الواثق كمير وحظوظ خطة “هبوط آمن”

 


 

 


khalidtigani@gmail.com

حالة حيرة غير مسبوقة يعيشها السودانيون، لا شيء يبعث على الإطمئنان إطلاقاً، كل شيء يبدو غامضاً مبهماً، عديم الثبات والاستقرار، حالة فريدة من الخوف من المجهول لم يألفوها من قبل، ولم يعهدوا لها مثيلاً، ولا يعرفون إلى أين هم مساقون، وماذا تخبئ لهم الأقدار.  ومع ذلك باخت الكتابة من كثرة التحذير مما هو آت في ظل فراغ عريض، وخلو الساحة السياسية السودانية من مبادرات خلاقة وفعَّالة، وانصراف غير مقبول من البحث الجدِّي عن مخرج آمن عاجل غير آجل.
والسودان يعيش حالة فراغ مرتهن بين حالتي استقطاب حادَّتين تعكسان حالة توازن ضعف أكثر مما هو نتاج توازن قوة بين الفاعلين في الساحة السياسية. طبقة حاكمة لا تجهل حقيقة خطورة الوضع الذي تجابهه البلاد على الصعد كافـَّة، خلافاً لما يظنه كثيرون من أن قادة الحكم لا يدرون ولا يحسُّون بخطورة ما يجري على أرض الواقع، ولكنها مع ذلك تميل إلى الاستخفاف بالتبعات والتداعيات عن وعي وإدراك، تتعاطى مع الوضع المأزوم الحالي وكأنه شر يمكن اجتنابه بحيل السياسة وخداعها، وشراء الوقت، لإطالة أجَل الحكم، وتراهن على رجاء مبهم بألا شيء سيئ سيحدث يسلبها سلطانها، وستسير الأمور سيرها المعتاد، ما دام لم يشغب عليها أحد باحتجاجات  تؤرِّق مضجعها، وما دامت تملك ذهب المعز وسيفه، ولديها القدرة على عقد الصفقات الثنائية واقتسام الغنائم مع من ينازعونها السلطة بقوة البندقية.
والقطب الثاني في المعادلة السودانية الصفرية التي ترتهن البلاد لهذه الحالة الفريدة من الفراغ المخيف هو المعارضة بشقيها المدني والعسكري، الوجه الآخر من عملة ضعف الفاعلين في الساحة السياسية، والتي تعاني هي الأخرى حالة انقسام حاد حتى حول هدف إسقاط النظام الذي يجمعهم نظرياً على صعيد واحد، والأمر هنا لا يتعلق بالجدل حول الوسيلة المناسبة لإطاحة النظام سلمياً أم بالقوة المسلحة، ولكن في عجزها مع كل الظروف المواتية من اخفاقات الحكم في خلق معارضة شعبية قوية لانها ببساطة لم تستطع أن تكون عاملَ إلهامٍ للأجيال الصاعدة الراغبة بشدة في التغيير، ولا أن تنتدب نفسها لقيادتهم في دور جديد. لأن الصراع يبدو أقرب إلى نزاع حول مغانم السلطة والثروة أكثر من كونه صراعاً حول رؤى وأفكار ومشروع وطني مستقبلي للبلاد. وقد رأى الناس كيف خيبت هذه المعارضة آمال الشباب المنتفض منتصف العام الماضي، وقد جلس الزعماء ينتظرون حصد تضحيات وفداء المنتفضين بلا نضال.
وفي الواقع إن سبباً أساسياً لهذه الضبابية يعود إلى أن المعارضة بشقيها مع رفعها لدعاوى إسقاط النظام، إلا أن أغلبها يحتفظ بخطوط خلفية مستعدَّة للتفاوض مع الحكم، بما في ذلك الحركة الشعبية. ولعل ذلك يفسِّر أيضاً سبب تَمنُّع الطبقة الحاكمة من التفاوض حول تسوية شاملة، لإحساسها بأنها تملك ورقة أخيرة قد تلجأ مضطَّرة إلى استخدامها في لعبتها المفضلة، عقد المزيد من الصفقات الثنائية مع كثرة الراغبين في ذلك من قوى المعارضة، ولا ترى نفسها مضطرة للذهاب إلى حلٍّ نهائيٍّ شاملٍ للأزمة السودانية. وهي وصفة مجربة ساعدتها في البقاء في دست الحكم لربع قرن دون النظر بالضرورة إلى كلفة ذلك الباهظة على حساب الوطن.
