عرض لكتاب: “الرشادية: رعاة عرب في شرق السودان” .. عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]
عرض لكتاب: "الرشادية: رعاة عرب في شرق السودان"
The Rashaayda Bedouin: Arab Pastoralists of Eastern Sudan
William C. Young وليام يونق
عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
هذا عرض مختصر لكتاب عن "الرشادية" في شرق السودان صدر ضمن سلسلة "الأنثروبلوجيا الثقافية" التي تصدر عن دار نشر Cengage Learning الأميركية في عام 2002م. بدأ اهتمام المؤلف بالعالم العربي وهو طالب في مرحلة الدراسة الثانوية حين شجعته معلمة اللغة الأسبانية على دراسة الحضارة الإسلامية في إسبانيا (الأندلس). حصل المؤلف على درجة البكالوريوس والدكتوراه في الأنثروبلوجيا (علم الإنسان) من جامعة جنوب كالفورنيا، ثم قام بعمل أبحاث في مجالات القرابة والطقوس ومجتمعات الرعاة وتعلم العربية أيضا. قام بزيارات ميدانية في تونس ومصر والأردن والسودان، وعمل أستاذا زائرا في جامعة اليرموك بالأردن، وأستاذا لعلم الأنثروبلوجيا في جامعة بولاية جورجيا.
شكر المؤلف في مقدمته عددا من الذين ساعدوه من الأكاديميين السودانيين المتخصصين في علم الأنثروبلوجيا وغيرهم، وخص بالشكر والعرفان عمر بلال صديق، والذي وصفه بصديقه الأول في السودان، وقال إن يفتقد، وبشدة، ذلك الرجل الكريم الذي قدم له صورة مشرفة عن أنبل ما في السودانيين من كرم وحسن خلق وإيثار، وختم ثنائه بكلمتي "رحمه الله" (وكتبها كما تنطق بالعربية).
قسم الكتاب إلى خمسة أقسام، الأول منها يتحدث عن الحياة اليومية لبعض الرشادية بعد نهاية موسم الهجرة. عنون الكاتب الفصل الثاني الرعي والتنظيم الاجتماعي عند الرشادية، والفصل الثالث عن الثقافة وتكوين المجتمع الرشايدي، والفصل الرابع عن تاريخ وهوية الرشايدة. في الفصل الخامس لخص المؤلف في خاتمة بحثه ما قام به في بحثه الميداني، وسجل معاني بعض الكلمات والتعابير العربية الواردة في الكتاب، ومعجم للكلمات المستعملة في علم الأنثروبلوجيا وثبت للمراجع ذات العلاقة. لم تخل المراجع التي أوردها المؤلف من بعض الأخطاء، فكتاب بيتشي المعروف والمعنون
The slave trade of Eastern Africa صار عنده The slave trade of Eastern Sudan! هذا فضلا عن عديد الأخطاء في كتابة أسماء البشر والأماكن في سائر أجزاء الكتاب.
قام المؤلف بعمل دراسة حقلية اثنوغرافية (أنثروبلوجية وصفية) لقبيلة الرشايدة التي تقطن في الجزء الشمالي الشرقي للسودان، وعاش بينهم بين عامي 1978 – 1980م (ضمن الكاتب مؤلفه عددا من الصور الشخصية له منفردا ومع أفراد من تلك القبيلة وهو يرتدي زيهم). يقر المؤلف – في تواضع ينبغي أن يتصف به كل من يتصدى للبحث والنشر- بأنه لم يحط في بحثه بكل شيء عن هذه القبيلة (وأنى له !) ويقول بأنه ركز في بحثه (وكتابه)على ما يشغل علماء الأنثروبلوجيا حاليا من قضايا مثل مدي الاختلاف بين مجتمع وآخر فيما يتعلق بأمر هوية الجندر gender identity، وما هي أسباب العنصرية، وما هي أسباب تفاوت توزيع الثروة في مجتمع ما، وكيف يؤثر توزيع تلك الثروة على العلاقات الاجتماعية في المجتمع. يقر الكاتب أيضا أن ما كتبه في حينه (بداية الثمانينات من القرن الماضي) قد لا يصدق بعد عشرين أو ثلاثين عاما، ولا أعلم إن كانت دراسة شبيهة قد أجريت على تلك القبيلة في السنوات الأخيرة، ولو من باب المقارنة مع ما أجراه مؤلف هذا الكتاب أو من سبقه من الذين كتبوا عن قبيلة الرشايدة مثل بروفيسور يوسف فضل حسن في بحثه عام 1975م عن هجرة الرشايدة إلى السودان.
