القطاع الخاص السوداني: لمحة تاريخية (1) .بقلم: روبرت أل. تجنور .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 



القطاع الخاص السوداني: لمحة تاريخية (1)

The Sudanese Private Sector: an Historical Overview

بقلم: روبرت أل. تجنور  Robert L. Tignor

ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

تقديم: نشر البروفسور الأمريكي روبرت أل. تجنور الأستاذ (الفخري) للتاريخ الحديث والمعاصر في جامعة برينستون في نيو جيرسي هذا العرض لتاريخ القطاع الخاص في السودان في مقال مطول (34 صفحة) نشر عام 1987م في "مجلة دراسات  أفريقيا الحديثة". نال الكاتب درجة الدكتوراه من جامعة ييل عام 1960م، وله اهتمامات بحثية بأفريقيا وتاريخها (خاصة في نيجيريا وكينيا ومصر) وكان آخر كتاب صدر له عن "تاريخ مصر". رغم أن المقال الحالي كان قد نشر منذ أكثر من ربع قرن، إلا أن أهميته التاريخية في نظري المتواضع لا تزال قائمة. نترجم هنا بإيجاز شديد بعض أهم النقاط التي وردت بالمقال. الشكر موصول لدكتور عبد الله جلاب لجلبه هذا المقال لي. المترجم

