السجناء السياسيون في وادي حلفا: بقلم: الأستاذ حسن دفع الله .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
بدر الدين حامد الهاشمي
9 September, 2013
9 September, 2013
تقديم: هذه ترجمة لمقال صغير نشره الأستاذ حسن دفع الله في مجلة "السودان في مدونات ومذكرات" العدد رقم 47 الصادر في عام 1966م عن السجناء السياسيين في وادي حلفا في بدايات العهد الاستعماري (البريطاني المصري). تخرج المؤلف (1924 – 1974م) في كلية غردون وعمل إداريا في حكومة السودان حيث كان من أهم أعماله تهجير أهالي وادى حلفا إلى منطقة خشم القربة. سجل تجربته في كتاب بالإنجليزية عنوانه "هجرة النوبيين" نشر بعد وفاته بحوالي عام.
********* ******** ********
اختار المستعمر البريطاني حلفا (المنعزلة نسيبا عن بقية مصر والسودان) كمكان مثالي لنفي وسجن أسرى نظام الخليفة عبد الله المهدوي من الأمراء والقادة . في السطور القليلة التالية نسرد جزءا من قصة هؤلاء الأبطال غير المحظوظين.
بعد هزيمة الأمير عبد الرحمن النجومي في معركة توشكي في عام 1889م نقل من قبض عليه حيا من قادة الجيش المهدوي إلى القاهرة كأسرى حرب. وفي عام 1893م تم بناء سجن في رشيد (روسيتا) لاستقبال هؤلاء الأسرى لفترة اعتقال غير محددة. وعقب معركة النخيلة في يوم 8/4/ 189م استسلم الأمير محمود ود أحمد للجيش الغازي مع مجموعة كبيرة من أفراد جيشه، كان من ضمنهم بعض إخوانه، أرسلوا جميعا عبر وادي حلفا للانضمام لمن كانوا قد أسروا في معركة توشكي. وفي تلك الأيام تقرر بناء سجن آخر في دمياط ليستقبل الأسرى من قادة جيوش النظام المهدوي الذين كان يتوقع أسرهم أحياء في غضون مسيرة الجيش البريطاني المصري نحو أمدرمان. عند انتهاء معركة أمدرمان تم أسر مجموعة كبيرة أخرى من أمراء وقادة الجيش المهدوي الشجعان (وغالبهم من التعايشة والدناقلة) وأرسلوا جميعا تحت حراسة عسكرية مشددة إلى دلتا النيل عن طريق سواكن. هرب الأمير عثمان دقنة إلى "قوز رجب" و"طوكر" حيث عاش هناك متنكرا، ولم يكتشف أمره إلا في 19/ 1/ 1900م حين تم أسره ونقله عبر البحر الأحمر إلى سجن دمياط.
شملت قائمة القادة والأمراء الأسرى: عثمان دقنة، وعلي عبد الكريم وإسماعيل أحمد وزوجه مستورة وولده محمد وبنته صافية، ومحمد المهدي أحمد وزوجه صافية وبناته حليمة وفاطمة وسكينة، وإبراهيم مالك (وكان عمره 60 عاما) وبناته معروفة وزهرة وفاطمة وولده عباس، وعبد الباقي الوكيل (وكان عمره 65 عاما) وزوجته فاطمة وبنته زهرة وولده بقادي، ومحمد أحمد الحلو (وكان عمره 28 عاما) وزوجه الشلكاوية الكريم يونو وولديه يعقوب وعلي وبنتيه نور الشام وآمنة. شملت القائمة أيضا خاطر حمادة، وعلي فرفار (والذي كان عاملا لدي الزاكي طمل) وهبلة المحسون، وإبراهيم مخير، وإبراهيم مالك، ويعقوب أبو زينب، ويونس ود الدكيم (القائد المشهور)، وعلي الشيخ سيد، ومحمد الزاكي، وإبراهيم الترجوماوي، والخاتم موسى، وفضل الحسونة، وعوض أبو القاسم، ومحمد فضل الله، وشريف آدم عبد الرحمن، وكور نادوك.
لبث هؤلاء الأبطال التعساء في سجن الدلتا حتى عام 1908، وتعرضوا خلال فترة سجنهم لصنوف شتى من القسوة والضنى وسوء المعاملة، إضافة لطقس البحر الأبيض المفرط الرطوبة الذي لم يكن يألفونه. لقي بعضهم (مثل الأمير محمود أحمد) مصرعه لأمراض صدرية سببها ذلك الجو البارد الرطب.
