khalidtigani@gmail.com
على الرغم من كل الإحباط والغضب الذي انتاب المنتقدين الذين استفظعوا وقائع ما جرى من تجاوزات خطيرة في المؤتمر الثامن ل"الحركة الإسلامية السودانية – نسخة المؤتمر الوطني الحاكم", وبدد آخر أمل في الإصلاح وأطفأ آخر ضوء في النفق المظلم, فليس في الأمر ما يدعو للعجب, وليس هناك أمراً جديداً ولا ممارسة معيبة مستحدثة تستدعي كل هذا الاستغراب.
فما حدث ليس وليد المؤتمر الأخير, بل تسلسل موضوعي ونتيجة منطقية لمقدمات خيارات "الحركة الإسلامية السودانية" منذ أن قررت بكامل وعيها, وملء إراداتها بأغلبية مجلس شوراها وقيادتها, اعتبار السلطة في حد ذاتها هدفها الأساسي, بالطبع تحت غطاء شعار براق "إقامة الدولة الإسلامية", ليس ذلك فحسب بل اعتبرت أن تلك الغاية تبرر وسيلة الوصول إلى السلطة بأية طريقة حتى لو كان في ذلك خيانة عهد الولاء للنظام الديمقراطي التي كانت جزءً أصيلاً ومؤثراً فيه, وأكثر من ذلك كانت مرشحة لإحراز المزيد من النجاح لو صبرت على "النظام الديمقراطي" وأسهمت في حمايته وليس الانقلاب عليه.
لا يأتي التذكير بإنقلاب "الإسلاميين" في 30 يونيو 1989, هنا من باب التبكيت على أحد, ولكن لأن تلك الفعلة فضلاً عن أنها قطعت الطريق أمام فرص تطوير واستدامة نظام ديمقراطي وحكم راشد للسودان بعد سنوات تيه الحكم العسكري في فترتي عبود ونميري, كما انها وضعت البلاد على طريق مستقبل مجهول, فقد كانت كذلك الضربة القاضية ل"الحركة الإسلامية" التي ارتضت بوعي أو بغير ذلك "عسكرة" مشروعها الفكري والسياسي حين تورطت في استخدام القوة للوثوب إلى السلطة بليل, لقد كانت تلك لحظة فارقة أحدثت تحولا استراتيجياً في مسار الحركة ومستقبلها.
لقد تغيرت قواعد اللعبة كلياً, لم يعد الثابت هو الفكرة ولا المشروع الإسلامي, بل اصبح المنتوج الجديد لعبة "السلطة" هي الثابت الوحيد, ولأن الوصول إليها تم بالقوة فلا سبيل للحفاظ عليها إلا بالقوة بكل عتوها وقهرها وانتهاكها للحقوق الإنسانية. إنها "لعنة الانقلاب", على الذات قبل أن تكون على الآخرين, التي ظلت تطارد "الإسلاميين" وفرقتهم أيدي سبأ.
لقد دخل "الإسلاميون" منذ تلك اللحظة "نفق السلطة المطلقة" في طريق ذي إتجاه واحد, حيث أصبح ارتباطهم بالسلطة ارتباط وجود ومصير, والسلطة حتى في وجود كوابح نظام ديمقراطي مفسدة, فما بالك حين تكون سلطة مطلقة, لقد تعين على الإسلاميين منذ تلك اللحظة أن يصبحوا "ضحية استحقاقات الملك العضوض" صراعاً يرتد على النحور يقوده كبار القادة المتكالبين على السلطة.
من طرائف ما رافق فعاليات المؤتمر الأخير الجدل البيزنطي حول مشروعيته في تمثيل الحركة الإسلامية بين ممثلي –نسخة المؤتمر الوطني الحاكم- بزعامة البشير, وممثلي - نسخة المؤتمر الشعبي المعارض بزعامة الترابي., وفي الواقع فإن "الحركة الإسلامية" ذات المدلول التاريخي المعلوم, التي يديرون تشاكساً عبثياً حول مشروعية تمثيلها, لم يعد لها وجودا فعليا منذ الثلاثين من يونيو 1989, ليلة ذهاب "البشير إلى القصر رئيساً, والترابي إلى السجن حبيساً" حسب التصريح الشهير الدكتور الترابي, الذي كانت تنقصه جملة بالغة الأهمية, و"ذهاب الحركة الإسلامية إلى مثواها الأخير".
