فتش عن “الأيدي الخفية” في الأزمة “غير الاقتصادية”
خالد التيجاني النور
7 June, 2012
7 June, 2012
khalidtigani@gmail.com
"لن يتطور العالم متجاوزاً أزمته الحالية مستخدماً نمط التفكير ذاته الذي تسبب في خلق الأزمة" بتصرف من عبارة شهيرة لألبرت إنشتاين العالم الأكثر تأثيراً في القرن العشرين.
"إذا فقدت طريقك عد إلى نقطة البداية" مثل ماليزي.
هل حقاً لا توجد بدائل لحل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها البلاد غير وصفة الحزب الحاكم لتحميل المواطن دفع ثمن فشله في إدارة الاقتصاد الوطني؟. نُقل عن صديقنا وابن دفعتنا، وأخونا في الله عندما كانت أحلامنا تعانق السماء، وللتعبير معنى قبل ثلاثة عقود بجامعة الخرطوم، الأستاذ علي محمود وزير المالية والاقتصاد الوطني أنه تحدى من يأتي ببدائل، ومثل ذلك قاله آخرون من قادة المؤتمر الوطني، لما تعتزم الحكومة الإقدام عليه من إجراءات قاسية تضع المزيد من المعاناة على مواطنين أضناهم ضنك العيش.
حسنا اتفق مع السيد الوزير إن كان لا يتحدث عن بدائل اقتصادية، لأنه يعلم جيداً كما يعلم العامة أن الاقتصاد ليس سوى علم بدائل وفن في إحسان المفاضلة بينها وحسن إدارة، وأن أزمة الاقتصاد السوداني ليست أزمة موارد، ولكن سببها هذا الفشل الذريع في إدارة غير اقتصادية وباعتبارات حسابات سياسية ذاتية لموارد وفرص لا حدود لها لم تتوفر مثلها إلا لبلدان قليلة من دول العالم، بل وشهد العالم دولاً ليس لها من الموارد حظوظ البتة ومع ذلك نجحت في أن تتبوأ مكانة رفيعة في مقدمة الدول في قدراتها الاقتصادية، ببساطة لأنها حظيت بقادة ذوي بصيرة ورؤية وإرادة وقدرة على القيادة والفعل المنتج وخلق الفرص واصطناعها، وليست من نمط تلك القيادات التي تفننت في تبديد قدرات وموارد لا نظير لها.
لا ألوم صديقي الوزير علي محمود في ما ذهب إليه، لأن حظه العاثر لم ينصفه وقد تولى منصبه وخزائن البلاد لم تعد عامرة بعائدات النفط التي ظلت تخفي على مدى أكثر من عقد عورات تدهور الاقتصاد السوداني وجعلت من سبقوه في عصر النفط القصير يبدون وكأنهم عباقرة.
والوزير صادق في تحديه لأن المسألة لا تتعلق ببدائل اقتصادية، بل بعدم وجود بدائل سياسية ابتداءً في عقلية الحكم غير الخيار صفر، بمعنى أن الطبقة الحاكمة ليست مستعدة لتحمل أعباء أية إصلاحات اقتصادية حقيقية وجذرية تأتي على حساب أمتيازاتها ومكاسبها التي كرستها على مدى أكثر من عقدين، كما أنها ليست مستعدة لدفع ثمن إخفاقها في إدارة الاقتصاد الوطني حتى لغرض الحفاظ على احتكارها للسلطة والثروة، والبديل في هذه الحالة في رأي دهاقنة الحكم أن من يجب عليه دفع الثمن هو الشعب لأنه استقر في حساباتهم أنه سيواصل الصمت كما ظل يفعل طوال ثلاثة وعشرين عاماً فلماذا لا يفعلها هذه المرة؟.
