ومع ذلك لن تكون الجولة الأخيرة
خالد التيجاني النور
6 September, 2012
6 September, 2012
khalidtigani@gmail.com
إن كان ثمة أمر واحد يمكن توقعه بشأن مصير المفاوضات المستأنفة في أديس أبابا في جولة ينظر إليها على نطاق واسع من قبل جميع الأطراف بأنها ستكون الأخيرة لتفكيك الاشتباك وحلحلة المنازعات حول تركة السودان المقسم, فهو أن هذه الجولة على خلفية المعطيات الواقعية الراهنة, لن تكون الأخيرة ولا الحاسمة, اللهم إلا إذا حدثت معجزة في زمن عزت فيه الخوارق تغير فيه, في الساعة الخامسة والعشرين, نمط التفكير عند أصحاب القرار في الحزبين الحاكمين في الخرطوم وجوبا, وتبدلت أساليب وأدوات إدارة الصراع الممتد بينهما, وتقدمت حسابات المصالح الاستراتيجية للشعبين على اعتبارات المناورات التكتيكية في حسابات مصالح مراكز القوى في النخبتين الحاكمتين.
لا مؤشرات حقيقية طرأت حتى الآن تدلل على أن تحولاً درامياً حدث في غضون الفترة القليلة الماضية ينبئ بأن جولة المفاوضات المستأنفة ستشهد هذه المرة نتائج نهائية حاسمة, فالمعطى الوحيد الذي يستند عليه القائلون بأن هذه الجولة ستكون الأخيرة هو موعد الثاني والعشرين من سبتمبر الجاري الذي اعتمده مجلسا الأمن, الإفريقي والدولي, مهلةً نهائية لطي صفحة التفاوض سواء تم الاتفاق أم لا على القضايا المتنازع عليها بين الطرفين, ففي حالة عدم الاتفاق فالمنتظر أن يرفع الوسطاء يقيادة الرئيس ثابو إمبيكي تقريرا يتضمن مقترحات تسوية يفرضها مجلس الأمن الدولي على الطرفين تحت طائلة التهديد بفرض عقوبات على الطرف المتعنت, أو الطرفين معاً.
تلك هي الحجة الظاهرة على اعتبار أن الجولة الحالية هي الأخيرة بلا جدال, بيد أن تحليل مضمون ومجريات الأمور على هامش هذه المهلة يشير إلى أن الموقف الدولي هو الحلقة الأضعف في مسلسل تطاول أزمة العلاقات السودانية السودانية في عهد ما بعد التقسيم, والمعلوم أن المهلة الجديدة تم ترحيلها إلى الموعد الجديد لتخلف مهلة الثاني من أغسطس التي حددها القرار الأممي 2046, وقد تم التمديد في الحقيقة لسبب واه عندما حل موعد تلك المهلة دون حدوث اختراق حاسم في الملفات الأساسية محل التنازع وأسقط في يد الجميع, المجتمع الدولي والوسطاء وأيضاً طرفي النزاع, فلجأ الرئيس إمبيكي إلى انتزاع تفاهم حول المسألة النفطية, حيث جرى تمرير تفاهم على رسوم العبور مقابل تعويضات الترتيبات المالية الانتقالية البالغة ثلاثة مليارات دولار تدفع خلال ثلاث سنوات ونصف السنة, وهو تفاهم مهم بالتأكيد, ولكنه يبقى اتفاقأ نظرياً إذ لم يصل إلى مرحلة اعتباره اتفاقاً موثوقاً لأنه لم يتم التوقيع على أي وثائق بشأنه, واعتبره الطرفان تفاهماً مكتوباً بقلم الرصاص في دفتر إمبيكي, موضوعاً على الرف في انتظار تنفيذ الاشتراطات الأخرى لكل طرف, الضمانات الأمنية بالنسبة للخرطوم, وأبيي والحدود ووضع الجنوب الجديد بالنسبة لجوبا, وهو ما يعني ببساطة وضع العقدة في المنشار, وعودة الأمور إلى نقطة الصفر عند بدء الجولة الجديدة التي ينتظر لها أن تكون نهائية.
شكل تفاهم النفط الفضفاض في اللحظة الأخيرة قبلة الحياة للوساطة الأفريقية ولإمبيكي شخصياً ساعده في إنقاذ مهمته وفي إخراج مجلسي الأمن الإفريقي والدولي من حرج انقضاء أجل مهلة القرار 2046 من دون إحراز اختراق جدي في المفاوضات, دعك من أن يكون نهائياً وحاسماً, وفي الواقع فإن أطراف اللعبة في مجلس الأمن يدركون أنه على الرغم من التلويح بالعقوبات التي يهدد بها القرار فإن قدرة ذلك في إنهاء الوضع المأزقي المعقد الذي خلفه تقسيم السودان تبدو قليلة الحظوظ في إحداث تأثير محسوس يغير من المعادلات الراهنة بالنظر إلى طبيعة الأزمة وإكراهاتها, فالخرطوم متخمة أصلاً بالعقوبات إلى درجة تجعل فرض أية عقوبات إضافية عليها ذات أثر محدود ومن باب تحصيل الحاصل ك"الغريق الذي يخشى عليها من البلل", وأما جوبا التي ليس هناك منطق, بحكم طبيعة النزاع, يجعلها معفية من فرض عقوبات عليها على الأقل نظرياً, فإنها دولة وليدة لا تزال تتلمس طريقها في ظل أوضاع شديدة البؤس لا تملك أصلاً ترف أن تخضع لعقوبات دولية من أي نوع, ولذلك فإن الفاعلين في المجتمع الدولي يدركون أكثر من غيرهم أن مسألة التهديد بتحديد مهلة نهائية والتلويح بفرض عقوبات هي مجرد إناء فارغ يحدث الطرق عليه الكثير من الجلبة لكنه لن يحقق سلاماً مستداماً, ولن يجلب استقراراً في وضع بالغ التعقيد لا يحتاج إلى إضفاء المزيد من الـتأزيم عليه بإجراءات دولية تفتقر لأية فاعلية إيجابية وضررها أكثر من نفعها.