لأن ما حدث هو أن التنظيم المدبر للإنقلاب كان هو أول ضحاياه حين نفذ حرفياً بإرادة وتدبير قيادته وغيبة وعي قاعدته قرار حله باتفاق القادة على طرفي الصراع اليوم, بدعوى الحاجة لحزب أكثر انفتاحاً يستوعب ضرورات الحكم, وفي الواقع لم يكن الأمر أكثر من تخلص من عبء الخضوع لمؤسسات تنظيم ترى نفسها صاحبة حق أصيل قد تضيق على القادة الانفراد بمجد السلطة الجديد, حيث ذهبوا يؤسسون تحالفات جديدة تضمن لهم الخلود في "ملك لا يبلى" على انقاض "الحركة الإسلامية" التي استخدمت أداة لغاية الوصول إلى الحكم, ثم جرى التخلص منها بعد استنفاذ غرضها.
بالطبع لا يعفى عامة "الإسلاميين" من المسؤولية أنهم استغفلوا من قبل قيادتهم, أو غاب عن وعيهم خطورة عواقب "عسكرة المشروع الغسلامي", والإشتراك في تنفيذ الإنقلاب على سلطة شرعية منتخبة, ثم قبول أكثرهم بالتحول إلى مجرد موظفين في وزرات ودواوين الحكم يتسابقون على مكاسب السلطة ومغانمها, أو قبول البعض بأن يصبح بيادق تستخدم لقمع الآخرين من أجل الحفاظ على السلطة بأي ثمن وحتى ولو كان ذلك خصماً على القيم الأخلاقية للإسلام. لقد آثر العديد من الإسلاميين الانخراط في لعبة السلطة المطلقة بكل مفاسدها المطلقة, إلا نفر قليل حاولوا منذ وقت مبكر التنبيه إلى خطورة ما يجري وطالبوا باستعادة الحركة وإحياء مؤسساتها عسى أن توقف الانجرار نحو الهاوية, وكان نصيبهم القمع والتشريد والمفارقة أن ذلك تم بائتمار مشترك بين طرفي صراع اليوم الذين كانوا حلفاء الأمس.
لقد تحولت "الحركة الإسلامية" منذ ذلك التاريخ إلى إسم على غير مسمى, مجرد خيال مآتة يوجد رسماً ويغيب فعلاً, تحولت إلى مجردة "أداة" يستخدم اسمها و"ثقل سمعتها المعنوي" عند الضرورة في توازنات لعبة السلطة والصراعات الداخلية بين الحكام الجدد.
لقد كان للعسكريين الإنقاذيين منذ وقت مبكر فضل اكتشاف خواء جراب "الحركة الإسلامية" من أية برامج جاهزة وفعالة للحكم, وقد كانوا أسرفوا حسن الظن فيما قيل لهم أن الحركة جاهزة تماماً لإدارة دولاب الدولة, فإذا هم أمام قيادة خاوية الوفاض من برامج معلومة, منهجها التجريب في كل شئ على طريقة "تعلم الحلاقة على رؤوس اليتامى", ولأن لممارسة السلطة, لا سيما المطلقة, منطقها وديناميتها فقد برز العسكريون حكاماً حقيقيون وهم يواجهون مشاكل إدارة الحكم مباشرة, وقد انفتحوا على اللعبة السياسية مما أكسبهم "شرعية مستقلة" عبر التعامل المباشر مع الجماهير, فضلاً عن مشروعية ودور المؤسسة العسكرية التي يقودونها مصطحبين معهم خبرة نظامين عسكريين سابقين في إدارة البلاد.
لقد تغيرت قواعد اللعبة مرة آخرى, وانقلب سحر "العسكريين" على ساحر "الإسلامييين", وولدت الأمة ربتها, حين رفض العسكريون خلع بذاتهم العسكرية والعودة إلى الثكنات, لقد تعين بعد سنوات قلائل على قيادة الحركة المنقلبة على النظام الديمقراطي والمنقلبة كذلك على تنظيمها إدراك أن الوضع في ظل "الإنقلاب الإسلامي" لن يكون بدعا من الانقلابات العسكرية الأخرى التي بدأت عقيدية وانتهت عسكرية خالصة, سواء ما جرى من عبرتها في السودان أو في غيره من دول المنطقة, أن العسكريين هم من يكسبون قصب السبق في نهاية الأمر في أي انقلاب عسكري على حساب شركائهم المدنيين.