تضخمت في عقد السبعينات (من القرن الماضي) مداخيل العالم العربي المالية بفعل الفوائض التي تأتت بفعل زيادة أسعار النفط، وكان ذلك العالم يؤمل أن يغدو السودان "سلة غذاء" محتملة له. كان قادة العرب يدركون أن للسودان أراض شاسعة قابلة للزراعة والرعي، وأن بمقدوره توفير نحو 40% من إحتياجات سائر العالم العربي. كانوا يؤمنون أيضا بأن تنمية السودان تعني في المحصلة النهائية الاكتفاء الذاتي من الغذاء في المنطقة. وبهذا التصور توقع العالم العربي أن يضطلع القطاع الخاص السوداني بدوره في التحول الاقتصادي  بالعمل معا مع الممولين من دول الخليج الغنية بالنفط ، ومع مالكي التكنلوجيا من الدول الغربية.
باءت في سبعينات القرن الماضي كل المحاولات في السودان لخلق قطاع خاص نشط، وكان لنظام نميري البالغ الجشع  اليد الطولى في ذلك الفشل. بيد إن اللوم يمتد أيضا للمخططين الاقتصاديين داخل وخارج البلاد، والذين كانت تعوزهم الدراية والخبرة بالقطاع الخاص السوداني، والذين لم يشركوا – إما قصدا أو سهوا- رجال ذلك القطاع في في خطط التنمية. أجهطت كل المحاولات (الرأسمالية) العجولة للتنمية في السودان في سبعينات القرن الماضي  لغياب قطاع خاص قوي ونشط في مجالات متنوعة ومتعددة في خلال كل السنوات الخمسة وسبعين عاما الأولى من القرن العشرين. إن لرجال الأعمال السودانيين نقاط قوة عديدة لم يدركها أو يحفل بها الكثيرون، وأخذت كأمر مسلم به، بيد أن لهم كذلك نقاط ضعف عديدة بائنة أعاقتهم عن المشاركة بفعالية في عملية التنمية. إن للقطاع الخاص السوداني مزايا متناقضة، فهو من جهة واحد من أقوى القطاعات الخاصة في العالم العربي، وصاحب خبرة ثرة وتاريخ طويل؛ ولكنه من جهة أخرى صاحب خبرات محدودة في مجالات بعينها، ولم يجروء على طرق آفاق جديدة في مجالات التنمية والاستثمار.
غدت نقاط قوة وضعف القطاع الخاص السوداني كأوضح ما تكون في منتصف القرن العشرين. من خلال عملية دمج/ تكامل السودان مع الإقتصاد العالمي، بوصفه مصدرا لسلع زراعية هامة كالقطن والصمغ العربي، وكمستورد للمصنوعات الأوربية، استطاع رجال الأعمال السودانيون الاستفادة من عائدات هذا التبادل التجاري لإقامة شركات (عائلية) خاصة. اقتحم قليل من هذه الشركات، بدءا من 1945م، ميادين الصناعة، وقاموا بالدخول في "مغامرات" تجارية ومالية لهذا الغرض. بيد أن طبيعة تلك الشركات العائلية الصغيرة نسبيا، وجنوحها للسرية (التقليدية) في العمل، حالت بينها وبين استقطاب وحشد رؤوس أموال ضخمة. لهذا السبب –ولغيره-  لم يستطع القطاع الخاص السوداني القيام بدور كبير في إحداث تغييرات اقتصادية كبيرة ومؤثرة، وهو الأمر الذي كان تطالب به الحركات الوطنية السودانية والخبراء الأجانب على حد سواء. ما كان ينبغي أن يبقى القطاع الخاص منزوياعلى الهامش، وأن لا يشاور رجاله، وأن لا تتجاهل نصائحهم في ما جرى من محاولات التنمية الفوضوية التي حدثت في سبعينات القرن الماضي، فرجال القطاع الخاص هم من أدرى الناس بالإقتصاد المحلي، وبمكامن قوته، ونقط ضعفه.
لقد ظلت التجارة الداخلية والتبادل التجاري الخارجي من أهم أعمدة تاريخ الاقتصاد السوداني، وظل سكان هذا البلد، نظرا لشساعة أراضيه، وقلة عدد سكانه، يعتمدون – بصورة أساسية-  على التبادل السريع لمنتجاتهم. فقد كان السكان المستقرون على ضفتي النيل في الجزء الشمالي من البلاد (بين الخرطوم ودنقلا) يعتمدون في عيشهم بصورة كاملة على الزراعة، وعلى هطول الأمطار، بينما كان بقية السكان يعتمدون في عيشهم على التبادل التجاري.
مثلت التجارة مع مصر أيضا جانبا هاما في الحياة الاقتصادية السودانية. فمع بداية القرن الثامن عشر كانت هنالك ثلاثة طرق للتجارة تربط السودان بمصر- الأول والثاني في الجنوب، ويربطان السودان بصعيد مصر، والثالث عبر الصحراء الغربية وواحة سيوة- وتنتهي كلها في أسيوط. كانت القوافل السودانية (والتي كانت تتكون من نحو 5000 مسافر، وعدد مماثل من الإبل) تحمل لمصر العبيد والعاج والريش والذهب والخضروات والأملاح، وتعود من مصر وهي محملة بالأقمشة والمعادن والمعدات والأجهزة والبارود. عمل بهذا التبادل التجاري في السودان أعداد كبيرة من الرحل وأشباه الرحل، فقد كان يؤجرون إبلهم لملاك القوافل، ويجمعون ويبيعون المنتجات الطبيعية مثل الصمغ العربي والعاج وريش النعام، ويعملون كمرشدين للقوافل. يجب أن نتذكر دوما مثل هذه التجارب الاقتصادية. لا يكاد السوداني المعاصر يحفل بكون أن أعضاء مبرزين في برجوازي البلاد يرجعون أصلوهم إلى تلك الحقبة، ويأخذون ذلك كأمر مسلم به. لا ريب أن مثل تلك النشاطات التجارية القديمة كانت قد غرست في النفوس روحا تعشق التجارة وتحرص عليها. ازدادت العلاقات التجارية مع الخارج، خاصة مع مصر، في القرن التاسع عشر، وكان من دوافع غزو محمد علي باشا (ذلك المغامر العسكري والمجدد) للسودان في 1820-1821م هي الحصول على العبيد والذهب والمعادن الأخرى. جند ذلك الباشا الرجال السودانيين للعمل في جيشه، وقصر عملهم على الأراضي السودانية، وأجرى بعض التجارب (التي فشلت لاحقا) لإدخال محاصيل زراعية جديدة مثلا البن، وإنتاج الحرير، بينما أصابت محاولته لإنتاج صبغة النيلة (تستخدم في صناعة أثواب الزراق، والتي كانت تلبس على نحو واسع في السودان. المترجم)، وزراعة قصب السكر، وزيادة الإنتاج الحيواني وتصديرها لمصر بعض النجاح.