الفصل الأول: كتب المؤلف في الفصل الأول عن الحياة اليومية عند الرشايدة، وقرر في البدء أن الأكل والشرب والنوم وبقية الممارسات اليومية تأخذ عند القبائل الرعوية أهمية ثانوية، بينما تحظى بهائمهم وتوفير المرعى لها والاستفادة منها بالأهمية القصوى.
يستغرق رحيل الرشايدة من مكان تخييمهم إلى مكان آخر (والذي يتم عادة في الأسابيع الأخيرة من موسم الهجرة) أكثر من 24 ساعة. وصف ببعض التفصيل ما يحدث عادة في عملية الرحيل متخذا من ما تفعله إحدى نساء معسكر الرشايدة واسمها "سلوم" كحالة نموذجية. ففي يوم تفكيك المعسكر تصحو "سلوم" قبل بزوغ الشمس وتبدأ العمل وهي ترتدي قناعا ترتديه عادة النساء المتزوجات يغطي أنفها وفمها. رأها المؤلف تستخدم "هبابة" من القش لتؤجج جمر نار الليلة السابقة في موقدها (وهو عبارة عن قطعة مقعرة من معدن خردة). على يمينها توجد قرب ماء وقدور طبخ مسودة اللون. صبت قدرا محسوبا من فم قربة ماء في إحدى القدور لتصنع الشاي، ثم صاحت في عيالها لتوقظهم. رفعت عقيرتها بالصياح منادية "نافع" ولدها المراهق ليقم للصلاة: "يا نافع. قم. قم واطلب ربك". كان عليهم الاستعداد للرحيل لموقع جديد بعد أن ينزلوا خيامهم ويجرونها على الأرض إلى حيث تحمل على الجمال، مع بقية ممتلكات العائلة التي لا تتعدى حجر الرحى وجوالات الحبوب وقرب الماء وأكياس جلدية. عند الرحيل يقسم العمل عند الرشايدة بين الرجال والنساء، فالرجال عليهم رعاية الجمال ونوق اللبن وحمل بعض الأشياء الصغيرة، بينما يجب على النساء والأطفال حمل المتاع وجر الخيام إلى حيث الجمال. هذا الأعمال ضرورية بالطبع كجزء من الانتاج الرعوي. ومن جهة أخرى فإنه يجب على كل أفراد العائلة أن يعملوا على حفظ حقهم في الماء والكلأ والأرض، حتى بالقوة إن لزم الأمر. وبلغة "الماركسية الجديدة" فإن تقسيم العمل بين أفراد العائلة عند الرشايدة مبني على قواعد وسائل الانتاج وعلاقتها الاجتماعية بالإنتاج. بعد الإفطار (والذي يسمونه "فش (فك) الريق")، والذي يتناوله الرجال يمفردهم بعيدا عن النساء والأطفال، يبدأ الجميع في التحرك إلى المعسكر (الفريق) الجديد. يصف المؤلف وبدقة شديدة، ما تقوم به المرأة عند الرشايدة (ممثلة في سلوم) في عملية الاستعداد للرحيل من فريق لآخر، ويبدو من وصفه أن المرأة هي سيدة الموقف في كل عمليات التحضير والتجهيز لهذه العملية.
في الفصل الثاني تناول المؤلف ببعض التفصيل الاقتصاد الرعوي عند الرشايدة، مستعملا الفعل المضارع (خلافا لما استخدمه من الفصل الأول من فعل ماضي) لأن المؤلف يعتقد أن كثيرا مما سجله عن اقتصاد الرشايدة الرعوي بين عامي 1978م و1980م لم يتغير كثيرا عند نشر كتابه في 2002م. بيد أنه يقر أيضا بأن بعض التغيير قد حدث في حياة الرشايدة الاقتصادية استجابة لما حدث من تطورات سياسية واقتصادية في السودان وجيرانه مثل ارتريا وإثيوبيا ومصر.
