أمدرمان أيام المهدية: ملخص ما جاء في كتاب للأسير الإيطالي روزيقونولي (5). ترجمة: بدر الدين الهاشمي
أمدرمان أيام المهدية: ملخص لبعض ما جاء في كتاب للأسير الإيطالي س. روزيقونولي (5)
فارنام ريفش Farnham Rehfisch
ترجمة : بدر الدين حامد الهاشمي
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]
تقديم: هذا هو الجزء الخامس (والأخير) من ترجمة لبعض ما جاء في مقال للأكاديمي الراحل فارنام ريفش (والذي عمل لسنوات طويلة أستاذا لمادة الأنثروبولوجيا الاجتماعية في جامعة الخرطوم في ستينات القرن الماضي.) يلخص فيه ما كتبه أسير المهدي الإيطالي س. روزيقونولي في مؤلفه I meei Dodici Anni di Prigionia in Mezzo ai Dervisci والصادر في عام 1898م عن الحياة في أمدرمان بين عامي 1881م و1894م. يلاحظ أن ما جاء به المترجم باللغة الإنجليزية هو عبارة عن شذرات متفرقة من كتاب القس الإيطالي لا يربطها تسلسل تاريخي معين، بيد أنها عظيمة الفائدة في معرفة الحياة الاجتماعية في أمدرمان بعيون أسير مسيحي لا يخلو من تعصب (ضد المسلمين واليهود أيضا!) وبغض لآسريه وثقافتهم، ورغم ما فيها من حكايات يصعب تصديق بعض تفاصيلها أو الوثوق بصحة وقوعها.
في الجزء الأول أورد الكاتب شيئا عن أيامه الأولى في أمدرمان وعن مقابلته للخليفة وعن عمله في ميدان التجارة، وحكى في الجزء الثاني عن معاناته في العمل في مطعم صغير في سوق أمدرمان، وعن إجباره على العمل متطوعا في بناء قبة المهدي وعن تمرد الأشراف على سلطة الخليفة. أما في الجزء الثالث فقد حكى القس الإيطالي عن حال أمدرمان وسكانها في عام المجاعة (1888م) وعن حكم الخليفة وممارساته. في الجزء الرابع (وقبل الأخير) تعرض الكاتب لأشياء مختلفة شملت الإدارة وتجارة الرقيق وأنواع الطعام والملابس والتعليم والعلاج في أيام الخليفة عبد الله.
نشر هذا المقال في مجلة "السودان في مذكرات و مدونات" العدد 48 الصادرة في عام 1967م.
المترجم
************ ****************
كان هنالك مرض مروع وشائع في كردفان خاصة في منطقة جبال النوبة يسميه الأهالي "فرنتيت" يسببه كائن دقيق (ميكروب) يسمي "فلاريا ميدسنيسز" يعيش في مياه البرك التي تتراكم بعد الأمطار، ويصيب من يدخل أحد أطرافه في تلك المياه الملوثة. يغزو هذا الكائن الدقيق جلد المريض في الأطراف السفلى وينمو ويطول ليصير مثل الخيوط أو أوتار الكمان. لا يسبب وجود هذا الكائن الدقيق أي ألم للمريض إلا في موسم الأمطار التالي، حيث تتضخم هذه "الخيوط" وتكون كيسا متكورا تحت الجلد في أي منطقة بالجسم مثل الخصية أو اليد أو القدم، ويلتهب الجسم فيشعر المريض بحمى وألم شديد (بحسب ما هو معلوم الآن فلا صحة لكثير ما ذكره الكاتب قبل أكثر من مائة عام عن هذا المرض وناقله. المترجم). رأيت في أمدرمان (حيث لا يستوطن هذا المرض) عددا كبيرا من المصابين بمرض الفرنتيت، وكانوا