تفسير الماء بعد الجهد ب”الدم”

 


 

 



khalidtigani@gmail.com


سنتان إلا شهرين, هلك فيهما المزيد من الحرث والنسل في جنوب كردفان والنيل الأزرق, وأفنيت ما لا تحصى من أرواح السودانيين البريئة من غمار الناس ومن الجند حملة السلاح, ودفع من بقي على قيد الحياة ثمناً غالياً تشرداً ونزوحاً ومسغبة وفقدان للأمن من خوف, تضحيات جسام بلا معنى زادت البلاد فقراً وبؤساً وتخلفاً على رقة حالها وهي تخرج من حرب إلى أخرى وتسلم كل أزمة إلى اختها دون عظة أو اعتبار على كثرة العبر.
يعود ممثلو الحكومة اليوم للتفاوض مجدداً, وكأن شيئاً لم يكن أو كوارث صاعقة توالت تترى على رؤوس السودانيين, مع الحركة الشعبية الشمالية ذاتها ومع قادتها أنفسهم على الرغم من كل "محاولة الشيطنة" التي سعت الخرطوم لرميها بهم, عادت للتفاوض معهم ولم يقل لنا أحد إن كانوا الإكثار من الاستعاذة قد جعل البركة تحل عليهم فجأة, أو ما الذي استجد ليبرر هذه العودة إلى مائدة التفاوض, كما لم يقل لنا أحد أصلاً لماذا رفض قادة الحكم العمل العاقل الوحيد الذي توصل إليه الطرفان في اتفاق نافع/عقار الشهير في خواتيم شهر يونيو من العام 2011, وقبل أيام معدودة من استقلال جنوب السودان.
لو كان هناك اختراعاً سياسياً جديداً لم نسمع به من قبل, أو أن الحكمة حلت هكذا على أصحاب القرار, لقلنا ما علينا ولئن نعود متأخرين للتفاوض خير من أن لا نعود أبداً. ولو أن الأمر كان يتعلق بلعبة بريئة بقصد اللهو وإزجاء أوقات الفراغ, ولو أن الأمر كانت مجرد مكايدات شخصية أو صراعات خفية في دهاليز السلطة وكواليس الطبقة الحاكمة, لما أرهقنا انفسنا ولا أرهقنا أحد بتساؤلات تبدو بلهاء في زمن لم يعد فيه لأسئلة المنطق مكان.
لو ان ذلك حدث قبل أن تقع أعظم كارثة حلت بالبلاد بتقسيمها وشرذمتها بسبب عجز الطبقة السياسية المتراكة طوال سني الحكم الوطني عن تقديم الإجابة الصحيحة للسؤال الصحيح كيف نبني وطناً تتكافأ فيه حقوق وواجبات كل أبنائه وكل أطرافه ويجعل من تعدده الإثني والثقافي والديني مصدر ثراء لا شقاق, لو أن الانقلاب على نهج التسوية السلمية لمتعلقات اتفاقية نيفاشا حدث قبل بلوغها تمامها وانقضاء أجل فترتها الانتقالية بتمزيق الوطن, لقلنا لا تثريب على أحد فليس هناك عظة نعتبر بها أو درس نتعلم منه, أما تعيد الطبقة الحاكمة إنتاج أزمات الحاضر الماثل, وليس التاريخ الغابر, فذلك مما تحتار البرية في فهمه إو إدراك كننه.
بالطبع يبدو الأمر سهلاً لأصحاب القرار في مطبخ الحكم فلا أحد منهم يدفع ثمن القرارات الخاطئة, فلا مساءلة سياسية أو محاسبة تكلفهم مناصبهم, ولا أحد منهم يدفع ما يدفعه غمار الناس والجنود من أرواحهم ودمائهم ثمناً لقرارات كارثية لا تضع اعتباراً أن قتل النفس واحدة بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً.
والسؤال ما الذي يمكن أن يضيفه مفاوضو الحكومة أو يجدوا أفضل مما ورد في تلك الاتفاقية التي كان من الممكن ان تضع حدا لحرب جنوب كدرفان الوليدة التي لم يكن عمرها حينها تجاوز الثلاثة أسابيع, وما كان لحرب النيل الأزرق ان تندلع بعدها بشهرين, ولما شهدنا مولد حرب الجنوب الجديد, "وخلف كل جنوب يفصل, يولد جنوب جديد" في لعبة "استبرتيز" سياسي غير مسبوقة لن تلبث ألا تجعل مما تبقى من السودان المتشرذم شيئاً للطبقة الحاكمة لتخلعه.
يكاد المرء يصاب بالدوار والعين تلتهم سطور وبنود ذلك الاتفاق ولا تكاد تصدق كيف يمكن لاتفاق أن يكون أكثر عقلاً مما تم, ومن عجب ان موقعه من طرف الحكومة والذي استحسن أغلب الناس صنيعه وعدوه أعقل ما أقدم عليه متجافين عن غلظته السياسية, عاد وتنكر للاتفاق الذي وقعه عن وعي بل اعتبره خطاً ما كان يجب ان يحدث فقط تماشياً مع إتجاه الريح, وقد كان اولى به وهو اكثر من يحدث الناس عن التمسك بالمبادئ أن يستعصم بذلك الاتفاق ويثبت عليه. وهو عمل صالح كان من شأنه أن يفتح كوة أمل يجنب البلاد والعباد ويلات المزيد من الحروب والدماء, ولكنه آثر ان يخلد لرأي الذين يريدون إشعال المزيد منه دون أن يكلفهم ذلك شروى نقير. وكأن البلاد ينقصها المزيد من المصائب والمهالك.
