المهدية والإسلاموية في السودان (2) .. عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 



المهدية والإسلاموية في السودان (2)

Mahdism and Islamism in Sudan

Gabriel R. Warburgجبريل واربورج

عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي


تقديم: هذا هو الجزء الثاني  من عرض وتلخيص لشذرات متفرقة ومختصرة من مقال عن"المهدية والإسلاموية في السودان" للبروفيسور جبريل واربورج نشر في الدورية الأكاديمية "المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط" العدد 27 عام 1995م. ولد المؤلف – بحسب سيرته الذاتية المبذولة في الشبكة العنكبوتية - في برلين بألمانيا عام 1927م وهاجر مع عائلته وعمره سبعة سنوات إلى فلسطين وبقي بهاحتى عام 1946م حين أكمل دراسته بكلية للزراعة، ثم درس تاريخ الدول الإسلامية في الجامعة العبرية بالقدس (1961 – 1964م) واللغة العربية وآدابها في جامعة لندن، والتي تحصل منها أيضا في عام 1968م على درجة الدكتوراه بأطروحة عن "إدارة الحكم الثنائي في السودان بين عامي 1899 – 1916م". عمل بعد ذلك أستاذا في جامعة حيفا حتى تقاعده في عام 1996م. نشر الكثير من المقالات المحكمة والكتب عن السودان ومصر ودول عربية وإسلامية أخرى منها كتاب "تاريخ وادي النيل" و"إعادة الشريعة الإسلامية في السودان في عهد النميري" و"الإسلام والقومية والشيوعية في مجتمع تقليدي: حالة السودان"وكتاب آخر عنالطوائف الدينية في السودان والسياسة منذ عهد المهدية، وعدة مقالات عن الإخوان المسلمين وأنصار المهدي والحزب الشيوعي في السودان وموضوعات متفرقة أخرى.
تناول المؤلف في الجزء الأول تاريخ ظهور "المهدية الجديدة" و"الإخوان" في السودان وبعض آراء الصادق المهدي وحسن الترابي.
*****    ******      *******************
التعاون مع نميري وتطبيق الشريعة
عد الترابي وجماعة الإخوان انقلاب نميري و"الضباط الأحرار"في 25 مايو 1969م  انقلابا علمانيا مواليا للشيوعيين،  بيد أنه لم يكن بإمكانهم فعل شيئ إزاء ذلك الانقلاب لوقوعه في غضون العطلة الصيفية للطلاب والذين كانوا يمثلون القاعدة الرئيسة للإخوان في السودان. حاول بعضهم التظاهر ضد الحكومة أثناء احتفالات المولد فتم اعتقال معظمهم على الفور بينما لاذ بعضهم بالفرار، والتجأ الباقون إلى "الجزيرة أبا" حيث قتلوا في المواجهات التي تمت في مارس من عام 1970م أو أسروا وهم يفرون نحو أثيوبيا مع الإمام الهادي المهدي. غادر عدد قليل منهم  البلاد وانضموا لـ "الجبهة القومية" التي كونتها أحزاب المعارضة، وتم سجن من بقي من هؤلاء وكان من بينهم حسن الترابي.