وقد بلغ من قلة حس الحزب الحاكم بهموم شعبه ومعاناته أن خطابه السياسي هذه الأيام بدلاً من التركيز على محاولة تسويق مبررات موضوعية للأزمة الاقتصادية وسبل الخروج منها وضرورة مشاركة الجميع في تحمل أعبائها، ومحاولة تخفيف الضغوط النفسية على الأقل على المواطنين ومدهم بشئ من الأمل، انصرف خطاب قادة الحزب إلى إظهار هم واحد لا غير يثير مخاوفه هو كيفية ضمان ألا تؤدي تداعيات إجراءاته القاسية إلى سقوطه من السلطة، وليس من شواغله شئ من الجزع على مصير غمار الناس، ولا تحزبه غير الخشية من «استخدام» المعارضة للأزمة لتحريك الشارع، وكأن الشعب مجرد قطعة شطرنج باردة لا قيمة لها ولا حياة لها لا تحركها إلا أهواء السياسيين وصراعاتهم البائسة على السلطة، وعدم تورعهم عن سلوك ممن يقدم على حلب «بقرة تحتضر".
والحقيقة أن الأزمة الاقتصادية الخانقة ليست وليدة اليوم، وهي في الواقع ليست أزمة اقتصادية بالمعنى الفني ولكنها نتاج لأزمة سياسية أعمق تتعلق بإدارة الحكم في عهد الحكم الحالي منذ وصوله إلى السلطة قفزاً بإنقلاب عسكري بلا رصيد من وعي عميق ومعرفة دقيقة وبرامج مدروسة لإدارة شؤون الحكم في بلد لا تنقصه التعقيدات مثل السودان، كانت مغامرة ومقامرة بامتياز بمستقبل البلاد والحركة الإسلامية نفسها صاحبة التدبير، وكان الظن أن مجرد حسن النية وبضعة شعارات هلامية تكفي.
في سنوات الحكم الأولى، في العام 1993 تحديداً، انتبهت ثلة من شباب الإسلاميين إلى انحراف المسيرة وأعربوا عن خشية مبكرة نوعاً ما من إنزلاق الأمور في طريق اللاعودة، وعبروا عن ذلك في أول مذكرة احتجاجية، وفي لقاء جمعهم مع زعيم الحركة وعراب النظام الشيخ حسن الترابي أقر بأن الحركة قفزت إلى السلطة مستسهلة الحكم بلا إعداد كاف وبرامج واضحة للحكم، وضرب لهم مثلاً أنه كلف طائفة ممن ظن فيهم القدرة على اقتراح برنامج اقتصادي بمرجعية إسلامية، وعلق بسخريته المعروفة «لقد جاءوا لي ببرنامج لا فيه دين ولا فيه اقتصاد». وكانت تلك هي بداية الطامة المؤسسة لإدارة الحكم بالتجريب «خبط لزق» وأسلوب «تعلم الحلاقة على رؤوس اليتامي»، بلا «هدى ولا كتاب منير.
وجاء إطلاق «سياسة التحرير الاقتصادي» معزولة منتزعة من سياقها الموضوعي وبلا مرجعية معلومة، لقد كانت ضرباً من التعسف كيف يحدث تحرير اقتصادي في غياب حرية سياسية توفر مؤسسات حكم راشد ديمقراطية تراقب وتحاسب، ثم إن الليبرالية الاقتصادية هي منتوج أصيل لليبرالية السياسية، وأين هي مرجعية الاقتصاد الإسلامي المدعاة من ذلك؟. في الواقع أن ما تم تطبيقه من «تحرير اقتصادي» لم يكن سوى استلاف ملتبس، اللهم أعلم إن كان قصداً أم مصادفة، لنهج مدرسة شيكاغو بقيادة البروفسور الراحل ميلتون فريدمان الموغلة في الرأسمالية المتوحشة المتحللة من أية قيود، التي عجزت أن تجد لها أرضية حتى في الولايات المتحدة أم الرأسمالية، ويستهجنها من له أدنى اعتبار للمسؤولية الاجتماعية للحكومة تجاه شعبها، لأن فريدمان يعتبر ذلك ضرباً من الاشتراكية التي لا تليق ببلد ليبرالي. ومفهوم فريدمان للدولة أن مهمتها الوحيدة «هي حماية حريتنا من أعداء الخارج والأعداء من بني جلدتنا، حفظ النظام والقانون وفرض قانون السوق»، بمعنى أن الحكومة مهمتها «توفير الشرطة والجنود فقط وترك كل شئ آخر لحرية السوق".
في كتابها «مذهب الصدمة» تقول ناوومي كلين إن فريدمان وشيعته ذات البأس ظلوا على مدار ثلاثة عقود يروجون لهذه الاستراتيجية يتصيدون الأزمات الكبرى، يبيعون حطام الدول المأزومة إلى لاعبي القطاع الخاص ذوي الحظوة، وفي حين يظل المواطنون يلعقون جراحهم جراء الصدمة، يمرر الفريدمانيون «إصلاحاتهم» بسرعة لتصبح واقعاً دائماً.