حالة اللا- رؤية، واللا - حسم هذه التي تطغى على المشهد السياسي السوداني في ظل أوضاع منذرة اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً مرشحة لأخذ البلاد إلى مصير مجهول، هي بالتحديد التي تضفي قيمة ثمينة لخارطة الطريق التي طرحها الدكتور الواثق كمير من أجل "هبوط آمن" ينقذ وطناً مخطوفاً من مصير بائس، في مقال من العيار الثقيل حمَلَ عنوان" الكرة في ملعب الرئيس.. تفكُّك الدولة السودانية : السيناريو الأكثر ترجيحاً" الذي نشرته العديد من الصحف والمواقع الإكترونية أخيراً، لقد جاء بمثابة حجر ألقي في بركة آسنة وفي الوقت المناسب تماماً.
لست هنا بصدد تقديم خلاصات مُبْتَسَرَةٍ للسيناريوهات التي طرحها الدكتور الواثق لأن ذلك يخلّ بدقة وترابط التحليل العميق الذي ساقه ببراعة في سياق التطورات والمعطيات الداخلية والخارجية لتشخيص الحالة السودانية وتجلياتها المحتملة. وأجد نفسي متفقاً جملة وتفصيلاً مع القراءة العميقة التي تضمنها المقال الرصين، والمبادرة التي حملها، بيد أنني من أجل إثارة المزيد من النقاش حوله سأركِّز على تناول ردود الفعل عليه، وحظوظ تعويله على الرئيس عمر البشير الذي توجه إليه بنداء قيادة مهمة "الخروج الآمن الأخير" من بين براثن الأزمة.
وهي زبدة مبادرته إذ رأى أنه "مازال لدى الرئيس البشير فرصة ذهبية في لعب دور تأريخي حاسم، الأمر الذي سيحوِّله إلى بطلٍ قوميٍّ وزعيمٍ سياسيٍّ، يقود من خلاله عملية توافُقٍ سياسي على برنامج وطني يستجيب للتحديات الجسام التي تكتنف الأزمة الوطنية الماثلة، وعلى آليات تنفيذه. فلدى الرئيس صلاحيات دستوريَّة واسعة تتيح له تطوير حزمة من الإجراءات والتدابير اللازمة التي من شأنها أن تجنِّب تدهور الأزمة والانحدار نحو سيناريو تفكك الدولة السودانية". 
لا يحتاج الدكتور الواثق بالطبع إلى تعريف ولا إلى تقريظ، غير أنه من المهم الإشارة إلى إسهاماته الفكرية الإصلاحية كمثقف وناشط سياسي من منطلق موقف وطني مستقل، فلم يبخل حتى وهو ملتزم تنظيمياً بالحركة الشعبية من توجيه النصح إليها علانية للعودة إلى منصة التأسيس في مقال مشهور في العام 2009، وهو يدعوها لتدارك الإنزلاق المتسارع نحو الانفصال حينها مفارقة بغير إحسان لدعوتها الوحدوية لسودان جديد.
وتحلى الدكتور الواثق- والرأيُ قبلَ شجاعةِ الشجعان- بالكثير من الشجاعة والمسؤولية الوطنية مرة أخرى وهو يقدم خارطة طريق لـ "هبوط آمن"، يكسبها صدقية أنه يطلقها من الضفة الأخرى، ويعلم سلفاً أنها ستثير غضب الكثير من خصوم عنيدين للنظام الذين لا يرون بديلاً لغير سقوطه واقتلاعه من جذوره، بيد أن هناك خيطاً رفيعاً بين الآمال المرجوَّة والوقائع المريرة تتحكَّم فيها حسابات السياسة وتوازنات القوى، وهي ليست لعبة تجرى في واقع افتراضي، ولكنها معركة صعبة المِراسِ على جسدِ وطنٍ مثخنٍ بالجراح، لا يحتاج إلى المزيد من المغامرات الممهورة  بدماء وتضحيات يدفعها عادة الأبرياء من عامة المواطنين وليست النُخب المتصارعة على السلطة.