من بعد ذلك خفت حدة التوتر قليلا بين نميري والإخوان بعد إفشال انقلاب 19 يوليو الشيوعي فتم إِطْلاقُ سراح بعض العناصر الإخوانية وعاد الكثير منهم لأماكنهم في الجامعات وغيرها. كون الطلاب الذين أطلق سراحهم "جبهة الوحدة الطلابية"  وقاموا بالمخاطرة بمواجهة الحكومة في بعض الأحايين. قامت "الجبهة القومية" كذلك  بقيادة إنتفاضة ضد الحكومة في أغسطس وسبتمبر من عام 1973م  منيت بالفشل، بيد أنها أحدثت أيضا انقساما في أوساط المعارضين لمايو وكان لذلك بالغ الضرر على حركة الإخوان المسلمين بالبلاد، فقد اتهمهم الصادق بالتصرف بصورة مستقلة عن "الجبهة القومية"  في محاولة لزيادة شعبيتهم المتضائلة ، بينما أتهم الإخوان تلك الجبهة بخذلانهم. وكان من أهم النتائج غير المباشرة لإنشقاق "الجبهة القومية" هى تأييد الترابي وجماعته بعد 1975م  لإتباع سياسة براغماتية (عملية)  ترفض ما كان قادة "الجبهة القومية" في المنفى يخططون له للانقلاب على نميري. وكان هذا مما سهل على الترابي لاحقا الدخول في مصالحة مع نميري في 1977م.  وبدخولهم في مصالحة مع حكومة مايو  اكتسب  الإخوان دربة عالية بأمور الحكم في أجهزة الدولة المختلفة والتشريع والإعلام، وفتحت لهم خزائن الدولة كذلك. في المقابل لم يكن الإخوان يجدون غضاضة في المسارعة  بقبول كل ما تقول به أو تفعله حكومة مايو. كانت هنالك أقلية صغيرة (فقط) في مجلس شورى الإخوان ترفض تلك السياسة البراغماتية، بيد أن الأغلبية في ذلك المجلس برئاسة الترابي كان لها القول الفصل في استمرار العمل بتلك السياسة. توج ذلك التوجه العملي بقبول الترابي لمنصب "النائب العام" في عام 1979م وتعيين رفاقه في الجهاز القضائي وفي "الاتحاد الاشتراكي"،  التنظيم السياسي الوحيد المسموح به  في البلاد.  كان أهم ما قام به الترابي وجماعته  في تلك السنوات  هو التغلغل في القوات المسلحة والتي كانوا يعلقون عليها كل آمالهم في الوصول للسلطة.  كان يشاطرهم ذات الرأي راشد الغنشوي القائد الإخواني التونسي والذي صرح في عام 1979م بأنه يجب إزالة أي نظام غير مقبول شعبيا بالقوة العسكرية إن فشلت كل الوسائل الأخرى. كان ذلك الإعلان ينسجم تماما مع  فكر الإخوان الذي كان لا يرى أي بارقة أمل في أن يسمح لهم النظام القائم بتولي مقاليد السلطة بالوسائل السلمية مما يجعل التغلغل في أوساط القوات المسلحة لتحقيق أغراضهم  هو الخيار المنطقي والمبرر. وجد الإخوان المسلمون بين عامي 1978 – 1985م  الطريق إلى القوات المسلحة سالكا عن طريق الدعاة والأساتذة الذين كان نميري يدعوهم لمختلف أفرع القوات المسلحة من أجل إقامة الصلوات وتقديم المحاضرات والدروس الدينية، وأيضا عن طريق حض أعضاء جماعتهم للإلتحاق بالعمل في مختلف أفرع القوات المسلحة بعد تخرجهم من كليات الطب والهندسة والمحاسبة وغيرها، وكذلك حث الضباط المعاشيين من الإخوان المسلمين السابقين للعودة لصفوف الجماعة.
واصل الترابي سياسته البراغماتية مع نظام مايو فسارع بتأييد قوانين سبتمبر 1983م رغم أنه لم يكن أحد الذين شاركوا في وضعها، وكان مدرك القصور بعض موادها، بل كان قد وصفها ذات مرة بأنها "ليست إسلامية، والطريقة التي وضعت بها ليست دستورية". بيد أنه رد أيضا على من كانوا ينتقدون تلك القوانين الإسلامية ويقولون بأنه من المستحيل فرض الفضيلة بواسطة القوانين، بأن ذلك ينطبق على أي قانون في هذه البسيطة، وكان يؤكد على أن الحدود هي جزء من عملية تعليمية / تربوية تؤمل الدولة عند تطبيقها أن تصلح من أخلاق مواطنيها. كان للترابي سبب آخر لتبني تلك القوانين الإسلامية  ألا وهو أنه كان يدرك أن المحاكم العادية لم تكن لتطبق تلك القوانين والتي لم يتم التصديق عليها دستوريا. تولى القضاء في محاكم العدالة الناجزة التي كانت تحاكم المتهمين وفقا لتلك القوانين قضاة من الإخوان المسلمين وبعض رجال الطرق الصوفية (مثل المكاشفي طه الكباشي). تذوق بالتالي الإخوان المسلمون ربما لأول مرة في تاريخهم أول طعم للسلطة والنفوذ في البلاد. رصد المكاشفي الكباشي في كتابه عن تجربته تلك تاريخها من وجهة نظره وعبر عن تأييده لما كانت تقوم به تلك المحاكم، خاصة الحكم بإعدام محمود محمد طه في يناير 1985م.وفي المقابل عبر علماء قانون مثل بروفسيور عبد الله أحمد النعيم عن معارضتهم لذلك الحكم ولتلك القوانين  التي وصفوها بأنها " تنتهك حرية الأديان وتناقض القوانين الإسلامية"، إضافة إلى أن بعض القضاة الذين حكموا في بعض القضايا كانوا ينظرون مرة أخرى (كقضاة استئناف هذه المرة) في طلبات الاستئناف المقدمة من المدانين في ذات القضايا التي حاكمهم فيها نفس القضاة.