يعالجون بروث الأبقار، والذي أعتقد أنه مسكن فقط للمرض وليس علاجا جذريا له. يمكن علاج الفرنتيت جذريا بطريقين: أولهما جذب طرف الدودة وسحبها برفق وربطها بقصبة صغيرة، فتقوم الدودة بعد أيام بالخروج وتلف نفسها حول القصبة إلى أن تخرج بالكامل من جسم المريض. لهذا الضرب من العلاج محاذيره، ففائدته لا تقع إلا بعد مرور وقت طويل، وعادة ما لا يحس المريض بأي تحسن في هذه الفترة، وإن تم جذب الدودة بقوة، فستنقطع ويبقى جزء منها في داخل الجلد قد يحدث غرغرينا. قمت بمساعدة كثير من المصابين بهذا المرض بهذه الطريقة، ولم أكف عن حمد الله أن عافاني من الاصابة بهذا المرض الخبيث. أما الطريق الثانية فهي الكي بالنار، رغم أنها قد تصيب المريض بعجز دائم في العضلات أو الأعصاب إن كان البصير المعالج غير مجيد لصنعته. ساعدت كثيرا من المصابين بالفرنتيت عندما كنت قسيسا في إرسالية الدلنج، بيد أني شهدت أيضا موت الكثيرين بهذا المرض.كذلك يتعرض كثير من سكان أمدرمان (خاصة صغار الأطفال) للسعات العقارب القاتلة. تكثر العقارب (خاصة الصفراء أو الصفراء المخططة باللون الأسود) في شوارع أمدرمان، خاصة عند مغيب الشمس، وتستهدف من يمشون حفاة (وهم كثر). كان كثير من الفقراء الذين لا يجدون حذاءا يستعيرون أحذية الآخرين من أجل السير في شوارع المدينة بعد المغيب. يذهب سم العقرب والورم الذي يصحبه بسرعة من القدم إلى الساق، ولعلاج ذلك يجب ربط الموضع المصاب وشقه بموسى أو سكين ومسحه بمسحوق البوتاس الكاوي، ويمكن أن يذاب قليل من هذه المادة ويعطي للملدوغ ليشربه من أجل إيقاف القيء الذي يصاحب عادة لدغ العقارب. إن استخدم هذا العلاج فور حدوث اللدغة، فالشفاء مضمون.
يؤمن العرب بالخرافات، ورغم أن الخليفة عبد الله قد منع الناس لبس التمائم والأحجبة، إلا أنه كان يخاف السحر ويخشى عين من كانوا يمثلون في حضرته، فسمح مؤخرا ببعض التمائم ومنع بعضها. قام الخليفة بمنع عادة تزيين عتبة أو باب الدار أو مدخل الزريبة برأس حمار أو تمساح. بيد أنه سمح باستخدام بعض الآيات القرآنية ونثر دم البهيمة الذبيحة على مدخل الدار درأ للعين والحسد. لا يفرط العربي في قلامة ظفر من أظفاره أو شعرة من شعر رأسه، فكل هذه يدفنها العربي بحرص شديد في ركن من أركان البيت أو تحت جذع شجرة لأنه يؤمن بأن الله سيسأله عنها يوم القيامة. إن حدث وقام أحدهم بالثناء على صحة الرجل الممتازة أو صحة أطفاله أو بهائمه فإن الرجل سيخاف العين وسيأمره في انزعاج عظيم أن يقل بصوت عال "ما شاء الله" وكأنه نطق بكفر عظيم. كذلك لا يقوم الزوج أو امرأته بعرض المولود الجديد للغرباء لذات السبب، وينتظران لشهور عديدة قبل عرض المولود عليهم بعد أن يقوم "الفكي" بتحصينه بعدد من الأحجبة التي تعلق على عنق المولود. يعلق البعض جزءا من مشط شعره أو عود أسنانه في سبحته طلبا للحماية من الحسد والعين الشريرة.