تعد الملابس هي أكثر ما يمكن أن يميز هوية الرشايدة الثقافية، فرجال القبيلة يرتدون دوما عمائم طويلة (ضخمة) تختلف عن تلك التي يرتديها سكان شمال السودان، خاصة في المناسبات. قارن المؤلف عمائم رجال الرشايدة في صور التقطت لهم في العشرينات بعمائمهم اليوم ولم يشهد فرقا يذكر، غير أنه لاحظ أيضا أن الرشايدة المعاصرين قد اضافوا للعمامة طاقية ملونة يجلبونها من السعودية، لا يستخدمها السودانيون الشماليون. أشار المؤلف إلى أن السودانيين الشماليين يعدون ارتداء العمامة مظهرا عربيا يميزهم عن "الهدندوة" وتقاليدهم. فرجال الهدندوة يدهنون شعورهم ويسرحونه إلى أعلى مستخدمين أمشاطا لها أسنانا طويلة. خلص المؤلف إلى أن عمامة الرجل الرشايدي تميزه على مستويين مختلفين: العرب/ الهدندوة، والعرب السودانيين / العرب الرشايدة. تداوم النساء المتزوجات على ارتداء "قناع" وصفه المؤلف وبدقة متناهية وذكر أنه يكون عادة أسود اللون، و قد يكون في أحيان قليلة ملونا، ويضغط هذا القناع على الوجه لدرجة أنه يجعل من ترتديه تعجز عن أن تفتح فمها واسعا. يؤكد المؤلف أن هذا القناع يميز امرأة الرشايدة ولا يوجد له نظير عند سائر نساء السودان أو الدول العربية.
بالإضافة للزي، يتحدث الرشايدة اللغة العربية بلهجة مميزة تشابه اللهجة التي يتحدث بها عرب شمال غرب الجزيرة العربية، وتختلف كثيرا عن لهجات عرب شمال السودان. أورد المؤلف عددا من الأمثلة عن تلك الاختلافات، فعلى سبيل المثال يقول بعض عرب شمال السودان: "كيف حالك؟" بينما ينطقها الرشايدة :"جيف حاليش؟"
أين يسكن الرشايدة؟ استقرت قلة من الرشايدة بصورة دائمة في منازل ثابتة في المقرن (وهي مدينة صغيرة بين الدامر وعطبرة) وأم تكنة جنوب الدامر، وتقع المدينتان قرب منطقة التقاء نهر عطبرة بنهر النيل. تعيش مجموعات الرشايدة الرحل جنوب شرق فريق التكنة في خيام تنصب على ضفاف نهر عطبرة أثناء موسم الجفاف، ويرحلون بإبلهم للداخل في موسم الأمطار حين يزرعون الحبوب في المناطق المروية جيدا مثل الصافية وخور السدرة وأم شديدة، ثم يخزنون ما يحصدونه لأطول فترة ممكنة، ولا يعودون إلى ضفة نهر عطبرة مرة أخرى إلا في شهور الجفاف.
أستقر بعض من أفراد قبيلة الرشايدة في مشروع خشم القربة الزراعي بقرب الخزان الذي أقيم في ستينات القرن الماضي على رأس نهر عطبرة، ورغم استقرارهم فهم يعدون أنفسهم من "الرعاة الرحل"، بينما يسمونهم الرشايدة الآخرون "العرب اللي عاشوا في الحواشات". هؤلاء الرشايدة يسكنون في بيوت المشروع ويعملون في الزراعة وتربية الضأن غالب شهور السنة، بيد أنهم يغادرون المشروع في منتصف موسم الأمطار بخيامهم وبهائمهم متوجهين للرعي في المناطق الخلوية المحيطة بالمشروع.، ولا يعودون له إلا عند موسم الحصاد في المشروع. إذن فهنالك رشايدة من الرعاة الرحل، وهؤلاء يعيشون في مناطق شرق مشروع خشم القربة في المنطقة بين نهري عطبرة والقاش. وهؤلاء يرحلون جنوبا حتى نهر ستيت في بداية موسم الأمطار.، ثم يرجعون شمالا عند بدء موسم الجفاف. لا يرحل الرشايدة أبدا جنوب الستيت خوفا من إصابة إبلهم بمرض الذبابة، ولا يرحلون شمالا إلى ما بعد "قوز رجب" لعدم كفاية الأمطار في تلك المنطقة. استقر ، ومنذ سبعينات القرن الماضي، نحو 2000 من الرشايدة بصورة دائمة في قرية "مستورة" الواقعة جنوب غرب كسلا .