نال الإخوان المسلمون حظوة كبيرة في دنيا المال والأعمال بدخولهم القوي والمؤثر في مجال المصارف الإسلامية، وفي الشراكة مع أثرياء دول الخليج وبعض رجالات نظام مايو.
ولكن  (ولأسباب لم يسهب المؤلف في ذكر تفاصيلها) انقلب نميري على الإخوان المسلمين بعد أن إتهمهم بالخيانة  وأودع قيادتهم السجن في مارس من عام 1985م، وبقوا فيه حتى تمت الإطاحة بنظام مايو بعد نحو شهر واحد من ذلك التاريخ.  يرى عبد الوهاب الأفندي في كتابه "ثورة الترابي" (وهو ملخص لبعض ما جاء في أطروحته لنيل درجة الدكتوراه والمعنونة:  "التطور  الفكري والسياسي لحركة الأخوان المسلمين في السودان بين 1946 و 1986م") أن الحملة التي شنها نظام نميري ضد الإخوان المسلمين في مارس من عام 1985م كانت تتويجا لعملية طويلة ومتدرجة لعداء متزايد بين الإخوان وبعض الفاسدين من معاوني نميري والذين كان بعضهم قد مثل أمام محاكم الشريعة. كان الأفندي يرى أيضا أن اعتقال القيادات الإخوانية كان سببه المباشر هو الضغوط التي مارسها جورج بوش النائب الأول لرئيس الولايات المتحدة عند زيارته للخرطوم في مارس من عام 1985م.  زعم نميري بعد مرور سنوات من سقوطه من سدة الحكم أن أكبر خطأين وقع فيهما هما تطبيق قوانين الشريعة ووثوقه في الترابي.
الجبهة الإسلامية القومية بعد نميري
كان للجبهة القومية السودانية التي كونها الترابي بعد سقوط نميري في 1985م نفوذا كبيرا في أوساط المجلس العسكري الإنتقالي ومجلس الوزراء، والذي كان كثير من أعضائهما من الإخوان المسلمين أوالمؤيدين لهم أو المتعاطفين معهم من أمثال سوار الذهب رئيس المجلس العسكري الإنتقالي  والجزولي دفع الله رئيس الوزراء والذين أعلنا تأييدهما لقوانين سبتمبر 1983م وعدم رغبتهما في إلغائها ولكن في مراجعة  عدد قليل فقط  من بنودها. كذلك كان بشير حاج التوم وزير التعليم  وعمر عبد العاطي وزير العدل من مؤيدي الجبهة الإسلامية القومية.
دخلت الجبهة القومية الإسلامية انتخابات عام 1986م وهي تحظى بأفضلية نسبية على الأحزاب الأخرى في مجالي التنظيم والتمويل (من المصارف الإسلامية) بسبب تعاونها لسنوات خلت مع النظام المايوي،  فأفلحت في الحصول على 51 مقعدا في البرلمان (منها 23 مقعدا في دوائر الخريجين) وغدت بذلك – ولأول مرة في تاريخها – الحزب الثالث في البلاد (بعد حزبي الأمة والاتحاد الديمقراطي)، إذ حصدت نحو 42% من المقاعد النيابية بالعاصمة،  ونحو 29% من أصوات جميع الناخبين. لعله من اللافت للنظر في نتائج تلك الإنتخابات أن الجبهة القومية الإسلامية نجحت أيضا في انتزاع دوائر كانت  لسنوات مضت  حكرا على حزب الأمة في غرب السودان.