يخاف كل الناس في أمدرمان من الظواهر الطبيعية كالكسوف والخسوف، فعند حدوث أحدهما يبدأون في الصياح وضرب "النقارة" والأواني المعدنية وكل ما يصدر صوتا عاليا وحادا. يتواصل هذا الهرج والمرج حتى ينجلي الكسوف أو الخسوف، ويوزعون في اليوم التالي "كرامة" النجاة من شروره على الفقراء والمساجين والأطفال.
تجد أن قزحية عين كل أهالي أمدرمان سوداء اللون، ولعل هذا ما يدهشهم ويخيفهم إن رأوا أناسا لهم لون قزحية مختلف، فيسمون المرء "عين كديس". كان ذلك الوصف ينطبق علي، وقد وصفت به مرارا في معرض السخرية والازدراء والإساءة، بل كانت النساء (أكثر من الرجال) يقلن عندما يرونني في الطريق "يا شناتك "قبحك"! وكانت المرأة التي تجلب لي برمة الماء من السوق تتركها عند باب عشتي وتهرول مسرعة بالابتعاد خشية أن تقع عينها علي عيني (ذات القزحية المختلفة اللون) فقد شاع عند العامة إن الرجل "عين كديس" هذا ملك السحرة أو حتى من آكلة لحوم البشر! وبالنظر إلى كل هذا الجهل والتعصب الديني فإنه من اللافت للنظر أن لا يسمع المرء أي مقولة تدل على الكفر، فالكل يبدأ أي عمل يريد القيام به باسم الله!
كان من الواجب على كل منا، نحن الأسرى المسيحيين، أن نساند بعضنا البعض ماديا ورحيا في بيئتنا المعادية تلك. وقد فعلنا ذلك، كل بقدر طاقته. بيد أنني تلقيت صدمات عنيفة في غضون سنوات أسري المرة. من ذلك وفاة سيستر كونسيتا يوم 3/10/ 1891م بعد أن أصيبت بداء التايفوس الذي كانت تداوي مريضا سودانيا كان مصابا به. رحلت في هدوء وبجنبها الأب أورفالدر والسيسترات الأخريات. إن امتد أجلها قليلا فقد كان يمكن لها أن ترى العالم المتحضر مجددا. في ليلة الثلاثين من نوفمبر من ذات العام كنت ورفيقي ريجينتو في محلنا الصغير بالسوق (بعد أن تأكدنا من أن التمرد على الخليفة قد أخمد تماما) عندما أقبلت علينا خادمة ريجينتو وهي تلهث وسألتنا إن كنا قد رأينا "أبونا يوسف" (وكان ذلك هو الاسم المهدوي للأب أورفالدر). رددنا عليها بالنفي، وقلنا لها إنه ربما يكون قد ذهب للخرطوم لزيارة مواطنه الأسير نيوفليد. أصرت الخادم على أن ذلك مستحيل بسبب أن بيته مغلق من الداخل والخارج، وأن أحدا لم يجبها عندا طرقت الباب مرارا مما يعني أن كل السيسترات اللواتي كن يسكن معه قد غادرن البيت. هززنا أكتافنا للتدليل على عدم أهمية الأمر، وواصلنا في عملنا ولم يخطر ببالنا أبدا أن الرجل قد فر من أمدرمان. بعد سويعات كنا نغلق محلنا في سلام عندما أحاط بنا فجأة عدد من الأسرى السوريين والأغاريق وكانوا في غاية الانزعاج والضيق. ذهبوا بنا لبيت الأسير منولي حيث وجدنا عنده أمير الحي، والذي سألنا عن أخبار ومكان الأب أورفالدر وبقية السيسترات وهم موقنون بأننا نعرف الإجابة. كانوا يخشون من عواقب غضب الخليفة الوخيمة إن علم بهروب الأسرى المسحيين. أنكرنا – وكنا صادقين- معرفتنا بكل ما سألوا عنه، فلم يصدقونا أو تظاهروا بعدم التصديق. انطلق الأمير لإخبار سيده بخبر الهروب فأمر الخليفة بإرسال الدوريات في كل اتجاه للبحث عن الهاربين، وبعث برسالة خاصة لأمير بربر للقبض عليهم إن عبروا إمارته. لو نفذت كل أوامر الخليفة بسرعة كافية لتم القبض على الأسرى الهاربين دون شك، بيد أن الله كان معهم. في تلك الأيام كان الخليفة وأنصاره قد فرغوا للتو من إخماد تمرد الأشراف، وخلال تلك الصدامات خسر الخليفة معظم جماله، فاستغرقت عملية شراء ثلاثة جمال لمطاردة الهاربين خمسة أيام كاملة. يكفي معرفة ذلك لتبين مقدار الضعف الذي كانت عليه الدولة المهدية في تلك الأيام.
