عرض مختصر لكتاب “مدينة الحديد والنار .. للبروفسيور أحمد سيكنجا .. عرض : بدر الدين حامد الهاشمي
عرض مختصر لكتاب "مدينة الحديد والنار: التاريخ الاجتماعي لأتبرا، مدينة سكك حديد السودان بين عامي 1906 – 1984م" (1 – 2)
للبروفسيور أحمد سيكنجا
عرض : بدر الدين حامد الهاشمي
هذا عرض مختصر لكتاب البروفيسور أحمد العوض سيكنجا "مدينة الحديد والنار": التاريخ الاجتماعي لأتبرا، والذي صدر عن دار هينمان بالولايات المتحدة وجيمس كيري ببريطانيا و"ديفيد فيليب" للنشر بكيب تاون عام 2002م . يعمل البروفيسور سيكنجا الآن أستاذا للتاريخ والدراسات الأفريقية والأفريقية- الأميركية بجامعة أوهايو الأميركية وبقسم الدراسات الإنسانية بجامعة قطر، ونشر منفردا وبالاشتراك عددا كبيرا من المقالات المحكمة والكتب، منها هذا الكتاب عن أتبرا (عطبرة)، و"الحرب الأهلية في السودان" و"أصول وأدوار قوة دفاع السودان بين 1925 و1955م" وكتاب عن الرق في السودان بعنوان Slaves Into Workers: Emancipation and Labor in Colonial Sudan
أعمل الآن على ترجمة "مدينة الحديد والنار" وسيعقبه إن شاء الله الكتاب الآخر بعد أن حصلت على موافقة المؤلف.
رغم أن عنوان كتاب "مدينة الحديد والنار" يفيد بأنه يتناول التاريخ الاجتماعي لمدينة أتبرا، إلا أن الكتاب هو في حقيقة الأمر سجل موثق لتاريخ السكة حديد، لأنه لا يمكن الفصل بين "أتبرا" و"السكة حديد"، إذ أن أتبرا لم تكن شيئا مذكورا قبل قيام السكة حديد، وربما يزعم البعض الآن بأن أتبرا لم تعد شيئا مذكورا بعد انهيار السكة حديد فيها!
بدأ المؤلف مقدمته بتوضيح سبب تأليفه للكتاب فقال: " لقد حفزتني أسباب شخصية وثقافية للاهتمام بتاريخ أتبرا رغم أنني لست "أتبراويا". لقد قضيت بتلك المدينة وقتا طويلا في زيارة أفراد من عائلتي وأقربائي، وكثير منهم كانوا من عمال السكة حديد. إضافة لهذا فإن كل مهتم بالعمل والعمال والتاريخ الحضري سيجد مدينة أتبرا محلا مثاليا للدراسة. معلوم أن أتبرا هي مقر رئاسة السكة حديد، وبها أكبر تجمع عمالي صناعي، والغالبية العظمى من القاطنين بها هم من العاملين بالسكة حديد وعائلاتهم، ومن المهم أن نذكر أيضا أن أتبرا هي المدينة التي ولدت بها الحركة العمالية السودانية، ومنذ أعوام أربعينات القرن الماضي فقد عرفت تلك المدينة العمالية بأنها مركز مهم للنشاط العمالي والتضامن والسياسة الراديكالية." ضمن المؤلف أيضا في مقدمته قصيدة النقابي الأتبراوي المرحوم الحاج عبد الرحمن عن مدينته والتي يقول في مطلعها
أو تسأل من أنا ... أنا جنة المســــــتقبل
أنا قلــــــــــــعة أرسل ضياءا من عــــــل
أنا عطبرة أم الــــــــــــشباب العامــــــل
وما أورده المؤلف كان نقلا مباشرا من أوراق الشاعر شخصيا – بحسب إفادته لي- والقصيدة تختلف قليلا عن النسخة المتداولة في المنتديات الاسفيرية.
يتكون الكتاب من 220 صفحة من القطع المتوسط، وبه تقديم ومقدمة ضافية (من 16 صفحة) وسبعة فصول وخاتمة. يحوي الكتاب عددا من الوثائق المصورة وثبتا للمراجع الشفاهية والأرشيفية والمنشورات الرسمية وما نشر في الصحف والمجلات المحلية والدوريات العالمية والكتب عن السكة حديد. كذلك ذكر المؤلف عددا من الأطروحات والرسائل الأكاديمية التي تناولت السكة حديد وأتبرا أو موضوعات أخرى ذات علاقة بموضوع الكتاب. من تلك الرسائل رسالة ماجستير باللغة العربية من جامعة القاهرة عام 1987م قدمها محمد إدريس أحمد بعنوان: "مدينة أتبرا: دراسة في جغرافيا المدن"، ورسالة دكتوراه من جامعة لوس انجلس الأميريكية عام 1970م عن "الحركة العمالية السودانية" قدمها عبد الرحمن الطيب علي طه. كذلك حفل الكتاب بعشر صور وثائقية عن نوادي العمال والشرطة والنقابيين والجالية المصرية و العمال في الورش المختلفة، وعلى عدد من الخرائط والجداول التوضيحية. اعتمد الكاتب في دراسته عن السكة حديد في أتبرا على جملة من الوثائق في جامعة درام البريطانية (حيث قضى فيها ثلاثة أشهر عام 2000م باحثا ومنقبا) وفي دار الوثائق بالخرطوم، وعلى عشرات اللقاءات مع نقابيين وعمال آخرين في أتبرا منهم الحاج عبد الرحمن وأحمد شامي وغيرهم.