عزا الترابي نجاح الجبهة القومية الإسلامية في تلك الانتخابات  إلى عوامل متعددة منها:
1/  حسن التنظيم وجودة التمويل.
2/ تحرر الجيل الجديد من الناخبين من ربقة الطائفية نتيجة الاستقلال الاقتصادي والتعليم الحديث.
3/ تبني الجبهة للمفاهيم الحديثة (الغربية النمط) في شأن تحرير المرأة وحقوقها مما جعل أعدادا كبيرة من النساء يصوتن لصالحها. عد الترابي هذا إختراقا عظيما لجماعته  إذ أنه لاحظ أن النساء كن قد لعبن دورا كبيرا في حركة الإخوان المسلمين إبان اعتقال قياداتها في بدايات السبعينيات.
4/ تأييد كثير من الطرق الصوفية (الصغيرة) الذين كانوا يخشون من سيطرة طائفتي الأنصار والختمية عليهم.
5/ نالت الجبهة القومية الإسلامية تأييدا واسعا من المسلمين وغير المسلمين في جنوب السودان نتيجة لعمل دؤوب ومثابر في أوساط القواعد الشعبية في ذلك الجزء من البلاد.
6/ مواصلة الدعاية والإعلان وإقامة الليالي السياسية في كل أرجاء البلاد،والتي أكد فيها المرشحون الإسلاميون على التزامهم بالدستور الإسلامي وعلى إبقاء القوانين الإسلامية مما أكسبهم شعبية واسعة في أوساط الناخبين المسلمين.
وبعد عقدين من التحالف والعمل المشترك مع حزب الأمة والأنصار إتخذت الجبهة القومية الإسلامية لها استراتيجية جديدة قوامها الهجوم الدعائي عليه مبعد أن أفلحت في كسب معركتها ضد الشيوعيين (العدو المشترك لهما). كان الترابي يتهم  قادة الأحزاب الطائفية بإستغلال الدين من أجل تنفيذ طموحاتهم السياسية، ويؤمن كذلك بأن الجبهة القومية الإسلامية هي "الوريث الطبيعي" للتراث الإسلامي في السودان، خاصة وأن جماهير الأحزاب التقليدية (الطائفية) قد انفضوا عنها، ويؤمن كذلك بأن "النسخة الحديثة" من الإسلام التي تقدمها الجبهة كفيلة بضمان رفاهية وتطور الأمة وإنقاذها من وهدة الفقر التي ترزح تحتها. أقامت الجبهة القومية الإسلامية  شبكة علاقات دولية واسعة مع الإسلاميين في الباكستان وتونس والكويت واليمن (وبصورة أضعف كثيرا مع الإخوان المسلمين  في مصر).
بدأ الفصل الأخير في 30/ 6/ 1989م حين تولى العسكر حكم البلاد، وأعلنوا عن أنفسهم كمنقذين للإسلام. لا يهم هنا أن نبحث في عما إذا كانت الجبهة القومية السودانية ضالعة بصورة مباشرة  في ذلك الانقلاب أم لا فالعبرة بنتائج تعاونها مع السلطة الجديدة. تم فصل نحو 2000 من ضباط الجيش وموظفي الدولة في مختلف الوزارات والجامعات وغيرها  وتم إحلال أعضاء الجبهة مكانهم، وتبين لاحقا  أن 9 من أعضاء مجلس قيادة الثورة (والبالغ عددهم 15) كانوا من أعضاء الجبهة القومية السودانية  أو من المتعاطفين معها، وكان معظمهم  من ضمن من شهدوا المحاضرات والندوات التي كان يقيمها قادة الجبهة الإسلامية القومية عن الايديلوجية الإسلامية  منذ عام 1977م.