بالطبع لا أحد يزعم، ولا حتى الواثق نفسه، أن خارطة الطريق التي اقترحها للخروج من الأزمة الوطنية الشاملة هي الوسيلة المثالية لتحقيق هذا الهدف، ولا هي السيناريو الوحيد المتاح، ولكنها تقع في دائرة الممكن بحسابات واقع توازنات القوى الراهن بين الحكم والمعارضة، والمعطيات المتاحة في حسابات القوى الدولية المؤثرة في المعادلة السودانية. وتفرضها الخشية من سوق البلاد إلى سيناريو صراع انتحاري لن يفيد منه أحد لا الحكم ولا معارضوه، ولا القوى الدولية التي تخشى تبعات المزيد من التفكيك للدولة السودانية التي تدرك جيداً تداعياته، فضلاً عن الكلفة الإنسانية الباهظة في بلد أزهق الصراع الدموي فيه ملايين البشر.
وأوضاع السودان أكثر تعقيداً بكثير من بلدان الربيع العربي ولن يكون بوسعه تحمل السيناريو الليبي ولا السوري دون أن تتفرق البلاد أيدي سبأ في ظل انتشار الحركات الثورية المسلحة في طول البلاد وعرضها. نعم هناك حاجة ملحة للتغيير ولكن ليس بأي ثمن. 
ومن المهم الإشارة هنا إلى  مغالطة شائعة في توصيف الحالة السودانية وكأن البلاد لا تزال في انتظار ثورة ستندلع يوماً ما، مع أن السودان يشهد بالفعل حالة ثورية من أجل التغيير بدأت منذ وقت طويل بمطلب الجنوب بالفدرالية، لكن عقلية ساسة المركز السائدة منذ الاستقلال التي ظلت تنكر مطالب إدارة التَّنوُّع في البلاد بعدل وقسط وتنمية متوازنة بما يستوعب تطلعات كل أهل البلاد، هي التي أدَّت في نهاية الامر إلى تحوُّل تلك المطالب السلمية إلى تمردات مسلحة، وجرى تصوير الأمر في الوعي العام بأنه صراع تشعله تدخلات خارجية، وفي الواقع لم يكن تقسيم السودان وانفصال الجنوب إلا ثمرة لعجز نخب السياسية التي توالت على دست الحكم في التجاوب مع مطالب متواضعة ومشروعة في الوقت المناسب.
والعجز عن تصوُّر الحالة الثورية المتواصلة في السودان هو أحد آفات ثقافة المركز التي لا ترى السودان إلا بعيون نخبتها، أما مطالب الآخرين من شركاء الوطن فهي لا تعدو أن تكون نعرات وعصبية هامش لا ترى لهم حقاً أصيلاً يتجاوز الإرداف في غنائم السلطة. ونموذج الثورة في ذهنية الثقافة المركزية هي ما أنتجته في أكتوبر وأبريل فحسب، وكأن كل الذين عمدوا إلى التمرد المسلح فعلوا ذلك تلذذاً بالموت والدمار وليس لأن المضطر يركب الصعب حين تصم الآذان وتعمى القلوب عن فضيلة تأسيس دولة على مشروع وطني جامع. 
والمؤسف أننا لم نتعلم شيئاً من درس فصل الجنوب القاسي، وها هو سيناريو الإنكار يُعاد بحذافيره مع أزمات الوطن الراهنة، وقد لا ننتظر طويلاً بحساب سنوات أزمة الحكم الوطني في الجنوب، لنعيد الوصول النتيجة المؤسفة ذاتها مع أزمة الحكم في دارفور، وكذلك في النيل الأزرق وجنوب كردفان، وحينها لن تجد أحداً من الذين يتبَّنون خيارات صفرية اليوم من قادة الحكم يدفع ثمن ذلك، سيدفعه المواطن البسيط الذي يشهد بلاده تُفكك طرفاً بعد طرف بفعل سياسات خرقاء لم تنس شيئاً ولم تتعلم شيئاً. 