ليست هذه مناحة, ولا بكاء على الدم المسفوح هدراً, ولا لكثرة ما ورد فيها من "لو" نصيب من عمل الشيطان, بل هي من صميم التدبر والتذكر وأخذ العظة والاعتبار, وعدم الركون عن غفلة إلى أن هناك نهجاً جديداً يتبع, إذ ليس هناك من ضمانات أن عقلاً راجحاً هبط من السماء أو أن فيضاً إلهيا حل باصحاب القرار, أو أن هناك منطقاً سياسياً طرأ, فالمعطيات نفسها التي لم تضع اعتباراً لكل ما أوردنا آنفاً لا تزال قائمة هنا, وما يبدو أن روح السلام عادت لتسود لا يقوم عليه دليل من عمل مراجعة أو محاسبة للنفس, أو أن نهجاً سياسياً ذا بعد ورؤية قد أطل فجره علينا, وأن إرادة سياسية ذات عزيمة ومضاء قد توطدت, وإنما هي ذرائعية السلطة تخبط خبط عشواء لا تدري أتصيب أم تخيب. تدور مع متطلبات الاستمساك والانفراد بالسلطة وتوهم الخلود في نعيمها, ولا تدور بالضرورة مع مصالح العباد والبلاد, ولذلك تتناقض المواقف وتتضارب القرارات وتتفاقم الأزمات وتتزايد الكوارث ولا نفس لوامة تردع, ولا ضمير حي يوقظ.
كان ذلك الاتفاق عاقلاً لأنه شكل محاولة استدراك لعواقب تقسيم السودان وتداركاً لتبعات تحقق السيناريو الأسوأ, ووقوع الشرين فقدان البلاد وحدتها وإعادة إنتاج الحرب, كانت سداته المحافظة على وحدة ما تبقى من السودان, واحترام سيادته ووحدته وحدوده القومية, والتأكيد على وجود جيش قومي واحد, والالتزام بالحكم الديمقراطي الذي يستند على المحاسبة والمساواة واحترام حكم القانون والقضاء لكل المواطنين السودانيين, وأن يقوم الحكم على الشراكة وتحقيق المصالحة السياسية لكل السودانيين مع الاعتراف بالتنوع السياسي والاجتماعي والثقافي في كلِّ المجتمعات, وأن تقوم المفاوضات في إطار حوار سياسي واسع على المستوى القومي، مع الاعتراف بأهمية التعاون بين الأطراف من أجل الاستقرار والتنمية والديمقراطية والإصلاح الدستوري في السودان. باختصار كان ذلك إعلان مبادئ جامع لتأسيس تعاقد وطني جديد, مع معالجة وضع الحركة الشعبية الشمالية نتقنين مشروعيتها كحزب سياسي واستيعاب مقاتلي المنطقتين في القوات المسلحة أو الخدمة المدنية أو التسريح.
والسؤال المحير الذي لم يجد له احد إجابة حتى اليوم ما هو المنطق في رفض الطبقة الحاكمة لتسوية بمثل هذه العقلانية, وتعيد إنتاج حرب لم تستطع حسمها, لتعود اليوم لتفاوض حول ماذا الله اعلم؟!. والامر نفسه ينطبق على مسيرة التفاوض لتسوية القضايا العالقة بين دولتي السودان, وقد رفضت الفئة المتنفذة ذاتها ما توصل إليه مفاوضوها في مارس من العام 2012, وعادوا ليتصدروا التفاوض بأنفسهم لينتهوا إلى ما انتهى إليه هؤلاء قبلاً, ولكن بعد حروب لم تكن ضرورية ابدأ قيل لنا إنها من عمل الشيطان. وبعد خسائر بشرية واقتصادية أقعدت البلاد زادتها ضعثاً على إبالة.
مهما يكن من أمر إن كانت هناك من عبرة أو ثمة عظة فإن العودة للمفاوضات الثنائية أو الصفقات الجانبية سواء مع الحركة الشعبية الشمالية أو غيرها في دارفور أو سواها لم تعد بذي جدوى ولا معنى, وقد فات أوانها, وما كان من الممكن أن يكون عاقلاً بالامس فإنه لم يعد يناسب أزمات وطن بات اليوم مثخن بالجراح والحروب الاهلية المستعرة, وتفاقم تفتت النسيج الوطني للمجتمعات السودانية, لم تعد تلك المناورات الصغيرة لكسب سنوات إضافية في السلطة باقتسامها مع من ينازعون الطبقة الحاكمة انفردها بالسلطة والثروة تغني عن بلد يصارع سكرات التشظى والتلاشي.
حان الوقت لتفاوض وحوار وطني جامع لا يستثني أحداً هنا في الخرطوم, العاصمة التي جرت المفاوضات حول مصير السودان في كل عواصم الدنيا إلا فيها هي صاحبة الشأن, ليست هناك مشكلة اسمها المنطقتين أو دارفور هناك قضية واحدة, هي أم كل المشكلات, أزمة الحكم الوطني في الخرطوم, لا مخرج ولا منجاة للبلاد والعباد من مصير بائس إلا بحلها حلاً جذرياً شاملاً وجامعاً.      
عن صحيفة إيلاف السودانية



 

آراء