كيف تم اعادة انتاج التخلف في السودان؟ (2)

 


 

 


أشرنا في الحلقة الاولي من هذه الدراسة الي كيف تم إعادة إنتاج التخلف في السودان بعد الاستقلال حيث  اشتدت التبعية للعالم الخارجي أو التوجه الخارجي للاقتصاد السوداني : ديون خارجية بلغت 42 مليار دولار ،حروب أهلية ادت الي انفصال الجنوب، عدم استقرار سياسي ومصادرة الحقوق والحريات الأساسية، عجز غذائي (مجاعات )، تصنيع فاشل،..الخ، ونواصل في هذه الحلقة تشريح أسباب ذلك والتي منها: فشل الرأسمالية السودانية في قيادة النهضة وفشل الدولة السودانية في اكتمال تأسيسها.
أولا: فشل الرأسمالية السودانية في قيادة النهضة الوطنية :
علي عكس البلدان الرأسمالية المتطورة التي قادت فيها الطبقة الرأسمالية(البورجوازية) النهضة الزراعية والصناعية، فشلت الرأسمالية السودانية في ذلك، وهناك عوامل ومؤثرات وعقبات وقفت في طريق تطور ونمو الرأسمالية السودانية والتي حالت دون أن تتمكن من قيادة النهضة الصناعية والزراعية ، رغم أن بذور نشأتها كانت مبكرة ومعاصرة للثورة الصناعية في أوربا ، فقد نشأت في خضم عمليات التراكم البدائي لرأس المال التجاري في سلطنة سنار ، ويمكن أن نلخص أهم الأسباب التي أدت إلى إجهاض دور الرأسمالية السودانية في قيادة النهضة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الآتي : -
*لم تستطع الرأسمالية التجارية أن تحقق نصرا حاسما في صراعها ضد الطبقة الإقطاعية في سلطنة سنار على السلطان الذي كان يحتكر سلعتي الذهب والرقيق ، وبالتالي فشلت في الانفراد بقيادة الدولة ، كما فعلت الطبقة الرأسمالية في أوربا ، هذا فضلا عن توقف التطور الباطني الطبيعي لهذا الصراع بسبب تدخل عامل خارجي هو الاحتلال التركي للسودان .
*في فترة الحكم التركي أصبح الاقتصاد السوداني متوجها لخدمة أهداف دولة محمد على باشا في مصر والذي كان يهدف إلى تحقيق نهضة صناعية وزراعية في مصر واللحاق بركب البلدان الأوربية ، وبالتالي حال ذلك دون أن تلعب الرأسمالية السودانية دورها في النهضة .
*تميزت فترة المهدية بعدم الاستقرار والحروبات المتصلة والصراعات الداخلية والخارجية وإهمال القطاع الزراعي بسبب التهجير الواسع للمزارعين وأسرهم تلبية لنداء الجهاد مما أدى إلى تدهور الزراعة وانتشار المجاعات مثل مجاعة : سنة 1306 ه ، وبالتالي لم يكن الجو مساعدا لنمو وتطور الرأسمالية السودانية . 
*في فترة الاستعمار البريطاني للسودان ( 1898 – 1956 ) تصدت الدولة لإنشاء المشاريع الزراعية والخدمية مثل مشاريع القطن ( الجزيرة ، القاش ، طوكر ، جبال النوبة ، .... الخ ) ، السكك الحديدية والطرق الداخلية ، خزان سنار ، ميناء بور تسودان ، ... الخ. كما غزت بريطانيا السودان بالسلع الرأسمالية المستوردة، مما حال دون نمو الرأسمالية السودانية وقيادتها للنهضة الصناعية والزراعية.
*بعد الاستقلال لم تلعب الرأسمالية الوطنية دورها في النهضة رغم التسهيلات التي كانت تقدم لها، فقد ظل القطاع العام هو المهيمن.
*بعد انقلاب مايو 1969 تم تحجيم الرأسمالية الوطنية التي بدأت تلج ميدان الإنتاج الصناعي والزراعي بقرارات التأميم والمصادرة العشوائية ، ومنذ العام 1978 ، وبعد التخفيضات المتوالية للجنية السوداني بدأ ينهار الإنتاج الصناعي والزراعي وتزايد النشاط الطفيلي الذي دمر الاقتصاد السوداني بتهريب الفائض الاقتصادي للخارج .
*علي أن الدمار الكبير للاقتصاد السوداني كان بعد انقلاب 30 / يونيو / 1989 حيث سادت الرأسمالية الطفيلية الإسلاموية على حساب الفئات الرأسمالية الوطنية الأخرى، وتم تدمير الإنتاج الزراعي والصناعي، ورجعت البلاد الي اسفل سافلين في التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
* وخلاصة القول، أن الرأسمالية السودانية فشلت في قيادة النهضة الصناعية والزراعية. 
