من يوميات البريطانية إيزماي توماس في السودان .. عرض: بدر الدين حامد الهاشمي
من يوميات البريطانية إيزماي توماس في السودان
Sudan Journal of Ismay Thomas
تحرير: جراهام توماس
عرض: بدر الدين حامد الهاشمي
عاشت السيدة البريطانية إيزماي توماس (1920 – 1995م) سنوات من عمرها في السودان، فقد قدمت للسودان مع زوجها عام 1950م، وعملت في البدء في سلك التدريس في كلية المعلمات بأمدرمان، ثم انتقلت للعمل كمفتشة للتعليم في إدارة تعليم البنات والمرأة في مديرية الخرطوم.
تعلمت إيزماي اللغة العربية واختلطت مع أفراد المجتمع السوداني، وجابت كل أنحاء البلاد تقريبا، فقد سافرت لبورتسودان في الشرق وجوبا في الجنوب وحلفا في الشمال،، وغيرها من المدن السودانية، وسجلت في يومياتها كل الأحداث التي شهدتها في كل مختلف أنحاء السودان، بتركيز خاص على حياة المواطن العادي في الأماكن التي زارتها.
نشر زوجها جراهام توماس مذكراتها في كتاب صدر في عام 2000م بعنوان " Sudan Journal of Ismay Thomas" عن دار النشر البريطانية) The Book Guild Ltd (BG) ونشر أيضا كتابين عن السودان هما: "موت حلم" Death of a dream والسودان: معاناة من أجل البقاءSudan: Struggle for Survival)، وعمل – بحسب ما جاء في موقع جامعة دارم البريطانية – كمستشار شخصي للسيد الصادق المهدي، وله مجموعة أعمال محفوظة في أرشيف تلك الجامعة تجدها في هذا الموقع: http://reed.dur.ac.uk/xtf/view?docId=ead/sad/thomasgf.xml
يتكون الكتاب من 11 فصلا، تحكي المؤلفة في كل فصل فيه – وبصورة مفصلة ولكنها مثيرة تخلو من الإملال، عن ما جرى من أحداث للكاتبة في مناطق مختلفة من السودان. عناوين فصول الكتاب غير مألوفة ولكنها معبرة، فالفصل الأول عنوانه : "نحو الشمس، والصنادل والجلابيب"، والفصل الثالث عنونته : "كل فرعون يحتاج لهرمه" والرابع بعنوان: "السودان للسودانيين، أم الاتحاد مع مصر؟"، والفصل السابع بعنوان: "الأعلام السوداء والجبة" وهكذا. في الكتاب أيضا صور عديدة للزعماء السودانيين التاريخيين مثل السيدين الجليلين (على الميرغني وعبد الرحمن المهدي) وإسماعيل الأزهري ومحمد أحمد المحجوب، وصور لبعض رجال التعليم مثل دكتور يوسف بدري.
في آخر صفحات الكتاب أضاف المحرر أن السيد/ الصادق الصديق المهدي ذكر في أول خطبة جمعة له في مسجد طائفته بعد اطلاق سراحه من سجن كوبر وأمام نصف مليون من المصلين، أنه يود أن يشيد بذكرى ستة من أصدقائه الذين توفوا وهو بالسجن، وكان من بينهم دكتور يوسف بدري (لدوره في اشاعة التعليم بالبلاد) والسيدة إيزماي توماس لدورها المهم في تعليم البنات في السودان. ختم الكتاب بقائمة مراجع عن السودان وعن البريطانيين فيه. كان من ضمن قائمة المراجع كتاب للسيدة إيزماي وزوجها عنوانه "تاريخ مصور للسيد عبد الرحمن المهدي، صدر عام 1986م (دون ذكر اسم الناشر).
في الفصل الأول تحكي عن مغادرتها لندن في 16/11/ 1950م على طائرة "فايكنغ" تابعة لمؤسسة الخطوط الجوية البريطانية لما وراء البحار (British Overseas Airways Corporation, BOAC) من مطار في كامبرلي، وعن رفقاء رحلتها من ضباط بريطانيين يتسامرون حول لعبة الكريكيت، وزوجات بريطانيات في رفقة أطفالهن، وصبيان وبنات في مختلف الأعمار، وعن ما أصابها من غثيان وقيء في تلك الرحلة لم يتوقف إلا حين حطت الطائرة في مدينة "نيس" ثم مرة أخرى في مطار بجزيرة مالطا. تسهب الكاتبة في يومياتها ذاكرة أدق التفاصيل عن الفندق الذي ارتاده مع رفقاء السفر لقضاء الليل، وعن فخامته وسبل الراحة فيه، والتي لم تتكدر إلا قليلا برؤيتها لطاقم الطائرة وهم يحملون قناني المياه لتصب على ماكينة الطائرة (لا شك لتبريدها!).