قام بقية الأسرى باحتجازنا معهم حتى منصف الليل ثم أعادونا لبيتينا المتجاورين حيث وجدنا أن الخليفة أمر بوضع حراسة مشددة على بابينا خوفا من أن نلحق بمن هرب من الأسرى. كان الأب أورفالدر قد أستغل وفاة سيستر كونسيتا فطلب من سيستر كاثيرين أن تأتي لمنزله لتحل محلها وتعمل على النول، وكان موكب الهاربين يضم بالإضافة للأب أورفالدر والسيسترات فتاة سوداء اسمها عديلة كانت قد اعتقلت عند سقوط الخرطوم وبما أنها كانت فتاة وحيدة بعد وفاة والدتها، فقد بيعت كرقيق فاشتراها أمير القضارف مورجان بانسريزو (أحد طلابنا السابقين) وأهداها للأب أورفالدر، حيث بقيت في خدمته.
في صبيحة اليوم التالي ذهبت مع رفيقي ريجنتو للعمل في السوق كالعادة، فأتانا من طلب منا الذهاب معه لمحل أغاريق أخذونا منه لبيت الأب أورفالدر حيث وجدنا رئيس المحكمة في انتظارنا مع عدد كبير من الأنصار. أخذت بعيدا ريثما يتم الفراغ من استجواب رفيقي، ثم استوجب أنا مرارا في غيابه، ثم تم استجواب كل من له أدنى علاقة بنا. أخذنا للمحكمة حيث أؤتي بامرأة كبيرة السن تسكن في البيت الذي يقابل بيت الأب أورفالدر وسئلت عن ما رأته ليلة السبت (ليلة هروب الأب أورفالدر والسسترات) فأجابت بأنها رأت اثنين من رفقاء الأب الهارب يدخلون داره في ذلك اليوم عديد المرات. سئلت إن كانت قد تعرفت على هذين الشخصين فأشارت دون أدنى تردد بأصبعها لي ولرفيقي ريجنتو. على إثر ذلك أمر القاضي بوضعنا في الأغلال وأخذنا للسجن بعد أن أخبرنا بأنه قد حصل على إذن مؤقت من الخليفة لنا بالذهاب لمحلنا بالسوق وبيع ما يحتويه من بضاعة. كان من حسن حظنا أن شهادة امرأة واحدة عند العرب لا يعتد بها، وإلا لكنا من الهالكين. لم نكن في واقع الأمر قد زرنا الأب أورفالدر يوم السبت، بل كنا قد زرناه يوم الخميس للتأكد من أن التمرد قد أخمد تماما، وزارنا هو في اليوم التالي في محلنا وطلب منا قرضا مقداره تالر واحد. علمنا لاحقا أن بعض الأسرى السوريين (ولإبعاد التهمة عن أنفسهم) قد أغروا تلك المرأة بالكذب في شهادتها عن اليوم الذي زرنا فيه الأب أورفالدر. في اليوم التالي تمت اعادتنا للمحكمة بعد عدد من الاستجوابات المنفردة والمتكررة، وعلمنا بأن محلنا وممتلكاتنا قد تمت مصادرتها كلها. أخذ الجند رفيقي ريجنتو لزريبة تم فيها تعذيبه بالكرباج كي يعترف بما يعلم. ثم أتى دوري فحاولوا خداعي بالقول بأن ريجنتو قد اعترف وأنه من الخير لي أن أعترف أيضا. لم يكن لدينا ما نعترف به فأخذنا للسجن مجددا. بعد أيام أمر الخليفة بإطلاق سراحنا فذهبنا لمحلنا وبيتنا فوجدنا أن كل شيء قد تمت سرقته. خسرنا كل ما نملك. في اليوم التالي أخذنا للمحكمة مع كل المسيحيين