السودانوية كحل لقضايانا الراهنة

 


 

د. عمر بادي
13 August, 2013

 



badayomar@yahoo.com 

عمود : محور اللقيا
ها قد عدنا إلى كتابة المقالات بعد الوقفة التعبدية مع شهر رمضان الكريم أعاده الله على القراء الكرام و على مواطنينا الصامدين حاليا أمام ضربات السيول و الأمطار , التي زادت طين المعاناة بلة ...
خلال شهر رمضان الكريم أتيحت لي الفرصة لأشاهد بعضا من حلقات الدراما التليفزيونية ( حكايات سودانية ) و هي عبارة عن تمثيليات يومية غير متسلسلة تعكس في مضمونها واقع الناس الإجتماعي في السودان , و قد لاحظت أن غالبية أبطال هذه الدراما إما معتوهين أو مخبولين أو مغيبين في عالم خاص بهم يبعدهم عن واقعهم ! و كأن هذا ما يحدث في أرض الواقع , نتيجة للوضع المعيشي المتردي الذي يكابده الناس و الذي أفرز نوعا من السلوكيات الإجتماعية دخيلة علينا ! لقد أشار إلى ذلك أحد الممثلين في قوله : ( البيقولوا , ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان , يبقوا غلطانين ) ! لكن رغم ذلك إستطاعت تلك التمثيليات التليفزيونية أن تؤكد من خلال أفراد المجتمع البسطاء أن التكافل و الترابط لا زالا موجودين و أن مقولة ( الفقراء إتقسموا النبقة ) لا زالت موجودة . كذلك أعجبتني فكرة السهرة التليفزيونية الرمضانية ( للود قضية ) و هي عبارة عن مواجهات بين المبدعين و المسؤولين في مجالات الصحافة و المسرح و الفرق التمثيلية و لجان النصوص و الألحان و الرياضة . لقد أعجبني في سهرة ( للود قضية ) مع الفرق الفكاهية ذلك النقد اللاذع الذي إنطلق من داخل الإستديو و من خارجه على دور تلك الفرق الفكاهية في نشر القبلية في شكلها البغيض من خلال النكات التي يرددونها على شاكلة : ( واحد شايقي قال لواحد جعلي .. ) أو : ( أدروب قال لواحد رباطابي .. ) و هكذا . لقد كنت قد تطرقت إلى هذا الموضوع قبل أكثر من عام في مقالة لي و ذكرت أنه أمر مستحدث و أن  النكات قديما ما كانت تروى هكذا مع ذكر القبيلة , و أن هذا الأمر كان يجد الإستهجان من المستمعين في بدايته فيضطر راوي النكتة أن يبرره بأنه هو أيضا من تلك القبيلة و أن الأمر مجرد نكتة و ( كده ) . لقد نبهت إلى خطورة هذا المنحى الذي سيقود إلى تفشي العنصرية .
في تلك السهرة من ( للود قضية ) أشار المشاركون من خلال ال ( فيس بوك ) أن الأمر قد إزدادت خطورته حين صارت الفرق الفكاهية تضع لكل قبيلة صفة ملازمة يصيغون عليها نكاتهم , فالشايقي ( بخيل و غتيت ) و الجعلي ( أحمق ) و الرباطابي ( مسيخ ) و العربي الحساني ( إنصرافي ) و عربي الجزيرة ( إتكالي )و البجاوي ( ساذج ) و الغرابي ( بتاع عمايل ) , و هذا تطور خطير يجب التصدي له . قبل شهر مضى قرأت في ال ( فيس بوك ) سخفا في شكل إعلان كتب فيه أحدهم أنه شايقي و كان قبل عشرة أعوام قد لعب لعبة ( الدسوسية ) مع أخويه و اشترط عليهما أن يدفع له أول من يجده مبلغ ثمانين جنيها و يدفع له الثاني حين يجده مبلغ خمسين جنيها , و لكنه منذ ذلك الحين لم يستطع العثور عليهما , و هو يطلب من القراء أن يساعدوه على العثور عليهما ! على الفور طلبت من سلطات ال ( فيس بوك ) أن يحذفوا هذا ( البوست ) السخيف الذي به عنصرية بغيضة مستترة , و قد كان , فتم إسقاطه !