كتبت تقول إن أكثر لحظات الإثارة عندها كانت وهي تترك القارة الأوربية خلفها وتعبر البحر الأبيض المتوسط إلى القارة السوداء الغامضة: أفريقيا! قربت طائرتها من مطار "بنينة" بنغازي في شرق ليبيا، حيث لم تر شيئا غير امتداد طويل عريض من الرمال المقفرة ليس فيه غير بعض الأشجار والمناطق الخضراء القليلة، والتي رأت بعض الأبقار ترعى فيها.
أعلن لهم قائد الطائرة أن الإصلاح الذي تم على ماكينة الطائرة في "مالطا" قد أحدث بعض الفرق، فلذا سوف لن يطيروا إلى الخرطوم مباشرة، بل سوف يتوقفون قليلا في "العضم؟" قرب طبرق، ثم في "وادي حلفا". كانت الرحلة الأولي عذابا محضا، فقد كانت مليئة بالمطبات الهوائية والاهتزازات. حطت طائرتها في جنح الليل في "وادي حلفا"، أول محطة لها في السودان الإنجليزي المصري، حيث ستقضي عددا من السنوات في رفقة بعلها. كان جميع الركاب ممن أتوا على هذا الطريق يحدثون السيدة إيزماي أنهم سينتقلون لفندق "وادي حلفا" الوحيد على ظهر "لوري" عتيق أبعد ما يكون عن الترف، ولكن لدهشتهم ظهرت هذا المرة حافلة أنيقة أقلتهم – وسط فرحة غامرة- للفندق. أشادت إيزماي بالفندق، وبحدائقه الغناء، ولم يزعجها في غرفتها بالطابق الأرضي غير أصوات جر الأقدام بالصنادل وطرقعة "الشباشب" في الممرات، والأصوات المرتفعة بلغة لا تفهمها. تناولوا أول وجبة لهم في السودان، وكانت كلاسيكية الطابع، مكونة من شوربة لم تتذوق مثلها من قبل، ومن سمك لا تعرف نوعه، مع طبق حلو أخير، وكان يخدمهم على تلك المائدة رجال طوال سود في جلاليب وعمامات بيضاء ويربطون خصورهم بأحزمة قماشية خضر. في فجر اليوم التالي، وفي جو شديد البرودة غادروا الفندق متجهين نحو طائرة الفايكنغ، والتي صلت للخرطوم التي كانت أقل برودة من حلفا (حيث كانت الحرارة 101 درجة فهرنهايت، أو 38.3 مئوية)، حيث قابلهما في المطار مدير التعليم وكبار موظفيه، وأخذهما إلى "الفندق الكبير" على شاطئ النيل الأزرق ريثما يتم تجهيز منزلهما في أمدرمان. لفت نظرها جمال معمار الخرطوم ونظافتها الفائقة. لم يفتها أن تشيد بالفندق وبخدماته السريعة الممتازة. قضت بقية أيامها وهي في غاية العجب والتعجب مما تراه من غريب الصور والأشكال، والعملات أيضا. أخبر الزوجان بأن منزلهما لن يكون جاهزا للسكنى حتى فبراير، مما يعني بقائهما في الفندق حتى ذلك التاريخ، وكان ذلك مصدر حزن لهما عظيم. قضت أمسياتها مع زوجها ومن يزورهما من بني جلدتهما في الطواف في الأسواق، والتي وصفتها بأنها صغيرة، ولكنها تكتظ بالملابس القطنية الممتازة النوع، الزهيدة الثمن.