ولأن الطرفين المتفاوضين يدركان هشاشة الضغوط الدولية الملوحة بعقوبات افتراضية, فإن أياً منهما لم يقدم على أية تنازلات ذات جدوى تمكن من إحداث اختراق حاسم في المفاوضات التي جرت في الأاشهر الاخيرة تحت ظل القرار 2026, والصفقة النفطية التي جرى التفاهم حولها في الساعة الأخيرة من الجولة الماضية فرضتها اعتبارات الحسابات الذاتية للطرفين أكثر من كونها نتاج خضوع لضغوط دولية لا سيما على جوبا التي بادرت إلى وقف الإنتاج النفطي, فالأوضاع المالية والاقتصادية المتردية الواقعة على البلدين جراء استخدام النفط كورقة ضغط للحصول على مكاسب أو تنازلات في الملفات الآخرى قادهما إلى الوقوف على حافة الانتحار السياسي للنظامين الحاكمين, وبالتالي فهو تفاهم اقتضته ضرورة التراجع عن حافة الهاوية أكثر من كونه يحمل دلالات على تحول استراتيجي في التعاطي بشأن العلاقات المستقبلية بين البلدين. وهو ما دلل عليه التراشق الإعلامي والاستمرار في التصريح بمواقف متشددة عقب العودة من أديس أبابا ب"تفاهم" النفط الذي كان من المفترض أن يكون مدعاة للتخفيف من غلواء المواقف المتطرفة, ومدخلاً للتبشير بعهد جديد من التعاون وإطلاق أفاق استراتيجية لرعاية المصالح المشتركة للطرفين.
ولعل أوضح دليل على أن الجولة المستأنفة للمفاوضات لن تكون الأخيرة ولا الحاسمة أوحت بها التحركات المكوكية لكبير الوسطاء إمبيكي بين الخرطوم وجوبا, حيث سربت مصادر مطلعة إلى أنه عمد إلى محاولة إقناع الرئيسين عمر البشير وسلفا كير بجدول أعمال جديد للتفاوض يتجاوز مسألة التسوية الشاملة لكل الملفات محل التنازع في هذه الجولة والتركيز بدلاً عن ذلك في الجولة الحالية على تمرير صفقة النفط وتحويلها من مجرد "تفاهم" مجمد مرتهن بأجندة آخرى إلى اتفاق كامل حول النفط فقط برسم التنفيذ الفوري وعدم ربطها بالأجندة الأخرى للطرفين التي اقترح تأجيلها لجولات آخرى لاحقة. وهو ما يعني أن إمبيكي, بحكم إطلاعه الدقيق على مجريات وكواليس التفاوض وإدراكه لفرص للتسوية, بات أول المقتنعين بأن هذه الجولة لن تسع لطي صفحات التنازع على إرث السودان القديم, ورأى أن الحكمة تقتضي تمتين تفاهم الصفقة النفطية وعزله عن الملفات الآخرى, وجعله ممكن التنفيذ, وأن ترحل بقية الأجندة العصية على التسوية إلى أجل آخرى حتى يقضي الله امراً كان مفعولاً, ومن المهم الإشارة هنا إلى أن تغيير إمبيكي لأجندة الجولة المستأنفة بالتركيز على النفط لا يأت اعتباطاً ولكن بتفاهم مع واشنطن التي تضغط بالإتجاه نفسه وضرورة فك الارتباط بين النفط وأجندة التفاوض الأخرى, وهو أيضاً ما حمله بيان مجلس الأمن الدولي الصادر بين يدي الجولة المستأنفة الذي حمل لغة مشجعة حثت على أهمية إحراز المزيد من التقدم وخلت من أية نبرة تهديد أو الإشارة إلى المهلة المحددة وركز بصفة خاصة على المسألة النفطية.