لا يمكن الحديث بتعميم عن الاقتصاد عند الرشايدة. فليس كل الرشايدة من الرعاة الرحل، وليس كلهم يمارسون ذات النشاط الإقتصادي. غالب الرشايدة هم من الرعاة الذين يعتمدون في عيشهم على منتجات حيواناتهم (الأبل والغنم والمعز) من لبن ولحم وشعر ووبر، ويبيعون أحيانا بعض حيواناتهم الحية في الأسواق، بيد أنهم لا يبيعون منتجاتها بل يستهلكونها إضافة لغذائهم الرئيس وهو الذرة والدخن (والذي يزرع على خيران المياه). بهذا فالرشايدة يعتمدون على الزراعة والرعي معا، بينما يعتمد قليل منهم على بيع المواشي، وعدد أقل على العمل بأجر في القطاع العام أو الخاص. يهاجر عدد من رشايدة السودان للعمل في السعودية لعام أو عامين ثم يعودون بما جمعوه من مال (يجب تذكر أن هذا ما كتبه المؤلف في ثمانينات القرن الماضي).
يعيش الرشايدة بحسب المؤلف في واحدة من ثلاثة "وحدات سكنية" هي الأسرة (وهي أصغر وحدة إنتاج) تعيش في بيت (خيمة) واحدة. المرأة هي التي تمتلك الخيمة (إذ أنها هي وحدها التي تستطيع صيانتها دوريا) ويسميها الرشايدة "راعية البيت". ثم هناك الأسرة الممتدة، وهي تتكون عند الرشايدة من 2 إلى 9 من الأسر (سماهم المؤلف جماعة المخيم)، وتسمى الأسرة الممتدة باسم أكبر رجل فيها. وهناك أيضا فريق (معسكر) موسم الجفاف، وهو أكبر وحدة سكنية عند الرشايدة وتتكون من نحو 15 – 30 أسر ممتدة تعيش حول بئر أو بقرب النهر من فبراير إلى منتصف يوليو. لكل فريق رئيس يسمونه "كبير الفريق".
في الفصل الثالث يصف المؤلف بعض المظاهر الثقافية والعادات عند الرشايدة. وكقارئ غير متخصص أرى أن هذا الفصل هو أضعف فصول الكتاب رغم أنه قد كتب في شكل قصصي وكأنه مذكرات زائر لجماعة غريبة الأطوار من عالم آخر. حكى وبتوسع لا يخلو من إملال (خاصة للقارئ المسلم) عن الصلاة وكيفية أداء حركاتها عند الرشايدة (وكأن صلاتهم تختلف عما يعرفه المسلم وغير المسلم) وعن مواقيتها، واكتشف أن أسماء أوقاتها (الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء) تستخدم أيضا في التوقيت اليومي!!!
ورد في هذا الفصل سرد لبعض المعتقدات عند الرشايدة عن الأمور الغيبية مثل الملائكة والجن والسحر وغير ذلك مما هو سائد ومشهور في غالب المجتمعات الإسلامية. فعلى سبيل المثال كتب المؤلف يقول إن الرجل من الرشايدة عندما يجد نفسه في منطقة بعيدة وغير مأهولة فإنه يستعيذ من الشيطان ويقرأ سورة الفاتحة، ويقرأها كذلك عند دخوله للمقابر ترحما على الأموات، ويقرأها كذلك عندما يجد نفسه في خيمته لأسباب عديدة، بينما تذكر المرأة "راعية البيت" وهي تصنع أو تقدم القهوة الله أو أحد "الأولياء" فتردد مثلا: الفاتحة لله في سبيل الله ****** الله يفتح علينا الخير وأبوابه **** ويقفل عنا الشر وشراكه. وقد تردد أيضا: يا الشاذلي أبو الحسن ***** والأنبياء والمرسلين
يقوم من يستمعون إليها برفع أياديهم عاليا ويرددون سرا أول آية في القرآن، ثم تصب بعد ذلك المرأة القهوة. يعد الرشايدة الخيمة أنسب مكان لدعاء الرب وقراءة الفاتحة لأن الله لا يهجر مكانا مسكونا ولا يضيع ساكنيه. لذا يقوم الرشايدة بممارسة كل طقوسهم مثل القران والولادة وتسمية المولود والختان في داخل الخيمة (وليس خارجها).