كان الظن الكاذب أن انقلاب الإنقاذ "الإسلامي" ليس تحالفاً تقليدياً بين مدنيين وعسكريين, بل نفذه أعضاء ملتزمون تنظيمياً من العسكريين إلى جانب المدنيين, وأن في ذلك ضمانة كافية للالتزام والوفاء بما قيل أنه عهد يعيد بموجبه العسكريون السلطة في أجل معدود إلى "الحركة الإسلامية" التي لم يعد لها وجود فعلي.
ولأن الشعارات التطهرية التي رفعها قادة "الحكم الإسلامي" من قبيل أن الأمر كله لله لا للسلطة ولا للجاه, لم تغادر الحلاقيم كشأن غيرها من شعارات التفوق الأخلاقي التي يغدقها الإسلاميون على أنفسهم بلا رصيد من ممارسة مصدقة لذلك وفي مفارقة واضحة بين المثال والواقع المعاش كما تبين من مسيرة ربع قرن من الحكم الانقاذي في مراحله المختلفة, فقد ظهر منذ وقت مبكر الصراع للسيطرة على مفاصل السلطة واحتكار القرار بين علية القوم.
كان الصراع خفياً بادئ الأمر, وجاءت حادثة الاعتداء على الترابي في كندا التي اهتبلها معاونوه وخلصائه الأقربون استعجالاً لوراثة دوره حياً لتبرز الصراع إلى العلن, حتى وإن تأجل تصفية الحسابات بين التيارات المتصارعة إلى حين, ولكن ذلك كافياً لإعادة بناء التحالفات داخل كابينة القيادة, لقد أدرك أصفياء الترابي من مساعديه المقربون أن السفينة الناجية في لجة صراع السلطة هي سفينة العسكريين فما لبثوا أن فارقوه بغير إحسان ميممين وجوهم وجهدهم شطر المؤسسة العسكرية مستظلين بظل قاعدة السلطة الحاسمة والنفوذ القوي الذي تتمتع به, ولكن ذلك لم يكن بغير ثمن فقد تعين عليهم منذ ذلك الوقت الإلتزام بقواعد اللعبة الجديدة أن المشير عمر البشير هو صاحب الشأن والقرار, وأن "الحركة الإسلامية" التي دبرت الإنقلاب لم تعد سوى أداة يستخدم اسمها عند الضرورة لأغراض تكريس الأمر الواقع الجديد, وبات جلياً أن ما عجز الدكتور الترابي بكل كارزميته وقيادته التاريخية من تحقيقه باستخلاص السلطة من العسكريين, فقد كان من المؤكد أن تلاميذه لن ينجحوا فيه.
لم تكن محاولة إحياء "الحركة الإسلامية" واستدعائها من "القبور", والله تعالى وحده يبعث من في القبور, غداة انشقاق قادة الإنقاذ على أنفسهم في العام 1999, من قبل فريق السلطة المنتصر في النزاع سوى مسعى لقطع الطريق على الفريق الخاسر بزعامة الترابي لمنعه من استخدامها في حرمان النسخة الثانية من الإنقاذ من "المشروعية الإسلامية" الضرورية لكسب تعاطف جانب من القاعدة المنقسمة بين الفريقين.
ولم يتعد دورها منذ ذلك التاريخ دور "المحلل الشرعي" المؤكد لإسلامية النظام دون اية فاعلية تتخطى ذلك, وكان تفعيلها خطاً أحمر لأن ذلك ببساطة يزاحم "المشروعية العسكرية" الوحيدة للنظام وقد يصطدم بها إذا حاول البعض استغلالها لتعديل موازين القوة لصالحه. واخترع لها دوراً أقل شأنا مما تحظى به نظيرتيها في هيئة شؤون الأنصار أو الختمية, واصبحت ممنوعة من الاقتراب من السياسة المحتكرة ل"المؤتمر الوطني" الحاكم الخاضع هو الآخر لقيادة عسكرية. وكانت المفارقة المسكوت عنها أن قانون القوات المسلحة الذي يمنع منسوبيها من ممارسة السياسة كانت تغض الطرف عن قائدها المتزعم لحزب سياسي, ولم تحل تلك العقدة إلا شكلياً غداة الترشح للانتخابات الأخيرة قبل عامين.