وفي واحد من آخر مقالاته قبل وفاته، كشف فريدمان عن العقار السري لجوهر تكتيكات رأسماليته المعاصرة بقوله « إن الأزمات فقط، سواء كانت حقيقية أو مفتعلة، هي التي تحدث التغيير الحقيقي. عندما تحدث الأزمة الأفعال التي تتخذ تعتمد على الأفكار الدائرة في المحيط، أعتقد تلك هي مهمتنا الأساسية أن نطور بدائل للسياسات القائمة، وأن نحافظ عليها حية ومتاحة حتى يصبح المستحيل حدوثه لدواع سياسية، هو الأمر نفسه الذي لا يمكن تفاديه سياسياً». وتعلق المؤلفة قائلة إن الناس يخزنون المعلبات والماء تحسباً للكوارث الكبرى، ولكن فريدمان يخزن أفكار السوق الحر لأوقات الأزمات. وقد جرب فريدمان خلطته السحرية بداية من شيلي عندما كان مستشاراً للجنرال أوغستو بينشويه عقب انقلابه العسكري الدموي أوساط السبعينيات من القرن الماضي، وحتى كارثة فيضانات نيوأورليانز الأمريكية التي اعتبرها عضو الكونغرس البارز ريتشارد بيكر من أتباع فريدمان هبة سماوية قائلاً»أخيراً نظفنا المدينة من المساكن العامة والمؤسسات العامة، لم نستطع فعل ذلك، لكن الله فعلها»، لقد تحولت محنة المواطنون البؤساء إلى منحة للأثرياء.
ما حدث للاقتصاد السوداني في تسعينيات القرن الماضي وما بعده ليس بعيداً عن تعاليم مدرسة شيكاغو وإن اختلفت بعض التفاصيل، فالنظام الجديد الساعي لتمكين أركانه بكل قوة استخدم كل تلك الأحابيل من أسرار تركيبة عقار فريدمان في لتنظيف الملعب الاقتصادي من الرأسمالية الوطنية المعروفة ومن اللاعبين الموجودين فيه أصلاً لإفساح المجال لتمكين طبقة أثرياء جدد من ذوي الحظوة من لاعبي الحكم الجديد من الإسلاميين من ذوي الدراية بقواعد اللعبة الجديدة، ومن المستعدين لخوض غمارها والانخراط فيها بصمت دون فلق دماغ أصحاب الشأن بموقع «المشروع الإسلامي وقيمه» في هذه اللعبة الخطرة التي داست تحت أقدامها كل مرتكزات المشروعية الاخلاقية للحركة الإسلامية، والتي بدت مستعدة أيضاً لا ستيعاب بعض اللاعبين القدامي وإفساح مجال لهم شرط أن يكونوا جزءًا من اللعبة لا خارجها.
ومشكلة الاقتصاد السوداني، كما هي كل مشاكل البلاد العويصة الاخرى التي اختلقت اختلاقاً وأدت إلى تمزيق البلاد وشرذمتها وإغراقها في أزمات لم تكن محتومة ولا قدراً مقدوراً، أن الحكومة السودانية أصبحت تدار في عهد الحكم الحالي من خارج مؤسسات الدولة، نعم توجد كل المؤسسات السياسية والدستورية والتنفيذية المعروفة بالاسم، ولكنها ليست سوى ظل باهت لأطراف شبحية خفية تدير شؤون الحكم من وراء ستار دون أن تخضع لمحاسبة أو مساءلة أو حتى مراجعة لما تفعل، وبقيت المؤسسات الرسمية مجرد هياكل لتمرير قرارات «الأيدي الخفية» التي لا يعرف لها أحد صرفاً ولا عدلاً.