الدستور الإسلامي
ظل الأخوان المسلمون ومنذ بدء إنشاء  تنظيمهم يدعون إلى قيام دولة إسلامية تقوم على مباديء الشورى بين العلماء والمفكرين  والسلطة التنفيذية في أمور التشريع وإتخاذ السياسات. اقترح الأخوان  في عام 1956م دستورا إسلاميا لجمهورية إسلامية لها رئيس مسلم  وديمقراطية برلمانية أساسها القوانين الإسلامية وحددوا خمسة أعوام لأسلمة الدولة وقوانينها مع ضمان حقوق غير المسلمين وعدم التمييز السلبي ضدهم. وبعد ثورة أكتوبر 1964م  قدم الترابي اقتراحا براغماتيا  سماه "الميثاق الإسلامي" يفارق ما كان ينادي به غلاة المتشددين الرافضين للمجتمع "الجاهلي"  المعاصر من أمثال الشيخ  أبو الأعلى المودودي وسيد قطب ويعالج القضايا المعاصرة مثل  حقوق المرأة  ووضع غير المسلمين في الدولة المسلمة ، وذلك  بروح العصر دون إخلال بقواعد الشرع، ومنذ ذلك التاريخ ظلت أمور "الشورى" و "التجديد"  و"الإجماع" هي شاغل الترابي الأكبر. كانت لآراء الرجل (وجماعته) أثرها الكبير في أعمال ومناقشات لجنة الدستور في عام 1968م. (بعد هذه السطور قدم الكاتب تفصيلا موسعا لبنود الدستور الإسلامي المقترح جاء فيه أن الإسلام هو دين الدولة واللغة العربية هي لغة البلاد الرسمية، وحرم ذلك الدستور في بنده الثالث والعشرين اعتناق الشيوعية). لم ير ذلك الدستور النور إذ أن سيف انقلاب مايو 1969م كان أسبق.
الخلاصة
خلص الكاتب إلى أن الفروقات بين الأنصار وبين الجبهة القومية الإسلامية وبين أفكار الصادق المهدي وحسن الترابي المتعلقة بقيام دولة إسلامية هي فروقات سياسية وتكتيكية أكثر منها ايديلوجية.  يعد الصادق المهدي تراث المهدية التاريخي القديم دليلا على نجاح دولته الإسلامية المقبلة. وإضافة لذلك، ولأن المهدي والأنصار كانوا هم من أقاموا دولة إسلامية في القرن التاسع عشر، لا يبدو أن هنالك سببا كي لا يترأس الدولة الإسلامية القادمة فرد من أفراد عائلة المهدي (مثل الصادق المهدي نفسه!). في المقابل يعد الترابي الختمية والأنصار طوائف دينية تقليدية  تترأسها سلالات حاكمة رجعية لا يمكن الوثوق بقدرتها على قيادة دولة إسلامية عصرية. لا أمل يرجى  عند الترابي في حزب يدين بالولاء لبيت وليس لأيديلوجية، ولا في إسلام يبنى على العصبية (المتوارثة). يرى أنصار الجبهة القومية الإسلامية أن الختمية  والأنصار قد  فقدا كل تأييد لهما في جنوب السودان والمناطق الأخرى، وفي أوساط الطبقة المثقفة والنساء، بينما يرون أنفسهم مؤهلين للعمل على توحيد كل السودانيين (سواء أن أكانوا أنصارا أو ختمية أو صوفية أو غير ذلك) تحت حركة قومية واحدة، ويرون كذلك أن مهمة إدارة الدولة الإسلامية المستقبلية  ستكون في أمان في أيدي الحركات الإسلامية العصرية.
هنالك اختلاف آخر بين  الأخوان المسلمين وأنصار المهدي في الطريقة التي يحاول بها كل فريق الوصول لسدة الحكم. وبإستثاء ما قام به حزب الأمة من دور في انقلاب عبود عام 1958م  ومباركة السيد/ عبد الرحمن المهدي لذلك الانقلاب فإن حزب الأمة (والأنصار) كانوا يرفضون دوما تدخل الجيش في السياسة، ولا يؤمنون بالعنف إلا في مقاومة الحكومات العسكرية. يعترف الصادق المهدي بفشل الديمقراطية البرلمانية  في السودان نسبة  لظروف البلاد الاقتصادية والاجتماعية التي حالت دون تمثيل القوى السياسية الحديثة،  بيد أنه  يعتقد أيضا  بأن العسكر قد فشلوا أيضا لأنهم يمثلون طبقة  قمعية صغيرة ضيقة لا تراعي مصالح الغالبية العظمى من المواطنين وحقوقهم المدنية.