لم يكن مقدراً للمؤتمر الأخير ل"الحركة الإسلامية" نسخة الجناح الحاكم, أن يجد كل هذا الزخم الإعلامي ولا تلك الأهمية التي علقها عليه البعض لولا أن موعد انعقاده الدوري تزامن مع جملة تطورات طارئة باتت تشكل تحدياً واختباراً لتوازنات السلطة داخل الفريق الحاكم, فقد كان من الممكن أن يمر خاملاً من الذكر وخالياً من الأهمية كما حدث للمؤتمرات الثلاثة الماضية, ولكن لأن هناك نذر تحولات وشيكة في بنية هرم السلطة وصراع مبكر على خلافة البشير سارت به الركبان, لا سيما أنه كرر أكثر من مرة عدم نيته الترشح لدورة قادمة, فضلاً عن محاولة التسيس التي رافقت الإعلان عن وعكته الصحية في الآونة الأخيرة, فقد أصبح المؤتمر مناسبة لسباق بين الشركاء لتشكيل قاعدة نفوذ جديدة بين يدي الصراع المحتدم في الكواليس بيين أركان الحكم على وراثة العهد.
لم يكن الأمر يتعلق بإعادة إحياء حقيقي ل"الحركة الإسلامية", ولا صراع بين دعاة إصلاح وبين مسيطرين رافضين للتغيير يريدون الحفاظ على معادلات الوضع الراهن, كما ذهب إلى ذلك بعض الذين كان يحدوهم الأمل, على الرغم من كل الخيبات والسقطات, أن يروا رشداً يعود ومراجعة جذرية لكل الأسباب التي أدت بالسودان بعد ربع من "الحكم الإسلامي" أن يصبح مقطع الأوصال وموعود بالمزيد من التشرذم, محاصراً بالحروب والصراعات في أركانه الأربعة, واقعاً تحت وصاية دولية غير مسبوقة تعج أراضيه بالقوات الدولية, يعاني أكثر من نصف سكانه على الأقل حسب الإحصائيات الرسمية من الفقر والبؤس. لم يكن المؤتمر باي حال معنياً بأجندة وطنية تنقذ السودان مما "أوقعته فيه الإنقاذ".
كان الظن أن بعض المذكرات الاحتجاجية الداعية ل"الإصلاح والتغيير" ستجد لمطالبها متنفساً في هذا المؤتمر, ولكن لأن أجندة الإصلاح المطلوب من قبل هذه التيارات الاحتجاحية ليست محددة ولا واضحة المعالم, أو أنها في أحسن الأحوال مطالب شكلية دافعها "النوستالجيا" لأيام مضت في تاريخ "الحركة الإسلامية" تدعو لإصلاح وتغيير سطحي يريد استبدال وجوه بوجوه, طابعه رجعي يريد إعادة إنتاج ما يسمى ب"مرجعية الحركة الإسلامية" وهي مرجعية لم يكن لها أي وجود منذ أن رضيت أن تذهب مختارة ل" تدفن حية", ولم تجد طوال ربع قرن من يسأل عن هذه المؤودة وبأي ذنب قتلت.
ما يزيد من مأزق الإسلام السياسي في السودان أن دعاة "الإصلاح المفترض" يشخصون أزمتها العميقة وكأنها مشكلة تنظيمية أو إدارية, وأبعد ما يذهبون إليه إلقاء اللوم على هذا الشخص أو ذاك أو تلك المجموعة المتنفذة بأنها أصل الداء, والحل في تغييرها ليديرون صراعاً دون كيشوتية مع طواحين الهواء.
وانظر مثلاً إلى أهم جدل رافق المؤتمر الأخير, لم يكن حول الخيارات الفكرية ولا البدائل السياسية ولا المراجعات الجذرية لتجربة ربع قرن في السلطة أورثت البلاد أوضاعاً مأزومة أكثر تعقيداً مما وجدتها غداة استيلائها على الحكم. لقد كان جدلاً بيزنطياً حول دستور الحركة الجديد, وليته كان حول آفاق جديدة وآوبة تسهم في إنقاذ البلاد مما هي فيه, لم يكن هناك حواراً جاداً حول مضامين الدستور وقد جرى تمريره بلا صعوبة, على الرغم من انه يبدو وكأنه دستور لجمعية كشفية, أو لحركة لا تزال تتلمس طريقها في دروب السياسة, وليس لجماعة تربعت على عرش السلطة لربعه قرن.
