيه أن هذا القرار سيؤثر علي حوافز الإنتاج والعمل وستكون لديه أثارا اقتصادية مضرة علي العاملين المهمين، مع كل ما يشتملان عليه من دلالات اقتصادية. هل تم حساب تلك الأضرار؟
من المعروف أيضا أن الحكومة تمر بأزمة اقتصادية حادة بسبب انفصال الجنوب والحروب المتولدة نتيجة له وبهذا فمن الأفضل للحكومة ان تعترف صراحة بهذا الوضع وبسوء السياسات والتقدير وتدبير الأمور التي أدت له وان تعترف بان ما ستقوم به هو زيادة للضرائب  والرسوم  المفروضة علي  المواطنين وأنهم سوف يتحملون مزيد من الضغط والمعاناة، بدلا عن المزايدة بدعم غير موجود  يراد رفعه. علي الحكومة أن تعترف بأنها ستلجأ إلي أسوأ الخيارات المتاحة لها بعد ان سدت أمامها مصادر الدخل وجفت قنوات الاستثمار وان ما لم يعد مقبولا في الظروف الطبيعية من الممكن ان يكون مجازا في وقت الأزمات. لكن ان يصاحب ذلك الاعتراف باللجوء الي حل قاطع  هو إيجاد توافق عام والسعي نحو تحقيق المطالب حول حكومة قومية انتقالية تؤدي الي انتخابات عامة بعد انجاز ما سيتم الاتفاق عليه مع القوي السياسية والاجتماعية الفاعلة والمؤثرة من مستحقات خلال فترة زمنية محددة قبل إجراء الانتخابات.
إذا لم توافق الحكومة علي ذلك - وهذا هو المرجح الذي يتفق مع الإدراك السليم- فعليها (الحكومة)، ان تجري استفتاء نزيه حول شعبية القرار الذي يعرف برفع الدعم لتدرك مدي قبول الشعب لهذا القرار، الذي أصبح اتخاذه مسألة وقت فقط، رغم الممانعة الحالية للمجلس الوطني. في كل الأحوال فان ما ستخرج به وزارة المالية أو إي هيئة حكومية أخري في تبريرها للقرار المرتقب دون الاعتراف صراحة بالأسباب التي أدت له ودون الإشارة للأضرار المتوقعة منه ، إي تبرير بجدوى اقتصادية او اجتماعية مزعومة لمثل هذا القرار، ستكون من قبيل الخرافات والأساطير، وهذا نهج أصبح من الأشياء المعهودة في السودان. إذا لم يكن الأمر كذلك فاسألوا (البرلمان) الإيراني الذي رفض اقتراح الحكومة برفع الدعم (الكبير) عن السلع والخدمات الرئيسية في البلاد- بعد العقوبات الاقتصادية - بالرغم من أن الوضع الإيراني يحتمل مثل ذلك العبء بشكل أفضل بكثير مقارنة بالسودان، رفض الاقتراح ولم يصفق له، ذلك تحسبا للأضرار ومآلات الأمور. 
hassan bashier [drhassan851@hotmail.com]

 

آراء