ولئن كان هناك ثمة تحول مهم في استراتيجية الوسطاء فهو التركيز على الاعتبارات العملية والواقعية في مخاطبة المأزق التفاوضي الراهن, ولعودة إلى منهج تجزئة الحلول بدلاً من مقاربة التسوية الشاملة التي كانت متبعة بلا نجاعة حول قضايا محل تنازع ليس سهلاً عادة التوصل إلى تسوية سريعة حولها, وهو أمر بالطبع رهين بتجاوب الطرفين معه لأن كلاً منهما أن القبول بهذا النهج سيفقد كل طرف ورقة ضغط مهمة في مواجهة الآخر, ولكن لأنها ورقة متعادلة الكفتين فإن ذلك يؤثر ساباً في قيمتها العملية, وهو ما يرجح قبول الطرفين في المضي قدماً في إبرام الصفقة النفطية على الأقل بدافع الحسابات السياسية للحزبين الحاكمين الذين أدركا خطورة اللعب على حافة الهاوية تحت سقف أزمة اقتصادية ومالية طاحنة يواجهانها معاً.
وفي الواقع فإن هذا المدخل الذي تعود إليه الأطراف بعد تيه طويل يناسب إلى حد كبير الثقافة السياسية السودانية, حسب ملاحظة لإلكس دي وال الخبير في الشؤون السودانية, ثقافة المقايضة, وإعادة التفاوض حتى حول المتفق عليه, ومبدأ تأجيل أي اتفاق نهائي حول الإجراءات التي قد تقود إلى صراع لا يمكن إبطال مفعوله, وهو ما يتضح جلياً من اتفاقية السلام الشامل التي جعلت الاستفتاء على خيار الوحدة وفق الترتيبات التي فصلتها بروتوكولات التسوية, وسكتت تماماً على ما يمكن أن يترتب على خيار الانفصال وهو ما أفرز حالة اللاحسم الحالية, فبعد أكثر من عام من التقسيم ظلت القضايا المعلقة بلا حل لأنه لم يكن هناك اصلاً خريطة طريقة واضحة المعالم لسيناريو ما بعد الانفصال أو اتفاق ملزم حول كيفية اقتسام تركة السودان القديم.
وبعيداً عن التصريحات النارية والمواقف المتصلبة من الصقور في الجانبين, فإن المنطق والاعتبارات الموضوعية تتطلب التوافق على فترة انتقالية لمدة مناسبة لتفكيك وحلحلة الآثار المترتبة على تقسيم السودان , لقد كان من الخفة تصور أن مجرد انفصال الجنوب سيقود بالضرورة إلى إنهاء الصراع التاريخي بين الشمال والجنوب دون النظر في عواقب ذلك وتأثيرته السلبية إنسانياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً, وتركة بهذا الثقل لا يمكن تصفيتها بين عشية وضحاها أو حتى في سنوات قليلة دون أن تكون لها كلفة باهظة الثمن مما تشهده البلاد من تحقق السيناريو الأسوأ تقسيم البلاد والعودة إلى الحرب. ولئن اقتضى الحال مع ارتفاع الأمال بالسلام والوعود بوحدة جاذبة أن تكون هناك فترة انتقالية لست سنوات قبل الاستفتاء, فلا أقل من ان تكون هناك فترة انتقالية لضمان ترتيبات العلاقة بين الطرفين ما بعد الانفصال.
والتجربة العملية أثبتت بعد أكثر من عام من التقسيم, ومن مفاوضات متطاولة لا تلوح في الأفق نهاية لها, أن طبيعة الأجندة محل التنازع, لا سيما وضع مواطني الدولتين والحدود وأبيي, لا تحتمل حلولاً قطعية حاسمة لصالح طرف على حساب الطرف الآخر, وهي من نوع النزاعات التي تعمر حتى في حالة الدول المستقرة المتنازعة حدودياً, فما بالك ببلد على الرغم من الانفصال لا يزال تتشابك علاقاته وتتداخل مصالحه, ولذلك سيكون عبثاً انتظار حل نهائي حاسم لمثل هذه القضايا في مفاوضات تجري تحت أجواء صراع محموم.
المطلوب الاعتراف بأن التقسيم وإن أنتج دولة مستقلة معترف لها بكامل الحقوق السيادية, فإنها وليدة وضع يحتاج تطبيعه إلى عملية انفصال ممتدة ومطولة تمكن الطرفين من تعريف المصالح المشتركة ورعايته, وتأجيل القضايا الخلافية ريثما تبنى علاقات تعاون تخفف من غلواء الصراع التاريخي, وليتم بحث تلك الموضوعات العالقة في أجواء مواتية أكثر, تتعزز فيها الثقة, وتظهر خلالها فوائد تشارك المصالح, وفي الأثناء يمكن تبني نموذج إدارة مرن للقضايا الخلافية, ومن شأن التوافق على مثل هذا الاستراتيجية أن تفضي بالضرورة إلى ضمانات أمنية تقوم على اعتبارات عملية تفرضها ضرورات تبادل المصالح الاقتصادية.
وتغيير المسار في علاقات الخرطوم وجوبا لصالح علاقات أكثر عمقاً استراتيجياً تحتمه حقيقة جيوسياسية أن كلا من البلدين سيظل بالنسبة للأخر هو الأكثر تأثيراً استراتيجياً على مستقبل البلاد الآخر, والبديل الوحيد لرؤية تغيير المسار المضي قدما في سيناريو الانتحار الجماعي.