من قال إن الشايقية بخلاء ؟ و كلمة   ( السنجك ) التي صارت تطلق على كل شايقي بحكم عمل الشايقية في الجيش السوداني منذ العهد التركي , هي في حقيقتها رتبة عسكرية عند الأتراك تطلق على قائد الأربعمائة , و لكن نسبة لإشتهار الشايقية بالكرم تحرفت الكلمة و صارت تطلق على كل شايقي كريم , فكيف يأتي هؤلاء و ينعتون الشايقية بالبخل ؟ إنها لمؤامرة عنصرية يسعى مروجوها لزرع الفتنة بين مكونات المجتمع السوداني , و لذلك وجب الحذر .
لقد توافق المثقفون السودانيون على تعريف الهوية السودانية بالسودانوية , و قد أورد هذا المصطلح الأستاذ أحمد الطيب زين العابدين الذي أبان من خلال كتاباته منذ عقد السبعينات أن للسودان خصوصيته الذاتية التي شكلت هويته من مجموع خصوصياته العرقية و اللغوية و الدينية في أقاليمه المختلفة . لقد كان السودان متنازعا ما بين الغابة و الصحراء , أي ما بين الأفريقانية و العروبة , لكن إذا ما وضعناهما معا في مكانيهما الصحيحين كوجهين لعملة واحدة هي السودانوية , زال الإلتباس . فإنه و منذ عام 651 ميلادية حينما أبرمت معاهدة ( البقط  ) بين عبد الله بن أبي السرح قائد جيش والي مصر عمرو بن العاص و بين الملك كاليرات ملك مملكة المقرة النوبية , بدأت هجرة العرب الجماعية و السلمية إلى السودان , و الأعراب عادة عندما يهاجرون يأخذون معهم أسرهم و مواشيهم , و لذلك فإن إزدواجية العروبة و الأفريقانية قد تجلت في جغرافية و تاريخ السودان خلال الألف عام التي اعقبت معاهدة ( البقط ) إما بالتجاور السلمي المقبول أو بالتصاهر و الإندماج المأمول , و لم يعرف الناس حينذاك معنى للعنصرية أبدا , و هذا ما يتجسد في السلطنة الزرفاء و في مملكة الفور و في مملكة المسبعات و في مملكة تقلي , حيث كانت كلها نتاجا لخليطٍ بين المكونين العربي و الأفريقاني للمجتمع السوداني . لم تظهر العنصرية في السودان إلا في القرنين الأخيرين بعد الغزو التركي للسودان , حيث أدخلوا معهم ثقافة البحر الأبيض المتوسط الطافحة بالعنصرية و بالعبودية , و قد كتبت عن كل ذلك بإسهاب في مقالات لي سابقة .
النوبيون في شمال السودان يعتزون بلغتهم النوبية القديمة بجانب تحدثهم بالعربية و لكن يوجد البعض منهم ممن ينكرون صلتهم العرقية بالعروبة , رغما عن أن شاعرهم مرسي صالح سراج قد كتب في ملحمة ( يقظة شعب ) التي تغنى بها الفنان الخالد محمد وردي أنه : ( حين خط المجد في الأرض دروبه , عزم ترهاقا و إيمان العروبة , عربا نحن حملناها و نوبة ) ! لي أصدقاء أعزاء من النوبيين لطالما حاورتهم و ذكرت لهم أن النوبيين الأصليين هم نوبة جبال النوبة , أما النوبيون في شمال السودان فهم أخلاط مع العرب و الشركس و المجريين و هذا واضح من الوانهم , و أن اللغة العربية لم تفرض عليهم بناء على بنود معاهدة ( البقط ) و ذلك لأنهم كانوا يمثلون الجانب القوى في عهد الممالك النوبية و كان التعايش سلميا . إن النوبيين يختلفون في ذلك عن البجاويين الذين يتحدثون أيضا لغتهم الخاصة و لكنهم رغما عن ذلك يقولون أنهم عرب و يعتزون بذلك ! إن أهم علاقة للنوبيين بالعرب هي عن طريق السيدة هاجر أم سيدنا إسماعيل و التي يعيد المؤرخون المصريون أصلها إلى أنها أميرة نوبية كانت قد وقعت في الأسر في إحدى المعارك بين الهكسوس الذين كانوا قد إحتلوا مصر و بين النوبيين في مملكة كوش في العام الألف قبل الميلاد , و أن حاكم مصر الهكسوسي قد زوجها لسيدنا إبراهيم لأن الهكسوس كانوا موحدين .
