“السودان بعيون غربية” كتاب صدر حديثا عن دار نشر “جزيرة الورد” بالقاهرة للكاتب بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 



هذه مقدمة كتاب صدر حديثا عن دار نشر "جزيرة الورد" بالقاهرة عنوانه "السودان بعيون غربية"، وهو يضم مقالات مترجمة نشرت لي في السنوات الماضية في "سودانايل" و"الأحداث" وغيرهما. صمم غلافي الكتاب الفنان طلال الناير.
مقدمة المُترجم
رسخت في ذاكرتي جملة بدأ بها صلاح أحمد إبراهيم شاعر "غضبة الهبباي" ديوانه يقول فيها: "أنا أمجُّ التقديم، فمقدمة يدبجها المؤلف أو صديق المؤلف أو راعيه، هي في نظري القصير إما تسويغ لخطأ أو تزيين لقصور، أو ثناء يبتز ذكاء القارئ. لهذا جاءت مجموعتي الأولى"غابة الأبنوس" بلا مقدمة تحلِّي جِيدها العاطل، ولم تقاس مركب نقص من جراء ذلك، ولعل قارئها قد حمد لها تقشفها... على أن بضعة خواطر قد عنت لي وأنا أخط هذه المجموعة رأيت أن أطلع عليها القارئ لو تكرم بقراءتها..." و كنت أسأل نفسي حينها: لم يقدم ذلك الشاعر العظيم لديوانه إن كان يمج التقديم أصلا ويسميها"بضعة خواطر"؟
على عكس ما يقول به شاعرنا فإنني أحب قراءة مقدمات الكتب التي يدبجها المؤلفون وأصدقاؤهم ورعاتهم كذلك؛ ففي معظمها مفتاح شخصية الكاتب، وبعض من أفكاره وروحه ورؤاه. وكنا ونحن في عهد التلمذة، نقرأ مسرحيات جورج بيرناد شو (وغيره) ولا نكاد نطيق صبرا على مقدماته الطويلة، حتى اكتشفنا أهمية تلك المقدمات فيما أقبل من أيام.
هذه الترجمات المتواضعة التي بين يديك أيها القارئ هي لمقالات وصفحات بعضها من كتب قديمة، ويتناول معظمها أطرافا مختلفة من الحياة الاجتماعية السودانية في زمان مضى (مثل مقال "أيامي في الجريف")، وتاريخ جالية أجنبية كان لها السودان دور وأي دور(مثل المقالات عن الأغاريق في السودان)، ومقالات كتبها أو كتبت عن شخصيات بريطانية لعبت دورا بالغ الأهمية في تاريخ السودان، ولا يزال أثر بعضها باقيا إلى اليوم.
كثيرة هي المقولات عن التاريخ، وأهمية تدارسه والإحاطة بدقائقه والإفادة منها. فهنالك القول المشهور عن فولتير بأن التاريخ ما هو إلا سجل لجرائم وحماقات ونكبات الإنسانية، وقول نابليون الشهير بأن التاريخ هو رواية أحداث الماضي كما اتفق الناس على تسجيلها. رأيت في كثير مما أقرأ(وأترجم) تصديقا لبعض تلك المقولات، لذا كان لتعلقي الشخصي وشغفي بتاريخ السودان(خاصة في عهود الحكم التركي والمهدوي والثنائي) أثر كبير في انتقائي لهذه المقالات المترجمة. ورغم أن هذه المقالات لا تهدف لأن تكون كتابا في التاريخ (بالمعنى الأكاديمي)، وأنى لها؟، فأنا للأسف لست من الدارسين أو الباحثين في مجال التاريخ، فهذا باب له نساؤه ورجاله، وإنما أنا - منذ سنوات خلت- أهوى التنقيب في ما كتبه الغربيون عن السودان في مختلف المجالات، خاصة التاريخية منها.
ولهذه الهواية علاقة بالغرب أيضا، وقصة أرويها هنا بإيجاز. لقد كنا ومنذ أن اجتزنا عتبة المدرسة الوسطي نغشى مكتبة المجلس البريطاني بالخرطوم شرق (وكانت حينها في شارع البرلمان)، ونقلب بكثير من الإعجاب في صفحات كتب قديمة قيمة يعود بعضها إلى بدايات القرن العشرين، ونتأمل في صورها المؤثرة؛ فلعلها كانت المرة الأولى التي نرى فيها صورا لمحمود ود أحمد في أتبرا، والخليفة عبد الله مقتولا في أم دبيكرات، وأسرى الخليفة الغربيين مقيدين بالسلاسل الطوال. لم نكن نرى من ذلك شيئا في كتب تاريخنا المقرر في المدارس التي درسنا فيها تاريخا "جامدا" لا أذكر منه غير أن محمد علي باشا "فتح"السودان من أجل المال والرجال (هكذا)، وغير رسالة مؤتمر الخريجين التي سطرها إبراهيم أحمد نيابة عن شباب مؤتمر الخريجين للحاكم العام والتي ختمها بـ "خادمكم المطيع". كانت الكتب التاريخية القديمة في تلك المكتبة الغنية التي كنا نحج إليها عصر كل خميس مشيا على الأقدام من حي "السكة حديد" كانت هي مصدر شغفي الأول بما كتبه الغربيون عن بلادنا. وقد تعجب عندما ينشغل رجل درس لاحقا العلوم والطب البيطري، ثم تخصص في علم الأدوية، ويكسب عيشه من تدريسه، والبحث في خواص الأدوية وسميتها، بترجمة موضوعات ليس بينها وبين ما درسه أو يدرسه أدنى نسب أو أقل صلة.