الآخرين حيث طلب من كل واحد الحصول على ضامن يتعهد بعدم هروبنا وإلا أخذنا للرجاف قرب قوندكورو (محطة تجارية على الشاطئ الشرقي للنيل الأبيض على بعد 750 كيلو جنوب الخرطوم. المترجم) حيث ينفى عتاة المجرمين. ضمننا إغريقيان (ندما بعد ذلك على ضماننا لتأكدهم من عزمنا – إن عاجلا أو آجلا - على الهرب) وكانا ينامان عند بابنا حتى لا نهرب و"نخرب بيتهما" كما كانا يقولان لنا في استعطاف.
بعد هروب الأب أورفالدر كنت القسيس الوحيد المتبقي، لذا بدأت في القلق والخوف من أقع فريسة للمرض ولا أجد من يعتني بي وأعجز عن مساعدة نفسي، أو أن أموت في هذه الديار دون أن أجد من يصلي علي.
عدت للعمل من جديد مع عدد من المخدمين السودانيين، والذين تفننوا في خداعي واستغلالي، ولم أشأ مقاومتهم خوفا على حياتي.
في عام 1890م سمعت بأن الإيطاليين قادمون، وسمعت بمعركتهم مع جيش الدراويش. علمت لاحقا أن النقيب الإيطالي فارا جهز جيشا لتخليص البني عامر من الحكم المهدوي. وبعد عامين سمعت بانتصار الجيش الإيطالي بقيادة النقيب هيدالو على عشرات المئات من الدراويش في سهول سيروبيتي Serobeti على بعد 100 ميل من أغوردات (جرت تلك المعركة في 16/6/ 1892م في سيروبيتي فى أرتريا. المترجم). كذلك وصلتنا الأنباء عن معركة سنهت Senhit في نهاية عام 1895م وهجوم الأوربيين ضد القوات المهدوية في بحر الغزال وفازوغلي. بيد أن كل تلك الأنباء لم تكن مصدر أمل عظيم لنا لتضاربها الشديد. أفزعت هزائم الدراويش المتتالية الخليفة عبد الله فشدد الحراسة على بيته وزاد عدد حراسه الشخصيين المخلصين من 13 إلى 15، وأستدعى فرقة من جنوده المتمركزين في الجزيرة لحراسته في أمدرمان. كذلك أحدث سقوط كسلا في أيدي القوات الإيطالية صدمة كبيرة لدى الخليفة وجنوده، فقد كان تكتيك الجيش الإيطالي مختلفا عن تكتيك الجيش البريطاني والمصري (والذي كان مألوفا للدراويش)، واستخدم الإيطاليون في معركتهم ضد الدراويش قوة ضاربة بوابل من الرصاص والمتفرجات أودت بحياة عدد كبير منهم. كنت أسمع الدراويش في أمدرمان يتحدثون بإعجاب وشيء من الرهبة عن قوة الجيش الإيطالي ورجاله، ورغم أنهم لم يسمعوا من قبل بإيطاليا من قبل إلا أنهم بعد هذه المعارك صاروا يعدونها من القوى العظمى. وعلى المستوى الشخصي شعرت ببعض الفخر، إذ لم أعد ضحية للسخرية والهزء، وصرت أعلن بفخر أني إيطالي. بعد سقوط كسلا كثر الحديث بين السكان في أمدرمان بأن الإيطاليين قادمون (بالتعاون مع البريطانيين)، بل وكثر عدد المترددين على بيتي (كرجل إيطالي) من الذين يطلبون أن أقول عنهم قولا حسنا أو أزكيهم عند قادة الجيش الإيطالي عند استيلائه على أمدرمان (لعل القس الإيطالي هنا