تقدم الأسرى في 22/ 3/ 1908م بعرائض استرحام لقلم المخابرات ولسلاطين باشا (والذي كان يعمل كمفتش عام لحكومة السودان في القاهرة) لإعادتهم للسودان. ذكروا في عرائضهم برودة ولزوجة ورطوبة جو دمياط والتي أدت لوفاة كثير منهم، وإحداث أمراض متنوعة بين من بقي منهم على قيد الحياة. انزعج قلم المخابرات من تلك العرائض وعن من حرض السجناء على تقديمها. بعد كثير من التحريات تبين أن العرائض قد أملاها أخوا الأمير محمود ود أحمد على أحمد ود حلو والذي خطها بيده، وكان السجناء يصرون على إرسال عريضة استرحام كل أسبوعين.
في ذات الشهر زار رجل بريطاني يمثل الحزب الليبرالي اسمه بريلسفورد سجن دمياط حيث طلب مقابلة الأمير عثمان دقنة واجراء مقابلة معه. ذهل بريلسفورد مما سمع وشاهد من بؤس حالة السجناء وسوء أحوالهم وضنك معيشتهم، وعبر عن ضيقه واحتجاجه للسلطات البريطانية على المعاملة التي كان يلقاها أسرى الجيش المهدوي وطالب بمعاملتهم معاملة إنسانية عادلة. أثار احتجاج بريلسفورد قلقا وضيقا عند الإدارة البريطانية، خاصة بعد عودته للندن ونشره لمقال انتقد فيه – وبحدة- أوضاع سجناء الجيش المهدوي وتقديمه لتقرير مفصل عن أحوالهم لوزارة الحربية.
بعد ذلك التقط بعض الصحفيون المصريون أخبار المعاملة البالغة السوء التي كان يلقاها أسرى المهدية فظهرت مقالات في "الأهرام" و"المنبر" و"اللواء" و"المؤيد" تعضد ما ذهب إليه البريطاني بريلسفورد، ونشر الكاتب المشهور حسين هيكل رئيس تحرير "السياسة" لسان حال الحزب الدستوري الليبرالي مقالا شديد اللهجة عنوانه "الرحمة فوق العدل- عثمان دقنة السجين الأبدي" وصف فيها معاملة السجناء المهدويين بأنها غير إنسانية. كذلك وصف هؤلاء السجناء بأنهم "ليسوا مجرد سجناء بل هم من ذوي الحيثية ومن كبراء قومهم، وإنما قاموا به من أعمال حربية كان للدفاع عن بلادهم ضد قوى أجنبية، وهو واجب مقدس". ختم مقاله بدعوة السلطات البريطانية لإطلاق سراح السجناء فورا وإعادتهم لبلادهم.
أخاف ما قام به البريطاني الليبرالي بريلسفورد وما نشره بعض الصحفيين المصريين عن مسألة السجناء السودانيين السلطات البريطانية، وخيشوا أن تثير قضيتهم مثل ما أثارته فضيحة "دنشواي" من قبل، فقرروا بعد إمعان النظر في الأمر وتقليب وجوهه المتنوعة نقل السجناء إلى وادي حلفا على دفعات صغيرة. وصلت الدفعة الأخيرة من هؤلاء إلى وادي حلفا يوم 13 أبريل من عام 1908م، وحل الأمير عثمان دقنة بها في ديسمبر من ذات العام.
تم تقسيم السجناء في وادي حلفا إلى مجموعات بحسب أهميتهم السياسية. كانت المجموعة الأولي مكونة من القادة العظام المهمين (مثل عثمان دقنة وعلي عبد الكريم) وتم وضع هؤلاء تحت حراسة مشددة في القلعة رقم 4، ولم يكن يسمح لهما بمغادرة زنزانتيهما إلا مرة واحدة في اليوم عند منتصف النهار. كانت هناك مجموعة (ب) والتي تتكون من الأنصار من كبار السن (مثل الخاتم موسى وعلي فرفار ويونس ود الدكيم وإبراهيم مالك وغيرهم) وتم سجن هؤلاء في القلعة رقم 4 أيضا، ومنح كل واحد منهم قطعة أرض شرق ورش السكة حديد لزراعتها، بيد أنهم منعوا من الاتصال بأي فرد من الأهالي في المنطقة. كانت هنالك المجموعة (ج) وكانت مكونة من صغار رجال الأنصار (مثل إسماعيل ومحمد المهدي وأشقاء محمود ود أحمد وكور نادوك) وتم وضع هؤلاء تحت المراقبة والإقامة الجبرية وسمح لهم بالإقامة في معسكر سلاح الهجانة القديم والتجول بحرية في المدينة والدخول في مجال الأعمال التجارية في السوق، وتم تم تعيين بعضهم كعمال في ورشة السكة حديد بالمدينة.