في الفصل الرابع والأخير، تناول المؤلف التاريخ والهوية عند الرشايدة فيقرر أن الرشايدة هاجروا للسودان في عام 1860م بعد سنوات طويلة جدا من دخول العرب للسودان، بيد أن لا أحد يعرف على وجه الدقة من أين أتوا. هنالك من يعتقد أنهم أتوا للسودان من الحجاز (تحديدا من منطقة قريبة من مكة) لأن هنالك إلى الآن أفرادا من الرحل في تلك المنطقة يطلقون على أنفسهم "رشايدة"، بل إن هنالك ما لا يقل عن ستة مجموعات سكانية تعيش في المنطقة المطلة على البحر الأحمر بين مكة وشمال السعودية تسمى نفسها أيضا "رشايدة". وفي الكويت أيضا توجد مجموعات مختلفة من "الرشايدة"، وفي الأردن توجد أربعة مجموعات تنصف نفسها على أنها "رشايدة" بيد أنه ما من واحدة من هذه المجموعات في كل البلدان المذكورة تزعم أن لها صلة نسب أو عرق بالمجموعات الأخرى رغم تشابه الملابس التي يرتديها "الرشايدة" حيثما وجدوا، خاصة "البرقع" الذي تحافظ نساء الرشايدة في كل مكان على وضعه. هنالك من ينفي أي صلة لرشايدة السودان برشايدة مكة إذ أن للفروع الثلاثة الرئيسة للرشايدة في السودان أسماء لا تجدها عند الرشايدة في الحجاز.
تناول المؤلف في هذا الفصل ببعض التوسع هوية الرشايدة المرتبطة بالبداوة والرعي، وهي هوية يحرص الرشايدة على إبرازها والتمسك بها. بيد أنه يجب ملاحظة التغيرات التي صاحبت الهوية المميزة لهم في العقود الماضية عند بعض من سكنوا بالقرب من البحر الأحمر واتخذوا من التجارة (بالمراكب الصغيرة) بين السودان والسعودية مصدرا لعيشهم.
يزعم الرشايدة أنهم، وعند هجرتهم للسودان، جلبوا معهم على ظهور القوارب أنواعا جديدة من الأبل لم تكن موجودة في السودان من قبل. عند وصولهم للسودان اشتغل الرشايدة برعي الحيوانات (ومنها الماشية، والتي تحتاج تربيتها لحفر آبار) وزراعة الذرة التي تحتاج لأرض خصبة . قاوم الهدندوة وبنو عامر دخول الرشايدة لأرضهم، وحدثت في الماضي مصادمات دموية بينهم انسحب على إثرها الرشايدة إلى الداخل بعيدا عن الساحل.
في فترة المهدية (1884 – 1898م) كان على الرشايدة أن يختاروا ما بين الانحياز للمهدويين (تحت إمرة الهدندوة، أعداء الرشايدة التقليديين لعقدين من الزمان) أو الوقوف مع الحكم التركي. كان ذلك هو ما وضعه أمامهم الأمير المهدوي "أبو قرجة" بعد أن قتل بعض رجال الرشايدة ممن صادفهم في طريق جيشه الذي كان يحاصر سواكن. لم يقبل كثير من الرشايدة بأي من الخيارين، وآثروا الهجرة لإرتريا، وبقوا فيها حتى عام 1900م قبل الأوبة للسودان بعد زوال دولة المهدية، حيث استقروا في المنطقة بين نهري عطبرة والقاش كرعاة للإبل. ظل الرعي هو الصفة الملازمة لمعظمهم حتى عام 1962م، حين أنشأت حكومة الفريق عبود مشروع خشم القربة الزراعي، والذي حرم الرشايدة من الأراضي التي كانوا يرعون فيها إبلهم مما دعا كثيرا منهم لهجر مهنة الرعي.
ألمح الكاتب إلى أن بعض الرشايدة (وضرب مثالا لذلك بحالة واحدة!) يتعاملون مع "السودانيين الآخرين" بسلوك لا يخلو من "عنصرية racism" و"عرقية ethnocentrism" ، بيد أنه أشار أيضا أن الرشايدة قد يقعون ضحايا لذات السلوك العنصري/ العرقي من السودانيين الآخرين. ضرب المؤلف لذلك مثالا بما قاله له طلاب في مدرسة كسلا الثانوية عندما علموا منه أنه يجري بحثا عن الرشايدة، فقالوا له: "تقصد الزبيدية؟". لم يصدقوه عندما حاول لهم شرح الخطأ في تسمية الرشايدة بالزبيدية، بل مضوا يتحدثون عن أصل "هؤلاء الناس" ويسألونه: "هل هم من الحلب"؟ يقول المؤلف أنه أدرك لاحقا أن استخدام كلمة "حلب" قد لا تخلو من شبهة تحقير وانتقاص للأصل العرقي عند السودانيين. في الجانب الآخر يقول المؤلف أن الرشايدة يلجأون في مواجهة محاولة الانتقاص من أصلهم بإطلاق الفاظ عنصرية مسيئة على من يهاجموهم، ويصفون أنفسهم بأنهم "احرار" وليسوا "عبيدا" (مثل مهاجميهم).