يبالغ كثيرا في تقدير قوة الجيش الإيطالي وقدرته على الاستيلاء على عاصمة المهدية، ولو كان ذلك بمقدوره لفعل! المترجم). أعلن الخليفة بعد سقوط كسلا حالة الاستنفار العام في البلاد، ودعا سكان أمدرمان للصلاة والدعاء في أقدس مكان بها (قبة المهدي )، بل إن بعض المتعصبين مسحوا أوجههم بترابها بعد أن حضهم الخليفة على الجهاد والتطوع عندما ذهب بهم جميعا للنهر حيث أمرهم بالوضوء والشرب من مائه، وخطب فيهم مذكرا إياهم بالجهاد وبالجنة التي سيدخلونها، وكال السباب واللعنات على الإيطاليين وحث على قتالهم والثأر منهم. بعد ذلك مباشرة أمر بصرف البنادق المخزنة وذخيرتها للمتطوعين (يجب ملاحظة أن القس الإيطالي كان قد ذكر في بداية كتابه إن الذخيرة التي ورثها الحكم المهدوي من الأتراك كانت قد نفذت كلها، ولذا كانت البنادق قد جمعت ووضعت في المخازن. المترجم). ارتفع ثمن الحربة من 5 - 6 قروش فجأة إلى 5 – 4 تالر، وغدت المدينة أشبه بمعسكر حرب ضخم. وفي محاولة منه لتجميع وتقوية الصف الداخلي قام الخليفة كذلك بإطلاق سراح أبناء المهدي من السجن، وأمر بإعادة أقرباء المهدي من المنفى الذي كان قد أرسلهم إليه وأقام الاحتفالات لتكريمهم والتي شملت سباق الهجن والخيول وإطلاق الصواريخ والألعاب النارية والموسيقي (يصعب تخيل وجود صواريخ وألعاب نارية وموسيقى في عهد الخليفة عبد الله! المترجم). دعا كذلك كل الأمراء في الأقاليم المختلفة للعودة لأمدرمان وتجديد البيعة له. رغم كل ذلك سمعت الكثيرين في امدرمان يضحكون ساخرين من دعوة الخليفة لاستعادة كسلا من الإيطاليين، ويؤكدون أنهم لن يقاتلوهم أبدا، بل سيستقبلونهم كمحررين.
كانت هنالك في أمدرمان أماكن لبيع القهوة، وكما هو الحال في بقية أنحاء العالم، كانت تلك المقاهي (القهاوي) مكانا للعطالى والكسالى. كان الحديث بين هؤلاء يمتد لقسوة الخليفة وهزيمة الجيش الإيطالي له في عدد من المواقع. وصلت أحاديث الغيبة تلك إلى مسامع الخليفة فأمر بإغلاق تلك المقاهي وهدمها في اليوم التالي. منع كذلك الطواف في المدينة ليلا، بل وحرم استعمال الإضاءة في المنازل. ولخشيته من الإصابة بالعين، فرض الخليفة أقسى العقوبات على من يجرؤ على أن ينظر إليه في عينيه، فقد فعلها جندي مثل أمامه ذات مرة فلقي بسبب ذلك جلدا عنيفا بالكرباج. أضاف الخليفة لتلك العقوبة القاسية أخرى أشد نكالا وكانت تسمى "القاضي الأطرش" وهو عمود طويل يقيد عليه الرجل من رجليه ويديه ويترك تحت هجير الشمس طوال اليوم دون نقطة ماء واحدة، متعرضا للنكز (dehydration) وضربة الشمس، وغير قادر على هش الذباب والهوام الأخرى التي تتداعى على جسده المثخن بالجروح التي تتركها ضربات السياط.