يتفق الأنصار والجبهة الإسلامية القومية في استعدادهما لإستخدام القوة لإنشاء الدولة الإسلامية.
يزعم الترابي ورفاقه أن حركتهم  حركة إسلامية عالمية تضم كثيرا من مفكري وعلماء العالم الإسلامي، ويرون أنه – وبعد سقوط الشيوعية-  فإن حركتهم الإسلامية  بقيت هي الحصن الوحيد المتبقي ضد فساد الغرب وثقافته الإستهلاكية، ولا يرون في المهدية غير نمط حكم  محلي توارثي تخطاه الزمن ويمكن التعايش والتعاون معه – إذا لزم الأمر- ولكنه ليس مؤهلا لقيادة دولة حديثة في هذا العصر. في المقابل يشجب الصادق نمط الدولة الإسلامية التي يدعو لها الترابي وينادي باحترام حقوق الإنسان  والديمقراطية ووحدة السودان. ولكن ألم تكن هذه القضايا المركزية ملحة أيضا عندما كان رئيسا للوزراء؟ ألا يتذكر المرء هذه المسائل المهمة إلا وهو في صفوف المعارضة أو قيد الإقامة الجبرية؟  ربما يكون  ما يزعمه الترابي ورفاقه في الجبهة الإسلامية القومية من تأثير حركتهم في أوساط  بعض دول العالم صحيحا، بيد أنه إن حدثت أي ثورة أو انتفاضة سياسية في السودان فسيكون فرصة عودة المهدي لسدة الحكم أكبر من فرصة الجبهة القومية الإسلامية نسبة لقوة وعمق جذور الأنصار في المجتمع السوداني، ومن يدري فقد تؤدي مثل هذه الثورة أو الانتفاضة لقيام دولة علمانية، بيد أن ذلك يعد أمرا بعيد الاحتمال.
******   **************************
تعليق أخير
يجب أن يتذكر القاريء أن بروفيسور جبريل واربورج نشر هذا المقال في منتصف تسعينيات القرن الماضي (أي قبل نحو 18 عاما كاملا) وقد جرت مياه كثيرة (شديدة الإضطراب) تحت جسر السياسة السودانية ليس أقلها المفاصلة المعروفة التي وقعت في عام 1999م بين الإسلاميين، والتي تجعل كثيرا مما تصور الكاتب حدوثه في المستقبل القريب بلا معنى تقريبا الآن. كذلك يتحدث الكاتب عن "حزب الأمة" و"الأنصار" ككيان موحد، ولكن ما حدث هو أن تلك الطائفة قد كاد عقدها ينفرط  خلال الأعوام القليلة الماضية، وأن ذلك الحزب قد تشظى لعدة أحزاب بعضها يقف في صف المعارضة (أحيانا) وبعضها في صف الحكومة (دائما) وبعضها الآخر مذبذب بين هذا وذاك.  كذلك لم يعد جنوب السودان جزءا من البلاد بعد عام 2005م، فأنتفى بذلك الحديث – على الأقل بصورة جزئية-  عن مشكلة التعدد الديني في البلاد وأثره على نمط الحكم في البلاد.
رغم كل هذا تظل مثل هذه الدراسة وغيرها من الدراسات الصادرة من الغربيين المهتمين بالشأن السوداني (لمختلف الأسباب ... الأكاديمية وغيرها)  ورغم الاختلاف على نوازع القيام بها أصلا،  ذات قيمة تاريخية عالية  إذ أنها دراسات محكمة ومجودة وموثقة وذات فائدة عظيمة للمؤرخينوللباحثين والمهتمين والقراء على وجه العموم من الراغبين في الاستزادة من المعرفة بشؤون هذا البلد "المعذب المنكود".  لعل من الفوائد (الجانبية) لقراءة مثل هذه المقالات التاريخية الراصدة هو مقارنة ومضاهاة أقوال وأفعال وتقرير ساستنا قبل عقود إزاء بعض المواقفمع أقوالهم وأفعالهم وتقريرهم الآن ... وسبحان من له الدوام!


badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]
////////////

 

آراء