ومن المهم الإشارة إلى أن الواثق لم يرم مبادرته من فراغ فقد عكف عليها دهراً، وأوثقها بحوارات مطوَّلة من وراء الكواليس عبر الأسافير، وهو في عادة حميدة ومفيدة للغاية يشرك أصدقاءه ومعارفه العديدين والمهتمين، ومن بينهم سياسيين ممارسين، في إنضاج أفكار مقالاته وتحليلاته على نار هادئة قبل أن يذهب بها إلى الرأي العام.
وجوهر الخطة التي طرحها والداعية لحوار يبتدره ويقوده الرئيس البشير في مهمة انتقالية ما كان ينبغي أن تواجه بنقد لاذع من الذين لا يرون بديلاً لإسقاط النظام لسبب وجيه هو أنه حتى القوى الثورية الداعية لتغيير النظام بالقوة تعتبر ذلك وسيلة ثانية في ترتيب أولوياتها، وليس هدفاً في حد ذاته وتلجأ إليه إذا تعذَّرت الحلول السلمية، ولذلك تجدها تسعى للتفاوض مع الحكم القائم رغم كل التناقضات بين موقف الطرفين وهو ما يجعل الكرة في ملعب الرئيس فعلاً وليس مجازاً لأنه الطرف الذي يتحمَّل المسؤولية الأكبر ويملك القدرة إن توفَّرت له الإرادة أن يجنِّب البلاد مشقَّة التغيير، وهذا يجعل رفض خطة الواثق لمجرد تفكير رغبوي أمراً غير موضوعي لا يضع اعتباراً لتبعات تغيير استئصالي غير ممكن واقعياً، فضلاً عن كلفته الباهظة التي ستدُقُّ المسمارَ الأخيرَ في نعشِ وحدةِ ما تبقَّى من أرض السودان.
وأهمية خطة الواثق أنها تعيد ترتيب الأولويات الوطنية في ظل مخاطر متسارعة غير مسبوقة، أولها توطين الحوار بين الأطراف السودانية واستعادة المبادرة إلى الداخل، فإذا كانت أطراف الأزمة السودانية المختلفة مستعدَّة للتفاوض مع بعضها فلماذا تفعل ذلك في الخارج؟, وهي خطوة مهمة لإنهاء حالة إدمان التفاوض الخارجي، بالطبع هذا التوطين يحتاج إلى خطوات وإجراءات بناء ثقة وتوفير حرية حقيقة، وكذلك الكف عن التضييق على المعارضين وهذا بلا شك مسؤولية الطرف الحاكم وكفالتها بلا تردُّد ولا تلاعب هي السبيل الوحيد لتأكيد الجدية وردم هوة انعدام الثقة. ولا غنًى عنها من أجل حوار وحراك سياسي مسؤول.
والأمر الثاني أن هذه الخطة تدعو لحوار وطني شامل يشارك فيه الجميع للوصول إلى حلٍّ كليٍّ ومتكامل يعالج جذور الأزمة الوطنية، إذ لم يعد بذي نفع استمرار عقلية الحلول الجزئية وعقد الصفقات المرحلية وهي آفة نجح النظام في توريط كل القوى السياسية المعارضة الوقوع تحت براثنها في فترات مختلفة من حكمه الطويل.