تناول المؤلف أمرا "ملتبسا" آخر وهو تجارة الرقيق عند الرشايدة، ويقول بأنه كان للرشايدة "عبيد" في حوالي عام 1890م، إذا كانوا يعيشون في المناطق التي كانت معابر لقوافل الرقيق الذاهبة للجزيرة العربية من جنوب السودان وغرب أثيوبيا، وكانت تجارة الرقيق حينها تجارة مربحة ومغرية لهم، خاصة وأنهم يجيدون استخدام الأسلحة النارية، ويحتاجون لأيدي عاملة في عملية الانتاج الرعوي الذي كانوا يمارسونه. بالطبع لم يكن الرشادية أول من مارس هذه التجارة، إذ أنها كانت رائجة وشائعة بين مصر والسودان قبل دخول الرشايدة للسودان، ولعلها بدأت في عهود فراعنة مصر منذ آلاف السنين. يختم الكاتب هذا الجزء من كتابه بتبرئة الرشايدة كقبيلة من وصمة تجارة الرقيق، ويقول إن عددا قليلا فقط من رجال الرشايدة هم من انغمسوا في عمليات الاتجار بالبشر، خاصة مع الجزيرة العربية. سطر المؤلف كل ذلك في يسر وجزافية دون إيراد معلومات أكيدة أو اعتماد على مصادر موثوقة (ولا يملك المرء إلا يقارن بين ما أتى به المؤلف في كتابه مع ما كتب بتوثيق عن تاريخ الرق في السودان بقلم منصور خالد ومحمد أ. نقد وعدد كبير من الكتاب الغربيين).
أورد المؤلف أيضا في هذا الفصل طرفا من عادات الرشايدة في أمور العلاقات بين الرجال والنساء والزواج وطقوسه المختلفة مدعما بحثه بصور بالأبيض والأسود كثيرة ومتنوعة ولكنها متردية المستوى الفني.
يقول المؤلف إن ذكرى رشايدة السودان (والإسلام) ظلت عالقة بذهنه حتى بعد أن أكمل بحثه وقادته الأقدار للعمل في بلدان عربية وإسلامية أخرى، ولم يكف عن المقارنة – كما قال- بينهم وبين من صادفهم لاحقا من بدو رحل.
بالنظر إلى قلة المنشور من الدراسات الأنثربولوجية عن الرشادية، فإن هذا الكتاب يعد إضافة مفيدة لهذا النوع من الأبحاث عن مجتمعات البدو الرحل، ولعل مادة هذا الكتاب (رغم قدمها الزمني الان) تدرس في بعض الجامعات الأميريكية كمثال لاقتصاديات الرعي والرعاة الرحل. يحمد - بالطبع – للكاتب الأميركي قيامه بهذه الدراسة الميدانية تحت ظروف لا بد أنها كانت قاسية جدا (فلا غرو إن فر من هذا النوع من الدراسات الميدانية كثير من متعلمي السودانيين!). يعيب الكتاب كما ألمحنا فيما سبق ميله إلى التعميم الكاسح في بعض الأحيان، وقلة احتفائه بالتوثيق وإيراد المصادر والمعلومات المؤكدة (مثل حديثه المعمم عن الرق عند الرشايدة، واعتماده على حديث واحد أو اثنين من الرشايدة للوصول إلى نتيجة ما عن سائر القبيلة). كذلك برز عندي سؤال "أخلاقي" يتعلق بما صرح به المؤلف من تخوفه من العيش في بيئة مسلمة وهو رجل غير مسلم، الأمر الذي كان سيخلق حاجزا بينه وبين من سيقوم بدراسة حياتهم واقتصادهم وعاداتهم. كان حل تلك "المشكلة" عند أحد أساتذته يسيرا جدا. قال له: "لماذا لا تغير دينك وتعلن عن إسلامك خلال إقامتك معهم؟" ولعل المؤلف استحسن ذلك الاقتراح وعمل به (تماما مثلما فعل السير ريتشارد بيرتون عندما قصد مكة في 1863م!).
يتمنى المرء أن يقرأ دراسات حديثة مشابهة لدراسة الدكتور يونق، عن هذه القبيلة وغيرها، يقوم بها سودانيون (وأجانب) من أجل فهم أعمق لحياة ومعيشة المجموعات السكانية التي تضمها حدود هذا البلد المترامي الأطراف مما سيؤدي لتعايش سلمي وعلاقات إنسانية وفهم أعمق بين هذه المجموعات السكانية المختلفة.