تناول الفصل الأول، وعنوانه تأسيس مدينة استعمارية (1906 – 1924م) تطور أتبرا من مجرد محطة عسكرية صغيرة إلى أن غدت مركزا رئيسا للسكة حديد، وبحث عملية إنشاء نظام السكة حديد في السودان، وتكوين القوة العاملة في السكة حديد، والنمو المكاني والسكاني فيها، وتطرق إلى ثورة 1924م وما تمخضت عنها من نتائج أثرت على مجريات العمل في السكة حديد وعلى تركيبة العاملين فيها. كان أكثر ما يميز أتبرا في تلك المرحلة من تاريخها هو شخصيتها العسكرية وطبيعتها العالمية إذ كان أغلب العاملين بالسكة حديد في أتبرا قبل عام 1924م من الأفراد العسكريين العاملين في الكتيبة العسكرية المصرية وفرقة المهندسين البريطانيين الملكية. وبالإضافة إلى ذلك كان أغلب سكان أتبرا من الأجانب، ففيهم رجال ونساء من بريطانيا ومصر واليونان وإيطاليا وشرق أوربا والشرق الأوسط. يزعم هذا الكتاب أن تلك البيئة وذلك المحيط كان لهما دور كبير في نمو وتطور ثقافة الطبقة العاملة، وبالغ الأثر على البنية الاجتماعية لأتبرا من أوجه عديدة. تركت الطبيعة العسكرية للسكة حديد عادات عمل ومفاهيم عن الوقت والانضباط ظلت هي السمة المميزة لسكك حديد السودان. كان لوجود ذلك العدد الكبير من الأجانب الكثير من الآثار الاجتماعية والسياسية المهمة، منها أنه قد أدى لظهور أتبرا كمدينة "عالمية" ذات ثقافة حضرية توفرت فيها كثير من أوجه النشاط الترفيهية والاجتماعية. جلب العمال والحرفيون الأجانب (خاصة المصريون) معهم لأتبرا أفكارا سياسية راقت للطبقة الصغيرة من رجال الخدمة المدنية السودانية والحرفيين. ظهر هذا جليا في احتجاجات عام 1924م والتي أدت لإجلاء العسكريين والمدنيين المصريين من السودان. يمكن أيضا إدراك الأثر الذي تركه الحرفيون الأجانب في تطور وإثراء مفردات لغوية تقنية مأخوذة من عدد من اللغات الأوربية والشرق الأوسطية.استوعب عمال وموظفو السكة حديد السودانيون تلك المفردات الهجينة، وجعلوها جزءا لا يتجزأ من لغة مكان العمل.
سجل المؤلف في هذا الفصل جانبا من الحياة الاجتماعية في أتبرا عند بدايات القرن الماضي، وكتب يقول إن الأوربيين (خاصة البريطانيين منهم) كانوا يجدون الحياة في أتبرا شديدة الاملال والرتابة. كرهوا بصورة خاصة حرارة مناخها وعواصفها الرملية المستمرة. فقد كتب مثلا مهندس السكة حديد البريطاني ج. ر. استورار في عام 1907م يصف روتينه اليومي: " وجود المرء في أتبرا لا يعطيه الكثير ليتحدث عنه، إذ تعوز الحياة فيها التنوع. يبدأ اليوم بالطواف حول أماكن العمل بين الساعة السابعة والثامنة، ثم تناول طعام الإفطار بين الساعة الثامنة والتاسعة، ثم العمل في المكتب بين التاسعة والثانية عشرة، ثم تناول طعام الغداء بين الثانية عشرة والثانية والنصف، والعودة إلى المكتب بين الثانية والنصف والرابعة عصرا، ثم لعب التنس في المساء." ويتكرر نفس الروتين يوميا دون تغيير. وبينما كان الرجال في العمل تقوم الزوجات في المنازل بتبادل الزيارات الاجتماعية وإقامة حفلات الشاي وضروب من أوجه النشاط الأخرى.
وللتغلب على ملل أتبرا وسأم الحياة فيها قام المسئولون الأوربيون بتطوير بيئة أكثر ألفة لهم، وخلق عالمهم الخاص في تلك الأصقاع البعيدة، وإطلاق اسماء أوربية على شوارع أتبرا مثل "بروود واي افينو" والذي يسير محاذيا لضفاف النيل. كانوا يقومون في الأمسيات بتنظيم حفلات راقصة و يعرضون مسرحيات غنائية ودرامية. أقام الأجانب الآخرين مثل المصريين (وغالبهم من الأقباط) والأغاريق وغيرهم مدارسهم وأنديتهم وجمعياتهم الاجتماعية الخاصة بهم. كان غالب الأغاريق في أتبرا يعملون كعمال مهرة في السكة حديد، بينما كان قليل منهم يعمل بالتجارة في الخمور والمطاعم والفنادق الصغيرة، واقامت جاليتهم في أتبرا عام 1907م فرعا محليا لـ "الجمعية الإغريقية" التي اتخذت من الخرطوم مركزا لها.