بعد مرور عدد من السنين غيرت حكومة السودان من موقفها حيال هؤلاء السجناء وقررت اتخاذ خطوات بناءة من أجل "تأهيلهم" وإعادتهم للحياة الطبيعية في المجتمع السوداني الجديد. تم تعيين من كانت لهم خبرة بالزراعة (من خلال تدريبهم في المزرعة التجريبية في ميت ديبا) في وزارة الزراعة، وعين بعضهم الآخر كعمال في السكة حديد. سمح لعدد قليل من هؤلاء السجناء بالرجوع لأمدرمان وود مدني والقضارف والجبلين وسنجة وكوستي، وبحلول عام 1917م لم يبق في وادي حلفا من هؤلاء السجناء غير أربعة فقط، تقرر مواصلة حبسهم نسبة لخطورتهم على الأمن في ذلك الوقت هم عثمان دقنة وعلي عبد الكريم وعوض أبو القاسم ومحمود أحمد حلو. وبعد فترة قصيرة تم الافراج عن عوض أبو القاسم ومحمود أحمد حلو وسمح لهما بمغادرة حلفا والإقامة الجبرية في قريتيهما الأصليتين. وبهذا لم يبق غير عثمان دقنة وعلي عبد الكريم، والذين كتب عليهما قضاء بقية حياتهما في السجن بحلفا.
قدم عثمان دقنة في عام 1923م عريضة استرحام للسلطات للسماح له بأداء فريضة الحج، بيد أن رغبته النبيلة تلك قوبلت برفض سريع وحاسم. تسربت أخبار ذلك الرفض ووصلت إلى مسامع وكالة رويتر والصحافة الليبرالية في بريطانيا، وتقدم أحد نواب الحزب الليبرالي بسؤال في مجلس العموم لوكيل وزارة الخارجية عن أسباب رفض طلب السماح بالحج لعثمان دقنة . أنكر المسؤول البريطاني أن عثمان دقنة قد تقدم بأي طلب من هذا النوع وطمئن النواب أن الرجل يقضي وقتا هادئا وسعيدا في المنفى، وهو في غاية الرضا والقناعة. ووجه ذلك الرد (غير الصادق) بهجوم عنيف من قبل الصحافة الليبرالية والتي جددت المطالبة بالتحقيق في الأمر ورفع الظلم عن الرجل.
لا ريب أن تلك الضجة الاعلامية قد أحرجت الحكومة البريطانية فأوعزت للسلطات السودانية الحاكمة بإجابة طلب عثمان دقنة، فتم وعلى مضض السماح – أخيرا- للرجل بالسفر إلى مكة وأداء فريضة الحج في عام 1924م. عاد بعد ذلك عثمان دقنة لمحبسه في حلفا، ومنح بعد حين بيتا صغيرا مجاورا لمركز الشرطة قضي فيه بقية عمره في الصلاة والصيام نهارا، ومكتفيا بأقل القليل من الطعام والشراب ليلا. فاضت روحه في ليلة السابع من ديسمبر عام 1927م، وتم تشييعه في موكب هادئ ووري الثرى في مقبرة في "سيدي إبراهيم".
كانت تلك هي نهاية حياة أعظم بطل معروف في تاريخ السودان، وواحد من أشجع الرجال وأنبل الفرسان. قاد الـ "فيزي وزي"... أولئك المحاربون الأشاوس الذين انتصروا في خمس معارك وهزموا جيش الإمبراطورية البريطانية في طوكر وسنكات والتب وهندوب وتاماي. نالت بطولته وبسالته وبراعته تقديرا عالميا من المؤرخين، ومن الزعماء من أمثال ونستون تشرشل، والذي أغدق في مدح شجاعته وإقدامه.
بعد وفاة عثمان دقنة سمح لرفيق سجنه علي عبد الكريم لقضاء بقية حياته مزارعا مع عائلته في قريته القرير. لابد من أن نسجل هنا من أنه على الرغم من السجن والعزلة فإن هؤلاء السجناء الشجعان قد عوملوا معاملة حسنة من قبل السكان المحليين، وعندما سمح لبعضهم بالاختلاط مع السكان المحليين أقاموا صداقات معهم بقيت حتى بعد مغادرتهم لأوطانهم. رغم أن غالب أهالي وادي حلفا كان يجهلون التاريخ البطولي لعثمان دقنة، إلا أنهم كانوا يعدونه رجلا صالحا (استخدم المؤلف هنا كلمة قديس saint) وحاكوا حوله كثير من الأساطير.
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]
////////////