بدأ شغفي بالترجمة في مرحلة الدراسة الثانوية في نهايات الستينات عندما وقعت على عدد من مجلة "هنا لندن"التي كانت توزعها هيئة الإذاعة البريطانية ترويجاً لبرامجها، وكانت تحوي أيضا في كل عدد قطعة باللغة الإنجليزية معروضة للتدرب على الترجمة، وفيها أيضا (في صفحة أخرى) ترجمة "نموذجية" لتلك القطعة كي تتخذ مثالا لما ينبغي أن تكون عليه الترجمة العربية لتلك القطعة. اشتركت في تلك المجلة، وكانت تبعث لي عن طريق بريد المدرسة أسبوعيا دون مقابل (فذلك كان عهد رخاء غير مسبوق)، وكنت أجرب قلمي اليافع على ترجمة تلك القطع الإنجليزية، وأصاب بخيبة أمل كبيرة وإحباط عظيم بعد مقارنة محاولاتي المتواضعة بتلك الترجمات المثالية. وكانت تلك الأيام أيضا هي أيام مداومتي على مشاهدة أفلام سينما "الخرطوم غرب" بعد أن كبرت وشببت عن طوق أفلام سينما "الخرطوم جنوب" المصرية. وبدأنا – مع ثلة صالحة من الصحاب(صار أحدهم – للغرابة- فيما بعد مترجما محترفا)، نلاحظ باهتمام ترجمات ما ينطق به الممثلون في الأفلام الغربية، ونسخر من غرابتها وطرافتها، بل ومجافاتها أحيانا للمعاني المقصودة. ثم مرت الأيام وجرت مياه كثيرة تحت الجسر – كما جرى التعبير الشائع- والتحقت بجامعة خليجية تدرس علومها باللغة العربية، وتشجع أساتذتها على ترجمة أمهات الكتب الأمريكية والبريطانية المتخصصة إلى العربية. فطرقت باب الترجمة العلمية، وقمت منفردا بترجمة كتابين، وكتابا آخر بالاشتراك مع زميلين آخرين. فتحت"مجازفات" تلك الترجمات شهيتي للعودة بشوق قديم لترجمة بعض القصص القصيرة والمقالات التي أحسبها قد تهم القارئ السوداني، ووجدت في موقع "سودانايل" منفذا ميسرا للنشر، إلى أن ظهرت صحيفة "الأحداث"، فبدأت فيها نشر بعض من ترجماتي، ونشرت فيها أيضا ترجمة لكتاب أمريكي عن ثورة أكتوبر كان بروفيسور عبد الله على إبراهيم قد زكاه لي للترجمة.تجمعت عندي من بعد ذلك مجموعة "طيبة؟" من ما كنت قد نشرته خلال العقد الماضي في "سودانايل" و"الأحداث" ومؤخرا موقع "سودان راي"، ورأيت، بناء على نصيحة بعض الأصدقاء أن أجمعها بين دفتي كتاب لتتسع دائرة من يقرأونها، وقد يجدون فيها قليلا من الفائدة، وربما شيئا من المتعة! من يدري؟
لابد لي من أن أذكر هنا بكل الشكر والعرفان كل الذين أسدوا لي - عند اختيار وكتابة هذه المقالات المترجمة - خدماتهم الجليلة في مجال اللغة والتاريخ، أو اقتراح المواضيع وغير ذلك. وأخص بالذكر بروفيسور إبراهيم الزين صغيرون، والأستاذ عبد المنعم خليفة، والشاعر محمد المكي إبراهيم، والأستاذ خالد بابكر، وراعية موقع "سودان راي" الدكتورة حنينة، وكل الصحاب المنتشرين في قارات هذا العالم العريض الذين جمعتني بهم الشبكة العنكبوتية، وصادقتهم وشاركتهم وشاركوني الأتراح والأفراح والاهتمامات والهوايات دون أن تقع عيني على كثير منهم. والشكر والعرفان أيضا لكل من تكرم بالكتابة عني وعن ترجماتي (واثنان منهم لم يرياني قط من قبل). ولابد لي في الختام من أن أشكر زوجتي وأفراد عائلتي على تشجيعهم المعنوي لي وهم في مهجرهم البعيد.
والله من وراء القصد
بدر الدين حامد الهاشمي


badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]

 

آراء