تناول الفصل الثاني، وعنوانه نشوء مدينة شركة (1924م – 1939م)، عملية تحول أتبرا من مركز صغير للسكة حديد إلى مدينة شركة كبيرة خلال أعوام 1924 – 1939م، والعوامل المتداخلة التي ساهمت في هذا التغيير الكبير. من تلك العوامل هي إجلاء الكتيبة العسكرية المصرية في السكة حديد وتقليل أعداد العمال الأجانب العاملين في السكة حديد تخفيضا للنفقات خلال سنوات الكساد الاقتصادي. كل ذلك مهد الطريق لظهور قوة عاملة سودانية في السكة حديد. بالإضافة لذلك فقد كان للتوسع في انتاج المحاصيل النقدية من منتصف العشرينات ، وما ترتب على ذلك من ارتفاع حاد في حركة النقل بالسكة حديد تمخض عنه نمو كبير ومضطرد في أعداد العاملين بها. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية تجاوزت أعداد العاملين بالسكة حديد عشرين الفا، كان 90% منهم سودانيون. بحث هذا الفصل تطور السكة حديد حتى سنوات الحرب العالمية الثانية حين تمددت خطوط السكة حديد إلى 2014 ميلا، وظلت بواخرها النيلية تمخر 2000 ميلا من الممرات المائية. كذلك كتب المؤلف عن هيكل العمالة في السكة حديد بأقسامها الخمسة وهي الهندسة والميكانيكا والحركة والحسابات والمخازن وخدمات الفنادق والمرطبات وعن العاملين فيها ومهام ومسئوليات كل قسم. كذلك تناول المؤلف الدرجات الوظيفية التي خصصت لكل قسم. خصص المؤلف جانبا من هذا الفصل للحديث عن الأجانب من المستعمرين (البريطانيين والمصريين) الأوربيين وعن تسيدهم للوظائف العليا في السكة حديد. كذلك أشار إلى العامل الشيوعي البولندي بوبونسكي في ورش أتبرا (والذي كان يسميه زملاؤه من البريطانيين "بولشفيكنا الوديع") وكان قد دخل إلى السودان رغم وضعه رسميا في القائمة السوداء (للممنوعين من الدخول للبلاد) وعن جمعية اسمها "جمعية المطرقة والمنجل" أسسها العمال الأجانب الساخطون على إدارة السكة حديد في أتبرا في ثلاثينات القرن الماضي. ليس من الواضح تماما – كما يقول المؤلف- مدى اتساع نشاط هؤلاء العمال المهرة (الصنايعية)، ولا تأثيرهم المحتمل على زملائهم من العمال السودانيين.
من أجمل ما ورد في الفصل الثاني ما سجله المؤلف عند الحديث عن تكوين قوة شرطة السكة حديد عن قصة تكوين فرقة موسيقى شرطة السكة حديد بأتبرا، وعن مؤسسها داؤود آدم فكتب يقول: " كانت مهمة قوة شرطة سكك السودان الأولى هي الحفاظ على الأمن، بيد أنها أيضا لعبت دورا في الحياة الاجتماعية في أتبرا، فقد كانت لديها أفضل فرقة موسيقى في البلاد. ترأس تلك الفرقة داؤود آدم، وهو من قام بتدريب غالب أعضاء تلك الفرقة الموسيقية. إن تاريخ حياة ذلك الرجل في موسيقى الشرطة تستأهل المزيد من الاضاءة. لقد عمل داؤود (والمولود في الفاشر في منتصف القرن التاسع عشر) في خدمة السكة حديد لمدة أطول من كل العمال الآخرين. إنضم الرجل وهو في الخامس والعشرين من عمره للجيش التركي المصري، وأرسل لمصر حيث تعلم مبادئ الموسيقى. في ثمانينات القرن التاسع عشر عسكر داؤود آدم مع الجيش التركي المصري في منطقة البحر الأحمر، وعاد بعد هزيمة الجيش التركي المصري إلى مصر، ثم انضم للفرقة الموسيقية التابعة لجيش سردار الجيش المصري هيربرت كتشنر في عام 1892م، وشارك محاربا في معركة أتبرا وأبلى فيها بلاءا حسنا نال بسببه ميدالية الملكة فيكتوريا وميدالية عباس خديوي مصر. بعد اكتمال عملية "استعادة السودان" بقي داؤود آدم عضوا في فرقة السردارالموسيقية في القصر بالخرطوم. كانت تلك الفرقة تعزف في المناسبات المهمة مثل زيارة الملك جورج إلى بورتسودان، والافتتاح الرسمي لخط سكة حديد الأبيض في عام 1912م."
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]