سيدنا إبراهيم عليه السلام كان بابليا و السيدة هاجر كانت نوبية و إبنهما سيدنا إسماعيل صار جدا للعرب المستعربة , الذين يمثلون معظم العرب الحاليين كالعدنانيين و المضريين و القيسية و أبناء نزار  , لأن العرب البائدة قد تلاشوا كعاد و ثمود و طسم و جديث و العماليق و جرهم , أما  العرب العاربة فإنهم لا يتواجدون إلا في دواخل اليمن كالقحطانيين , مثلهم في ذلك كمثل نوبة الجبال , و لذلك أرى أن يطلق على الإخوة النوبيين في الشمال إسم ( المستنوِبين ) بكسر الواو . للرسول الكريم حديث قد رواه الحافظ بن عساكر عن قصة الرجل الذي قلل من شأن الصحابة سلمان الفارسي و صهيب الرومي و بلال الحبشي , مما جعل الرسول يقول من خلال المنبر : ( أيها الناس إن الرب لواحد و الأب لواحد و إن الدين واحد , و ليست العربية بأحدكم من أب و لا أم , و إنما هي اللسان , فمن تكلم العربية فهو عربي ) . أيضا للفضل بن عتبة بن ابي لهب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بيت من الشعر يقول فيه :
و أنا الأخضر من يعرفني               أخضر الجلدة من بيت العرب
و الخضرة هي لون البشرة الداكن , كما يقال عندنا في عاميتنا .
عندما أمر الله و رسوله العرب المسلمين ليهاجروا في بقاع الأرض كي ينشروا الإسلام , لم يجدوا تلك البلاد التي هاجروا إليها خالية من سكانها الأصليين , بل كانت مكتظة بهم و لكنهم تصاهروا و إختلطوا معهم و كونوا الدول العربية المعروفة حاليا , فقط يبقى الإختلاف في الوان العرب مع ألوان هؤلاء السكان الأصليين , فإن كانت متناسقة أعتبر الجميع عربا , و إن كانت الألوان ما بين بياض و سواد إعتبروا غير ذلك , هل هذا يعقل ؟ إنني أرجو من القراء الكرام أن يقرأوا ثانية التعريف الذي اورده الأستاذ أحمد الطيب زين العابدين أعلاه عن السودانوية بكل تمعن . إنه يقول أن الخصوصيات العرقية و اللغوية و الدينية في أقاليم السودان المختلفة تشكل في مجملها الخصوصية الذاتية لهوية السودان التي سماها السودانوية . هذا يعني الإعتراف بالجزء و تمثيله في الكل , و هذا يتطلب القبول بالآخر تحت مظلة السلام و الحرية .
أخيرا أكرر و أقول : إن الحل لكل مشاكل السودان السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية يكون في العودة إلى مكون السودان القديم و هو التعايش السلمي بين العروبة و الأفريقانية و التمازج بينهما في سبيل تنمية الموارد و العيش سويا دون إكراه أو تعالٍ أو عنصرية . قبل ألف عام كانت في السودان ثلاث ممالك افريقية في قمة التحضر , و طيلة ألف عام توافد المهاجرون العرب إلى الأراضي السودانية ناشرين رسالتهم الإسلامية و متمسكين بأنبل القيم , فكان الإحترام المتبادل هو ديدن التعامل بين العنصرين العربي و الأفريقاني . إن العودة إلى المكون السوداني القديم تتطلب تغييرا جذريا في المفاهيم و في الرؤى المستحدثة و في الوجوه الكالحة التي ملها الناس !

 

آراء