في أحد الأيام استدعى الخليفة كل المسيحيين بالمدينة إلى داره، وخاطبهم وهو جالس فوق عنقريب ضخم. تحدث إليهم بنوع من التهذيب (ورؤوسهم منحنية ينظرون إلى الأرض كما كان يفعل الكل أمامه) محذرا إياهم من التورط في أمور السياسة، والعيش في أمدرمان في جماعة وعدم الاختلاط بالأهالي والالتزام بالقوانين. وبعيد هروبي من أمدرمان سمعت بأنه كان يريد تجميع كل الأجانب في مكان قريب من حراسه لمراقبتهم.
من بعض العوامل الكثيرة التي عجلت بسقوط حكم الخليفة عبد الله في نظري هي إهمال الزراعة و"طق" الصمغ العربي، واحتكار الأعمال التجارية مثل التجارة في ريش النعام والذهب والعاج في يد قلة قليلة من الموالين للخليفة، وكذلك بسبب التجنيد الإجباري والحروب المتصلة، وتحويل بيت المال من مركز "اشتراكي" يوزع ثروة البلاد بعدل، ويحصل منه كل مواطن على نصيب معقول من ثروة البلاد، إلى مصدر لإثراء فئة محددة من السكان، هم أقرباء الخليفة وعشيرته الأقربين. كان تفضيل الخليفة لهؤلاء (من أفراد قبيلتين معينتين ذكرهما المؤلف ووصفهما بسوء الخلق وانعدام الاخلاق والقسوة والغرور. المترجم) على قبيلة محمد أحمد المهدي وبقية القبائل النيلية سببا في خلق حالة من عدم الرضاء والتمرد. شحت العملة من الأسواق مما دعا الخليفة ليصدر عملة من قماش الدمور لم تجد القبول عند السكان، فسك عملة معدنية عديمة القيمة الحقيقية. اختفت كذلك العملات من الفئات الصغيرة من التداول تماما للحد الذي كان يترك فيه الزبون عندي تالر واحدا ويتناول "على الحساب" طعامه في محلي لعدة أيام قادمات. أدت الأزمات في العملة للاختلال في الميزان التجاري والتجارة الخارجية. ساهم كذلك تزوير العملة الذي كان شائعا في أيام الخليفة (حتى كانت النساء يقمن به!) في تفاقم الأزمة المالية الطاحنة. كذلك ارتفعت الضرائب والعوائد والمكوس بصورة أعجزت الكثيرين عن دفعها فلقوا أشد العقاب (ولم تسلم من ذلك حتى بائعات الماء المسكينات في السوق)، وكانت الضرائب تجبى أحيانا قبل موعدها بشهر أو شهرين، ثم ينسى أو يتناسى المسئول ذلك ويعود للمطالبة بها من جديد! كان على التاجر الذي يسافر إلى سواكن لجلب بضاعة لأمدرمان أن يدفع عليها رسوما باهظة في كوكريب (قرب حدود الدولة المهدوية) وفي بربر، ثم في أمدرمان حيث يتلقاه الجند ويأخذونه وقافلته لبيت المال حيث يدفع على الختم الذي يوضع على البضائع المستوردة، ثم يفرض على التاجر أن يترك جزءا معلوما مما جلبه من بضاعة عند المسئول في بيت المال، والذي سيعوض التاجر عنها قيمتها (حسب ما يراه) بالعاج والصمغ العربي (وهما مما احتكرت الدولة التجارة فيه). كان ذلك التعسف الحكومي من أسباب إضعاف التجارة والمعاملات المالية وأدى في النهاية لإفقار البلاد وإفلاسها تماما.