لكن تركز الجدل وتماسك المؤتمرون الحزز حول مسألة غاية في السطحية حول كيفية اختيار الأمين العام للحركة هل ينتخبه المؤتمر العام أو مجلس الشورى, ومسألة وجود قيادة عليا يهيمن عليها الفريق الحاكم, وكأن ذلك كان سيقود لتغيير ثوري وإصلاح جذري, وكل ذلك مجرد تحصيل حاصل والسؤال ما الذي سيفعله الأمين العام حتى لو انتخبه أفراد الشعب السوداني كافة, وليس أعضاء المؤتمر فقط, إذا كانت الحركة نفسها معطوبة لا قيمة لها, لم تجرؤ على إجراء أية مراجعات جذرية وجدية على مسيرتها الماضية, لا يعرف أعضاؤها إن كانت ميتة فتدفن أو حية لترجى.
لم يكن هناك تيار إصلاحي ولا آخر محافظ يتصارعان في المؤتمر حول رؤى أو أفكار أو سياسات جدية لتغيير مسار البلاد وإبعادها من حافة الهاوية, كان مجرد تنازع بين أفراد يتسابقون للحفاظ على السلطة أو الوصول إليها, كان الصراع حول السيطرة على قاعدة نفوذ في الصراع المحتدم على السلطة. بين من يريدون الإبقاء على المعادلة الراهنة, استمرار نفوذ قاعدة السلطة الوحيدة المستمدة من المؤسسة العسكرية, وهو ما يتطلب أن تبقى نسخة "الحركة الإسلامية" التي يريدونها مجرد جمعية خيرية مشغولة بالدعوات والعمل الصالح الذي لا وجود له, تاركة السياسة والنفوذ والسيطرة لحزب كسيح لا يعدو ان يكون هو الآخر مجرد مصلحة حكومية بائسة. ولتبقى الطبقة المسيطرة على الحاءات الثلاث, الحكومة والحزب والحركة, هي المتحكمة في كل شئ.
وكان الطرف الآخر في الصراع من يحاولون إحداث اختراق في هذا المعادلة والدخول في اللعبة باستبدال أشخاص بآخرين, وهم في الواقع ليسوا سوى أعضاء في هذه الطبقة ذاتها ولكنهم على الهامش يريدون النفاذ إلى مركزها.
لقد كان طبيعياً ومتوقعاً أن ينتصر في يوم الزينة هذا, الذي كان الغائب الوحيد عنه "عصا موسى", من يملك السلطة, قوتها ونفوذها وذهبها وسيفها, لان تلك هي قواعد اللعبة التي أرساها "الإسلاميون" في السودان منذ وصولهم إلى السلطة ب"القوة", استخدموها ضد خصومهم, وها هي ترتد على النحر يستخدمونها ضد بعضهم البعض.
لقد كان مخرجات المؤتمر الأخير, والاتهامات المتبادلة بالممارسات المتجاوزة التي رافقته, آخر تجليات مأزق "الإسلام السياسي" في نسخته السودانية, فليس متصوراً أن يأتي ملائكة ليطبقوا المشروع الذي ينادون به إذا كانت نخبتهم عاجزة عن تمثل القيم التي يدعون لها, ثم لا يرون باساً أن يحاولوا فرضها على غيرهم.
ببساطة لم يعد هناك من سبيل ما لإصلاح ما يسمى "الحركة الإسلامية" التي أثبتت أنها معطوبة إلى درجة لا يمكن إصلاحها. لقد وصلت التجربة إلى نهاية الطريق إلى صيرورتها الأخيرة, نهاية منطقية لمقدمة موضوعية لمأزق المفارقة بين المثال والواقع والعجز الكامل عن ردم الهوة السحيقة بينهما.
ليست المشكلة في الأشخاص, ولكن المعضلة الحقيقة تكمن في الفكرة والمنهج والتصورات, والتأويلات المدعاة للإسلام. ولا حل إلا بالخروج من صندوق تسييس الإسلام لصالح الأجندة والمطامح الشخصية للباحثين عن السلطة بأي ثمن بإدعاءات عريضة بإسم "الإسلام".
نقلاً من صحيفة "إيلاف" السودانية
الأربعاء 21 نوفمبر 2012