بدأت السيدة إيزماي عملها صباح يوم 19 نوفمبر (أي بعد يوم واحد من وصولها للخرطوم!)، وصادف أن كان يوم أحد. كان عملها يوم الأحد شيئا غريبا كان عليها أن تتعود عليه. أخذتها السيارة إلى كلية المعلمات بأمدرمان، وكان الطريق إلى تلك المدينة مصدر عجب لا ينقطع، فالطريق كان مليئا بالسيارات الحديثة تسير جنبا إلى جنب أو خلف أو أمام عربات الكارو، والجمال والحمير المحملة بالبضائع. عدت انتقالها من مدينة الخرطوم لأمدرمان نقلة سريعة من القرن العشرين إلى قرون سابقة. وصفت كلية المعلمات بأنها ذات أسوار عالية، وبوابة ضخمة يحرسها بواب لطيف، وأشادت بالكلية وبنظام الفصول فيها، وبالبنات الصغار في " مدرسة الكتاب" اللواتي يتم التدريب في فصولهن. أعجبت بالصحة البادية على التلميذات وملابسهن النظيفة، وإن لم تعجب بطريقة تسريحهن لشعرهن ( يلاحظ على هذه الكاتبة، وكما يفعل الإنجليز – على وجه العموم – فإنها قلما تشيد بشيء ما إشادة كاملة، وإنما تتبع الثناء عادة بكلمة "ولكن"!).
ذكرت إيزماي عادة الختان الفرعوني والذي يشيع في دول كثيرة في غرب إفريقيا والصومال وكينيا واندونيسيا، ووصفته بأنه عادة بربرية، وأشادت برجال الدين والسياسيين الذين يدعون لمحاربته. وصفت تفاصيل عملية الختان البشعة ببعض التوسع (ربما لتقريب الصورة لدي القارئ غير السوداني).
في مساء يوم الأحد ذهبت للكاتدرائية الإنجليزية (الأنجليكانية) ،وأشادت بجمال مبناها، وكثرة المصلين من الرجال مع قلة النساء!
زارت في يوم الاثنين مدرسة العباسية للبنات مشيا على الأقدام من كلية المعلمات في طريق رملي. علمت أن الناس في هذه المنطقة يعدون من الفقراء وأن النساء محرومات من حرية الحركة والتبضع بمفردهن، رغم أنها لاحظت أن بعض الطالبات كن يرتدين ساعات يد! علمت أن كثيرا منهن لم يغادرن حيهن القديم، ولم يزرن الخرطوم القريبة أو حديقة الحيوانات مثلا.
ختمت هذا الفصل الأول بالإشادة بالسودانيين كشعب يحب، ويمتاز بالأمانة والصدق والصراحة. وللتدليل على ذلك ذكرت أنها سألت موظفين في استقبال الفندق عن رأيهما في الجمعية التشريعية، فقال الأول إنها عمل صالح سيستفيد منه الشعب السوداني، بينما قال الأخر إنها مضيعة للزمن ليس أكثر!
في الفصل الثاني وما بعده، وضمن مشاهد عديدة، سردت وصفا دقيقا لسينما "النيل الأزرق وكانت تلك هي المرة الأولى التي تشاهد فيلما في سينما مفتوحة لا يظلها إلا السماء المرصعة بالنجوم، وبضع أشجار كثيفة. اشادت بالشاشة الجيدة وبكراسي البامبو المريحة في "لوج" تلك السينما الصفوية. لم يعكر صفوها غير مرور بعض الطائرات فوق سماء السينما والذي عدته مصدر إلهاء لحظي. زارت كذلك حديقة الحيوانات، وسرت بما رأت هناك. ذهبت لمكتب البريد لإرسال كروت معايدة بالسنة الجديدة (1951م)، ولكن ختم البريد وقع على الأرض وتكسرت أجزاء منه. قالت إنها شعرت بالملل الشديد وهي تنتظر إصلاح الختم، بينما لاحظت أن السودانيين خلفها في الصف كانوا في غاية السعادة، وهم يتسامرون ويضحكون، ويشدون على أيدي من معهم ويمسكون بها (وهي عادة غير مألوفة في الغرب كما هو معلوم). أرادت أن تذهب بمفردها إلى حائك ملابس إغريقي سمعت عنه في "شارع عباس"، لكنها ضلت الطريق، ولم تجد غير سيدة فرنسية عجوز في سيارتها لترشدها للطريق. اطنبت الإنجليزية (لا شك بسبب كراهية وعداوة قديمة بين الشعبين) في وصف قذارة تلك الفرنسية وعفونة رائحتها، ورائحة سيارتها كذلك! زارت كذلك "جبل أولياء" وخزانها، وأشادت بهما، وخاصة طريقة صيد الأهالي للسمك.