ولئن سارع البعض من خصوم النظام إلى انتقاد هذه الخطة وإبداء الزهد فيها بحجة أساسية أن المشكلة باتت تتمثل في الرئيس البشير نفسه، ولذلك لا يمكن أن يكون هو صاحب الحل، فقد وجدت اهتماماً لافتاً  في الأوساط الدبلوماسية بالخرطوم لا سيما من ممثِّلي القوى الغربية دافعه استشعارها المتأخر خطورة ترك السودان يتفكَّك وتبعات ذلك على مصالحها، وهو ما ظهر جلياً في الآونة الأخيرة في محاولتها تشجيع الأطراف السودانية على الدخول في عملية دستورية من أجل التغيير السلمي، وهي وإن كانت تتَّسم بالبطء إلا أنها تبقى الخيار الآمن الوحيد المتاح في ظل التعقيدات المحيطة بالمسألة السودانية. وهو ما يعني عملياً أنها تتفق مع رجحان سيناريو تفكك الدولة السودانية الذي حذَّرت منه خطَّة الواثق ما لم يتم تدارُكُها بحلٍّ وطني شاملٍ واسعِ الأفقِ بعيدِ النظرِ عظيمِ التضحيات.
بيد أن ما يثير السخرية حقاً أن لا أحد من طرف حزب المؤتمر الوطني الحاكم المعني أصلاً بخطة الطريق الثالث هذه، على كثرة المتحدثين باسمه في كل (فارغة ومقدودة)، وعلى كثرة صحفه التي تزدحم بها أرفف المكتبات، لم يفتحِ اللهُ على أحد منهم بتعليق ذي بال، وكأن الأمر لا يعنيهم أو أنَّهم لا يدركون أهمِّية إحداث حراك سياسي إيجابي لصالح حوار وطني مسؤول للخروج الآمن من الأزمة الوطنية الشاملة، وتلك الغفلة هي تجسيد مثالي لِمَدَى المأزق الذي ورطت فيه النخبة الحاكمة البلاد. وكان الأجدر بهم أن يرحِّبوا على الأقل بهذه الخطوة تعبيراً عن إحساس بالمسؤولية أولاً، ولأنه اقترح حلاً يُبتدر من داخل "البيت الإنقاذي".
والمأزق الأساسي في الحالة السودانية تتحمَّل مسؤوليته الأولى الطبقة الحاكمة بسبب افتقارها لمشروع وطني، ودعك من الشعارات الهلامية المرفوعة باسم الإسلام التي عجزت عن تحقيق مقاصده وتمثل قيمه حقاً، إذ لا تبدو معنيَّةً بغير تكتيكاتِ الإبقاءِ على قبضتها على السلطة، في ظل فقرٍ مدقعٍ للمسؤولية الاخلاقية والمرؤة الوطنية في انقاذ البلاد والعباد حقاً من شرٍّ مستطيرٍ وشيكٍ، فهي تدرك أكثر من غيرها بالتأكيد حجم الأزمة التي انزلقت إليها البلادُ، وتعرف جيداً المخاطرَ المترتبةَ على ذلك، ولكن عندما تطغى الأجندة الذاتية على المصالح العامة، وتعلو غريزة حبِّ البقاء على واجب التضحية والفداء الذي يُزين للصغار وينأى عنه الكبار، ينحرف المسار بحثاً عن محاربة طواحين الهواء ومحاولة تزين المأزق بأنه صراع مع معارضين يستهدفون قيم الدين، لاستثارة تعاطف غمار الناس، ولا تلقي بالاً إلى أن عامة المواطنين هم المكتوون حقاً بما يجري، وباتوا هم أصحاب المصلحة الحقيقية الذين يتطلعون إلى تسوية وطنية تقيل عثرتهم، وتخفف عذابهم، وتحمِل لهم بعض الأمل في ظل ظلام حالك.
وقد حالف د. الواثق التوفيق وهو يتوجه بندائه للرئيس البشير شخصياً، فالمؤتمر الوطني يثبت مرة بعد الأخرى أنه لا يعدو أن يكون مجرد مصلحة حكومية اقتضت وجوده ضرورة أغراض الزينة السياسية للحكم، يفتقر إلى أي وجود حقيقي خارج ظل الرئيس، والطريف أن أكبر مسؤول فيه أعلن صراحة أن الشعبية هي شعبية البشير، وليس الحزب المفترض أنه حاكم، ولن يستطيع الحياة يوماً واحداً خارج حاضنة السلطة، إذ يفتقر لأدنى درجات روح المبادرة السياسية، تجتمع مؤسساته بانتظام لتعرف اتجاه الرئيس لتدور حيث يدور، حزبٌ عَجِزَ أن يحققَ أدنَى قدرٍ من الإصلاح على كثرة تململ قواعده ودعوتها لتغييرات محددودة وخجولة.