وهذا يتطلب وجود قيادة جديدة تعبر عن مصالح الكادحين تسير بالبلاد في طريق وطني ديمقراطي وتقود الدولة السودانية في اتجاه التنمية المتوازنة وترسيخ الديمقراطية بمضمونها السياسي والاقتصادي والثقافي، وتحقق المساواة الفعلية بين المرأة والرجل، واصلاح التعليم العام والعالي، والنهضة الثقافية التي تقوم علي احترام التنوع الثقافي واللغوي والديني في البلاد، وبناء الصتاعة الوطنية، وتحقيق الاصلاح الزراعي الذي يضمن تأهيل المشاريع الزراعية التي انهارت وتوفير الغذاء ويسهم في بناء النهضة الزراعية الصناعية في البلاد، والحل الشامل والعادل الديمقراطي لقضايا مناطق: دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، والشرق، والمتأثرين بالسدود..الخ،  واعادة توحيد الدولة السودانية علي أسس طوعية وديمقراطية.
ثانيا: الدولة السودانية: وماهي أسباب الفشل في استكمال تأسيسها.
بدأ الشكل الحديث للدولة السودانية في فترة الحكم التركي – المصري ( 1821 – 1885 ) ، الذي شهد مولد السودان الحديث بشكله الحالي تقريبا بعد ضم دار فور وسواكن وإقليم التاكا والمديريات الجنوبية الثلاثة ( الاستوائية ، بحر الغزال ، أعالي النيل ) .
وكان جهاز الدولة منذ تشكل وتخلق في السودان الحديث جهازا للقمع ، وكان الإنسان السوداني خلال الحقب التاريخية المختلفة للسودان الحديث يصارع ضد القهر والظلم ومن أجل الحرية ويتجلي ذلك في الثورة المهدية ضد الحكم التركي ، وثورة الاستقلال ضد الحكم الإنجليزي ، وبعد الاستقلال كانت ثورة اكتو بر 1964 ضد ديكتاتورية الفريق عبود ، وانتفاضة مارس – إبريل 1985 ضد حكم الرئيس نميري ، ومقاومة الشعب السوداني لنظام الإنقاذ وضغط المجتمع الدولي حتى تم توقيع اتفاقية نيفاشا في 9 / 1 / 2005 ، ، ولكن نظام الانقاذ أجهض الاتفاقية ، وكانت النتيجة انفصال الجنوب بشكل عدائي مما يهدد باشتعال الحرب بين الدولتين.
بعد الاستقلال واجهت الدولة الوطنية السودانية التحديات الآتية : - عدم استقرار واستمرارية التجربة الديمقراطية من جراء الانقلابات العسكرية ، ودخل السودان في الحلقة المفرغة : ديمقراطية – ديكتاتورية – ديمقراطية - ... الخ ، وتأثر جهاز الدولة بتلك الانقلابات ، وفقدت الدولة في ظل نظام الانقاذ أغلب كادرها المؤهل بسبب التشريد ، وانهارت الخدمة المدنية ، والفشل في بناء الدولة الوطنية الديمقراطية المنوط بها إحداث النهضة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية ، وتعزيز الديمقراطية والمؤسسات النيابية والدستورية ، رغم إمكانيات البلاد في القطاعين الزراعي والحيواني ، وبعد اكتشاف المعادن البترول الذي لم يتم تحويل جزء من عائداته للصناعة والزراعة والخدمات( التعليم، الصحة، ...)، لإحداث نهضة وطنية ديمقراطية عميقة تنتشل البلاد من الظلمات إلى النور ، وإلى آفاق التنمية والوحدة والسلام والتقدم الاجتماعي .
وبعد انقلاب الإنقاذ رفعت الدولة يدها عن خدمات أساسية مثل التعليم والصحة الذين دخلا دائرة الاستثمار الخاص ، وأصبحت الدولة السودانية بعد انفصال الجنوب مهددة بالمزيد من  التمزق والتشرذم وفقدان السيادة الوطنية ، فإما أن تصبح الدولة السودانية مدنية ديمقراطية تستوعب التنوع الديني والثقافي واللغوي والعرقي أو تتعرض للمزيد من التشرذم ، كما فشلت تجربة الدولة الدينية في فترة قوانين سبتمبر 1983 ، وفترة الإنقاذ والتي أفرزت حكاما طغوا في البلاد واكثروا فيها الفساد ، استغلوا الدين في السياسة ، وقهروا الناس باسم الإسلام، وسيكون مصيرها الفشل مرة أخري في محاولة اعادة انتاجها في ما يسمي بالجمهورية الثانية وفرض الدستور الآحادي.     
على أن الدولة المدنية الديمقراطية ليست وحدها الحل السحري والضمان لوحدة ما تبقي من الوطن ، فلا بد من استكمال ذلك بالتنمية المتوازنة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لكل أقاليم السودان وتوفير احتياجات المواطنين الأساسية في مستوى المعيشة اللائق والتعليم والصحة.

alsir osman [alsirbabo@yahoo.co.uk]
///////////////

 

آراء