سرت السيدة إيزماي أيما سرور بإعلان في صحيفة "سودان استار" الصادرة في 20 /11/ 1950م يعلم جميع من سيحضر حفل عشاء (راقص) في ليلة القديس سانت أندروز أن بإمكانهم سحب قنينة واحدة من الويسكي من المتاجر المخصصة لذلك خصما من حساب "التموين" المقرر لهم لشهر ديسمبر!
اشادت الكاتبة بمنطقة "المقرن" وبخضرتها، بيد أنها عرجت على تخلف وسائل الصرف الصحي فيها وفي باقي أجزاء المدينة، ووصفت بتقزز نقل الفضلات البشرية كل ليلة بأسطال كبيرة تجرها الجمال (المتكبرة حسب قولها). حكت حادثة أثارت الذعر والفزع بين طالبات الكلية حين أدخل أحد الرجال الموكل إليهم سحب "سطل البول والبراز" رأسه في فتحة المرحاض ليختلس نظرة وقت أن كانت فيه إحدى الطالبات! لاحظت كذلك أن الرجال لا يتورعون عن التبول في أي مكان مناسب (أو غير مناسب) في طرقات المدينة وميدانيها وذلك لانعدام المراحيض العامة.
صادف يوم 22/12/1950م ليلة المولد النبوي الشريف، وسجلت الكاتبة في مذكراتها زيارتها لميداني المولد في أمدرمان والخرطوم، وعن الأجواء الاحتفالية البهيجة التي صاحبت ذلك المولد خاصة في خيمتي الأنصار والختمية، ولاحظت اختلاط الماضي بالحاضر في استخدام الشيوخ والمريدين لأنوار النيون الملونة، وبيع الحلويات الملونة والتماثيل واللعب وغير ذلك. أشارت إلى أن رواد المولد هم في الغالب الأعم من الذكور، ولا يسمح عادة للنساء "من الطبقات العالية!؟" بالأقتراب من ميدان المولد، رغم أنها لاحظت أن الفقيرات من النساء و"العاهرات" يجلسن على الأرصفة ليشاهدن زحام الناس في المولد. زعمت الكاتبة بالقول بأن الدعارة "مشكلة كبيرة"، وأضافت مفسرة: "لأن الرجال يتزوجون بنساء عديدات، وسرعان ما يكتشفوا أنهم لا يستطيعون إعالتهن جميعا، فيهجرون أصغر الزوجات ويدعونها لتبحث عن رزقها بالطريقة الوحيدة التي تستطيعها"!!!
في الفصول التالية حكت إيزماي عن دعوات كثيرة لبتها لتناول الطعام مع كبار رجال الدين والسياسة في الخرطوم. ففي صباح يوم 9/3/1951م لبت دعوة وزير العدل (السيد/ محمد علي شوقي) لتناول طعام الإفطار في داره مع ثلة من الرجال ليس بينهم سيدة سوي فيليبا مغربي (التي ترجمنا لها ما سجلته في مذكراتها المعنونة "أيامي في الجريف"). أشادت بكرم الرجل الحاتمي البالغ. كان الإفطار مكونا من فاكهة القريب فروت والشعيرية بالسكر والسمن، والسمك والبيض المقلي، ثم مربى البرتقال مع الخبز والموز والشاي والقهوة. لاحظت خلو أثاث البيت من مظاهر الترف، خلا سجادة فارسية واحدة، ولاحظت صورة ضخمة للمهدي معلقة على الحائط. بعد الإفطار أدخل السيد شوقي الكاتبة مع فيليبا مغربي للسلام على نساء الدار (أو ما وصفته بالحريم). لاحظت في غرفة السيدات وجود "بترينة" بأرفف مكسدة بالأواني الفضية. سلمتا على المرأة العجوز وبنتها فيما المذياع يصدح بأعلى صوت بأغنية سودانية. كانت البنت قد نالت لتوها شهادة كامبريدج الثانوية، وتنوي أن تلتحق بكلية غوردون التذكارية في الخريف. قالت الكاتبة عن تلك الطالبة أنها متنازعة بين التقاليد البالية وتوقها للحرية (تري كيف اكتشفت ذلك في لقاء قالت أنه كان للحظات قليلة، ولمجرد السلام؟). زودتهما سيدة الدار بمزيد من الهدايا، وكانت من الشكولاتا الغنية.