ظلت وزارة المالية والاقتصاد الوطني، كما يشير اسمها الرسمي، وتقول صلاحياتها إنها صاحبة الولاية على المال العام، والمرجعية في إدارة الاقتصاد الوطني، لا تملك ولاية ولا تحكم شيئاً وليس لها سوى رسمها شكلاً، إذ تحولت إلى مجرد صندوق خزانة لصرف جل الأموال العامة التي تفلح في الوصول إليها على مصارف ذات إتجاه واحد، فالمال العام تفرق دمه بين الوزارات ذات الشوكة، وبين المؤسسات والشركات الحكومية وشبه الحكومية، و»الخاصحكومية». تشكو وزارة المالية لطوب الأرض ضيق ذات اليد وهي المأمومنة على مال عام لا تعرف حتى كم يبلغ، بينما ترفل في النعيم وزارات ومؤسسات حكومية أخرى تجبي الاموال كما تشاء دون ضابط ولا رابط، ولا أحد يعرف أين تصرف تلك الأموال.
ولم تعد الوزارة تذكر حتى أنها مسؤولة عن إدارة الاقتصاد الوطني، الذي تحول بقدرة الأيدي الخفية إلى اقتصاد خواص على الطريقة الفريدمانية، اغتنى الأفراد وظهرت طبقة الأثرياء الجدد، ولتولد ظاهرة الموظفين الأكثر ثراءً من رجال الأعمال، بينما تشكو الحكومة الإفلاس ويعاني الشعب من الإملاق. وجاءت عشرات المليارات من الدولارات من أموال النفط وذهبت لا يدري أحد إلى أين ذهبت. وكل المشروعات التنموية الكبرى التي تسنى لها أن ترى النور لم تكن من خير الأموال النفطية، وليست سوى أعباء على المواطن والأجيال القادمة لأنها شيدت بقروض جديدة قفزت بحجم الديون السودانية إلى ما يفوق الخمسة وأربعين مليار دولار.
وما الأزمة الحالية إلا نتاج طبيعي لإفساد نظام إدارة الدولة، ولتجاوز المعايير والتقاليد المركوزة في شأن إدارة الحكم، وما الفساد المؤسسي المستفحل والمحمي سوى مجرد عرض للمرض الأخطر، افتقار الدولة للنظم المرعية المحققة للشفافية والمساءلة والمحاسبة، ولذلك تحولت تعهدات قيادات الحكم بمحاربة الفساد إلى مجرد تصريحات غير قابلة للتطبيق في نظام بطبيعته لا يتحمل إصلاحا حقيقيا دون أن يؤدي بأسس بنائه وبقائه، لأنه من يحاسب من، وعلى ماذا، في ظل استحالة الوصول إلى مكامن الفساد الحقيقية.
ليس صحيحاً أن وزارة المالية أو البنك المركزي، أو الفريق الاقتصادي للحزب الحاكم لا يعرف ما هي البدائل الحقيقية لمعالجة الأوضاع الاقتصادية المأزقية الحالية، يدركون بالطبع ما المطلوب ومن بينهم اقتصاديون مرموقون يعرفون أن البدائل الاقتصادية أكثر من أن تحصى، ولكن من قال إن الأزمة هي اقتصادية بالأساس، ومتى كان يدار الاقتصاد أصلاً بمعايير واعتبارات اقتصادية؟، ومنذ متى كانوا هم من يديرون الاقتصاد حقاً؟. هي بالقطع ليست كذلك، بل هي في جوهرها أزمة سياسية بامتياز، وأزمة حكم أرهقته مطاردة الأزمات تجلت في إفلاس خزائن الدولة من أموال قادرة على مقابلة احتياجات غول «النظام خارج النظام» الذي لا يشبع، ولذلك يحاول أن يجعل الشعب المرهق أصلاً من يدفع من جيوبه الخاوية لملء خزائنها.
عبثاً يرهق أنفسهم أؤلئك الذين يظنون أن الحكومة تنقصها البدائل لمعالجة الأوضاع الآخذة في التدهور بشدة، فيجتهدون في تقديم المقترحات والحلول بلا طائل، يعرف قادة الحكم جيداً ما هو المطلوب لحل الأزمة، ولكن من يجرؤ على الدخول في عش الدبابير، ومن يستطيع تعليق الجرس على رقبة القطط السمان في طبقة الأثرياء الجدد؟، ببساطة، من يستطيع أن يأخذ السلطة من الأيدي الخفية ويعيد الحكم والقرار إلى الشعب، وإلى دولاب الدولة؟.
نقلاً عن صحيفة "إيلاف" السودانية
الأربعاء 6 يوينو 2012