هذا التوصيف لحالة "الحزب الحاكم"!! تبرِّر موضوعياً التعويل على الرئيس البشير شخصياً في قيادة أية محاولة (هبوط آمن) للأزمة السودانية، لأن تشريح طبيعة النظام وتوازناته الراهنة تقود إلى افتراض أساسي، أن مصدر السلطة وصاحب القرار ومحور القوة الوحيد في النظام هو الرئيس البشير، صحيح أن هناك الكثير من الأسماء حول الرئيس لكنها جميعاً تستمد وجودها في اللعبة وحدود دورها ومدى تأثيرها منه، ولا غرو في ذلك فالإسلاميون منذ أن قرروا عسكرة مشروعهم السياسي عشية الانقلاب "الإنقاذي"، جعلوا شرعية السلطة مستمدَّة من البندقية، والعسكريون بالطبع هم أقدر من يفهم لغتها، ويحسن اتقان لعبتها لا سيما في ظل سلطة مطلقة، ولذلك انقلب السحر على الساحر وخسر قادتها الرهان الواحد تلو الآخر، وتحوَّلت الحركة وقادتها ومشروعها وقواعدها إلى مجرد خيالات مآتة تحت ظل نظام عسكري كامل الدسم.
ويبقى سؤال المليون دولار، كيف سيتجاوب الرئيس البشير مع هذا النداء، وكيف سيتعامل مع مقترحاته؟من المؤكد أن البشير ظلَّ منذ وقت طويل يقلِّب خياراته ويعيد ترتيب حساباته، أما من جهة "البيت الإنقاذي الداخلي" فقد تعزَّزت قيادته وسلطته أكثر من أي وقت مضى، ليس آخرها تكريس زعامته لـ"الحركة الإسلامية" الموالية له عقب مؤتمرها الاخير، وكانت آخر معقل "معنوي" خارج قيادته الكاملة.
أما على صعيد "المؤتمر الوطني" فكل الدلائل تشير إلى أن البشير سيكون المرشح الوحيد لحزبه، فالأحاديث عن تنحيه وعدم خوضه للانتخابات القادمة حال قيامها، كانت مجرد بالونات اختبار وتكتيكات تنفيس احتقان وقتي، فضلاً عن ألا أحد يبدو مستعداً لمجرد طرح اسمه كخليفة محتمل، وكانت أهمّ الرسائل في موضوع الخليفة المحتمل، في حالة الضرورة القصوى، صعود نجم الفريق بكري حسن صالح في سلم قيادة "الحركة الإسلامية" وهو ما يعني على الأقل أن شرعية النظام "عسكرية" وستظل "عسكرية" ما دامت السلطة باقية.
وبغض النظر عن رأي الذين يرون أن المشكلة في الرئيس البشير ويقللون من شأن الدور الذي يمكن أن يقوم به في خريطة طريق "الهبوط الآمن"، إلا أنه من المؤكد أنه يملك الكثير من الأوراق والقدرة على التأثير في مجريات الأحداث المقبلة في البلاد وتحديد مساراتها، بالطبع ستتأثر حدود دوره بمدى بقاء المعطيات الراهنة على حالها، أو حدوث تغييرات درامية في المشهد السياسي، سواء على صعيد الموقف الشعبي مقروءًا مع الأوضاع الاقتصادية، المعارضة المسلحة مقروءاً مع توازن القوة العسكرية، أو الدور الخارجي مقروءاً مع مخاطر سيناريو التفكيك، إضافة إلى تطورات العلاقة مع دولة الجنوب وترتيبات تصفية التقسيم. ولذلك تبقى الأمور مفتوحة على الاحتمالات كافة.

نقلاً من صحيفة إيلاف السودانية
الأربعاء 20 فبراير 2013                                   

Khalid Tigani [tigani60@hotmail.com]
//////////////

 

آراء