في عصر يوم 15 /4/1951م زارت السيدة إيزماي سراية السيد السير/ عبد الرحمن المهدي باشا (هكذا كتبت اسم الرجل كاملا بالألقاب، وذكرته أيضا مختصرا بحروف S.A.R.) لتناول الشاي. كتبت أنه يشاع أن الرجل سيغدو ملكا على السودان، وأن الرجل أرستقراطي يعيش في قصور فخمة، وأنه فاحش الثراء لا يقل دخله السنوي عن مليون جنيه استرليني. كانت إيزماي وزوجها في رفقة السيد/ محمد علي شوقي (وزير العدل). أوقفت سيارتهما الصغيرة (من نوع فورد أنجيليا) بالقرب من سيارتي السيد/ عبد الرحمن الرولز رويس والديملرز ، وشعرت بالضآلة وقلة الشأن! أسهبت في وصف حفل الشاي الصغير، وعن جلوسهم جميعا تحت شجرة ظليلة على كراسي وثيرة فرشت تحتها سجادة ضخمة. تأثرت السيدة إيزماي بشخصية السيد/ عبد الرحمن الطاغية الآسرة، وملابسه البالغة النظافة، ولم تنس حتى جواربه الأميركية الخضراء الفاقعة المخططة (كيف عرفت أنها أمريكية الصنع؟). كان يجلس بجانبه ولده السيد/ الصديق، والذي وصفته بأنه شخص لطيف لكنه يفتقد شخصية والده القوية (مرة أخرى تأتي "لكن" هذه بعد كل إشادة!). وصفت بهاء المكان وروعته، وأنه "ملكي الطابع". صفق السيد فأحضر الشاي في أكواب من الصيني الثمين، مع كيكة من الفاكهة كانت هي أشهى ما تذوقته في حياتها! تشعب الحديث الودي مع السيد حتى جاء ذكر الطائرات، فصفق السيد مرة أخرى فأحضرت ثلاث أباريق شاي من الفضة الخالصة مصنوعة على شكل طائرات. أحضر أحدهم ماء في وعاء حتى يرى الضيوف اللعب وهي على سطح الماء (لا بد أن الكاتبة قصدت أن أباريق الشاي كانت على شكل سفن، وإلا فما الداعي للماء؟). غربت الشمس أو كادت فأحضرت المفارش الفخمة لأداء صلاة المغرب. لا بد أن أحد الحضور لم يكن على مذهب / طريقة السيد عبد الرحمن، فقد لاحظت أنه لم يصل مع الجماعة، بل انتحى ركنا قصيا لأداء الصلاة بمفرده. في ختام الحفل تحدثت السيدة إيزماي حديثا خاصا مع السيد/ عبد الرحمن في حضور السيد/ شوقي ثم انفض الحفل. في الشارع رأت المبنى المقابل للسرايا وكان هو المركز التجاري لهذا الأمير التاجر (لعل المقصود هو مبنى دائرة المهدي). زارت دار السيد عبد الرحمن مجددا، هذه المرة في أمدرمان، لتناول الشاي في عصر يوم 11/10/1951م وفوجئت بالرجل وهو يرتدي نظارة طبية وقد نالت منه أدواء القلب وغدا شيخا هرما في غضون شهور قليلة منذ رأته آخر مرة.
وفي يوم 8/5/1951م كانت السيدة إيزماي وزوجها في حضرة السيد/ الصديق عبد الرحمن المهدي لتناول طعام العشاء في داره الجديدة في أمدرمان. كانت دارا ضخمة تشبه فندقا عصريا أو دارا للسينما، تطل على النيل، ومؤثثة تأثيثا جيدا لكنها تفتقد حميمية البيت العائلي (لاحظ "لكن" هنا أيضا). بدا السيد/ الصديق، ودون وجود والده معه، كشخصية قوية وحاسمة. كانت وليمة ضخمة جلست فيها السيدة إيزماي بجنب السيد/ شوقي والسيد/ عبدون، ولاحظت بمزيد من الأسف غياب بعض اللمسات النسائية اللطيفة التي تضفي مزيدا من الراحة والفخامة في بيوت الأثرياء من السودانيين. في فصل آخر سجلت السيدة إيزماي مذكراتها عن حفل إفطار رمضاني في دار السيد/ الصديق المهدي في يوم 3/7/ 1951م أمه جمع غفير من الناس، كان من بينهم رجل باكستاني وزوجه تقول السيدة إيزماي إنه يعمل في تجارة مربحة في الشرق الأوسط هي الدعوة لوحدة العالم الإسلامي. شكت السيدة إيزماي في مقاصد الرجل الحقيقية، فهو لم يكن يعرف من العربية حرفا، ولم يكن مظهره يدل على أنه كان صائما أصلا، وكان يتبع السيجارة بالأخرى طوال ذلك المساء مع زوجه الاسكتلندية (التي شبهتها بساقية الحانة)!