أتاح عهد محمد على باشا للسودان مجالات تجارية  جديدة، بيد أن القطاع الخاص لم يستفد منها تماما، إذ أن خديوي مصر كان قد احتكر – باسم الدولة- كل التجارة بين البلدين، ودفعته الرغبة في زيادة إيرادات بلاده في أن يجعل الدولة تتولى (وبصورة منفردة) المتاجرة (شراء وبيعا) في بضائع ومنتجات مصر والسودان معا. تولت الدولة المصرية احتكار تجارة الصمغ العربي في عام 1825م، وتلا ذلك احتكار تجارة ريش النعام والعاج وصبغة النيلة. بيد أن كل ذلك تغير في أربعينات القرن التاسع عشر حين انفتحت مصر والسودان لسيل من التجار الأوربيين والشركات العالمية. رغم أن السودان كان بالتأكيد أقل شأنا وثروة (وتحضرا) من مصر، وأكثر بعدا عن أوربا، إلا أن كثير من التجار اليونانيين (الأغاريق) والإيطاليين، ومن جنسيات أخرى تدفقوا عليه للعمل في التجارة في مختلف الميادين.
توقف – وبصورة شبه كاملة- دخول واندماج السودان في الاقتصاد العالمي  في القرن التاسع عشر بصورة دراماتيكية بقيام الثورة المهدية بين عامي 1881 – 1898م. رغما عن تبيان جذور تلك الثورة الأيديولوجية والقبلية فإنها هدفت لإزالة حكم الدولة المصرية للسودان، ولوقف كل تعامل تجاري مع العالم الخارجي. كان البقارة الرحل (وهم من أشد المناصرين للمهدي وثورته) يأملون في التخلص من الحكم التركي الذي يكرهونه، ويبغضون ضرائبه الباهظة. كذلك ثار الجعليون والدناقلة (ضد الحكم التركي-المصري) لفرضه منعا شاملا على تجارة الرقيق التي شكلت مصدرا هاما من مصادر كسب عيشهم (لا يخفى على القارئ عدم دقة هذه الدعاوى العريضة. المترجم).
سددت وفاة المهدي في عام 1885م، وتولي الخليفة عبد الله مقاليد حكم البلاد، ضربة قاصمة لاستقرار الدولة المهدية وقابلية الحياة فيها.عمل الخليفة عبد الله على تقريب أفراد قبيلته التعايشة والبقارة الرحل على حساب القبائل الأخرى مما أدى لخلق حالة من عدم الاستقرار الاقتصادي، وعمل أيضا على تضييق الخناق على التجارة مع العالم الخارجي. كون الخليفة عبد الله من التعايشة والبقارة – بعد أن هجرهم قسرا من موطنهم في دارفور وكردفان- جيشا قبليا (مليشيا) في أمدرمان والجزيرة لحماية نظامه.  مثل وجودهم بأعداد كبيرة أمدرمان والجزيرة دون أعمال منتجة، وإعاشتهم والإنفاق عليهم استنزافا مستمرا لخزينة الدولة، وجعل الخليفة يضطر لفرض ضرائب جديدة، ومكوس مستحدثة على غرار ما كان يفرضه الحكم التركي- المصري.
ورث البريطانيون بعد "استعادة" السودان تركة ثقيلة خلفتها الدولة المهدية تمثلت في ضائقة اقتصادية، وكساد تجاري، وفوضى شاملة. يصعب تقييم خطورة المشاكل الاقتصادية التي كان على البريطانيين التعامل معها في عام 1898م، فلقد أسرف هؤلاء في تضخيم مقدار الخراب الذي خلفه الحكم المهدوي، وفي تمجيد وتعظيم دورهم وانجازاتهم. لا ريب أن الوضع الاقتصادي الذي ورثه البريطانيون في السودان بعد سقوط المهدية كان كارثيا بسب السياسات الاقتصادية الخاطئة، والتهجير القسري لبعض القبائل، والمجاعات، إضافة لممارسات أضرت بالتجارة والاقتصاد مثل المصادرة والاستيلاء على الأراضي. زعم الحاكم فرانسيس ونجت (الضابط الأسكتلندي الذي عاش بين عامي 1861 – 1953م، وحكم السودان بين عامي 1899 – 1916م. المترجم) في تقريره السنوي عام 1903م أن عدد سكان السودان انخفض في سنوات المهدية من ثمانية ملايين نسمة إلى مليونيين فقط (شكك الكاتب في صحة هذا الزعم. المترجم).
كان السودان بعد سقوط المهدية يفتقد لوسائل مواصلات حديثة وفعالة، وبنية تحتية، ويسوده اقتصاد منهار وتجارة كاسدة، فقد تدهورت الزراعة في عهد المهدية، إذ تناقصت أعداد السواقي على النيل من 3000 ساقية إلى أقل من 70 في عام 1899م. أضحت الأبيض (وهي مركز التجارة في غرب البلاد) في حالة بائسة من الخراب، وكانت أمدرمان والجزيرة تعجان برجال ونساء عاطلين عن العمل، هجروا قسرا من كردفان ودارفور. تناقصت كمية الصمغ العربي المصدرة من السودان  من 250861 قنطار في عام 1881م إلى 41963 قنطار في 1899م.
لجأ البريطانيون بعد هزيمتهم للخليفة عبد الله إلى إدارة حكم السودان بطريقة  صارمة و"أبوية". لم يكن دخل البلاد يزيد عن 140000 جنيها  في عام 1900م ، ورغم ذلك لم يشأ البريطانيون السماح للقطاع الخاص (الخارجي) بالاستثمار الواسع في السودان، وعوضت حكومة السودان العجز في ميزانية البلاد بطلب إعانات من الحكومة المصرية. 
نقلا عن "الأحداث"



badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]

 

آراء