وصفت السيدة إيزماي في فصل آخر حفل زواج ابنة مصطفي أبو العلا في سرايته بأمدرمان، وأشادت بشخصية الرجل. سجلت في يومياتها أن ذلك الحفل الأسطوري شهدته أهم شخصيات في البلاد، مثل الحاكم العام (بعربته الرولز رويس الحمراء) والسيد/ الصديق المهدي (بعربته الكاديلاك الخضراء) وجمع غفير من رجال المال والأعمال والسياسة بأزيائهم المختلفة وسحناتهم المتباينة.
من أغرب ما ذكرته السيدة إيزماي إنها ومن خلال حفل عشاء أقامته للسيد محمد أحمد المحجوب ولدكتور عبد الحليم ودكتور عبد القادر ليلة 7/ 10/ 1951م لاحظت توجهات اشتراكية عند المحجوب، وتنبأت بأنه "سيقود الحركة العمالية عندما تنهض" !!! ليس من الواضح ما الذي دعاها للوصول لهذه الدعوى العريضة!
حكت السيدة إيزماي في فصل آخر وبإسهاب عن الأعراس السودانية التي شهدتها، وعن مظاهر العرس السوداني التي كانت جديدة وغريبة عليها. لاحظت في كثير منها صغر عمر العروسة، وذكرت أن أكبر عروس شهدت حفل زفافها كانت في السابعة عشرة من العمر. لم تتذوق السيدة الموسيقى السودانية بادئ الأمر، بيد أنها زعمت أنه بمرور الوقت وكثرة التعود صارت تحب بعضا من هذه الموسيقى والغناء.
أختم بما ورد في الفصل الرابع عن رحلة السيدة إيزماي وزوجها لمصر عن طريق القطار. تحركت السيدة وبعلها من أمدرمان عند تمام السادسة صباحا، وركبت القطار من محطة السكة حديد في الخرطوم والتي تحرك منها القطار في تمام السابعة. لم تنس أن تنتقد جارتها في "قمرة" القطار والتي قالت إنها بدت سخيفة وهي ترتدي كامل زينتها وحليها الذهبية ومجوهراتها في ذلك الصباح الباكر، ولكنها – لحسن الحظ - لم تأت على ذكر كلمة "لكن" عند الحديث عن قطارات السكة حديد، والتي وصفت عربات "النوم" فيها بأنها مريحة جدا، وبها مراوح تعمل، ومراتب عليها فرش ووسائد نظيفة، وعلى النوافذ موانع لأشعة الشمس القوية. تناولت وزوجها الإفطار – وبقية الوجبات- في "بوفيه" القطار والذي قدم لهما مائدة عامرة في كل مرة. لم تلحظ شيئا يذكر في الطريق من الخرطوم إلى اتبرا غير قفر يباب، وأطفال عراة وشبه عراة يسابقون القطار، وعن هجوم من الأطفال و النساء على قمرات الركاب وهم يعرضون في إلحاح بضاعتهم من القهوة والشاي والبيض المسلوق والفواكه والطواقي وغيرها.
تعليق أخير: الكتاب مفيد جدا، خاصة للشباب السوداني لمعرفة الكثير من تفاصيل الحياة الاجتماعية في السودان في بدايات خمسينات القرن الماضي بعيون غربية ناقدة، ومهم أيضا بحسبان كاتبته من قدامى المهتمين بتعليم المرأة في السودان. كتبت مذيعة البي بي سي السودانية البريطانية زينب البدوي عن المؤلفة وقالت إنها "شخصية لا تملك إلا أن تحبها من أول لقاء معها، تشع دفئا وصدقا وعلما"، بيد أنها أبعدت النجعة قليلا وهي تصفها بأنها "مفكرة اسلامية Islamic scholar من الطراز الرفيع" !!!
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]