خذوا الحكمة من البرتقال

 


 

 


كيف لا

موضوع فلسفي قصير جاء على شكل سؤال وإجابة. هذا الموضوع الذي تم إرساله لعشرات الأشخاص جاء بدون اسم المرسل، وتم توجيه رسالته إلى مجموعة كبيرة ضمت كتاب ومهتمين سودانيين. تعودنا أن تأتي مثل هذه المواد كأخبار طبية ضعيفة أو دينية ملأى بالخزعبلات أو لها علاقة بالصحة والجمال، ولكن تعدُّ هذه من المرات القلائل التي ينبري فيها قائل لحكمة تأخذ براءة الاختراع من أول سطرين.
تقول كلمات الرسالة بعد السؤال:" إذا أخذنا برتقالة وعصرناها بقوة ماذا تتوقع أن يخرج منها ؟" ، الجواب : "عصير برتقال ، نعم صحيح ولن يخرج أي شيء آخر غير عصير البرتقال . مهما عصرنا . فلن يخرج لك أبداً عصير ليمون ولا عصير مانجو  والسؤال هنا لماذا؟  : لماذا عندما نعصر البرتقال يخرج لنا البرتقال فقط ؟ الجواب: ببساطة لأنّ هذا ما بداخلها ، فهي تحتوي على عصير البرتقال فقط ". وبغض النظر عن التكرار الممل لسؤال بديهي وإجابة من المفترض أن تكون أكثر بداهة وأقرب إلى ذهن المتلقي فإنّ هذا "الحكيم" أسهب واستمر في تفسير الماء بالماء ، فهو لم يقدّم شيئاً جديداً أو مفيداً كان يمكن اختصاره بقول مأثور :" كلٍّ إناءٍ بما فيه ينضح".
هذا الموضوع يستدعي للذاكرة كتاب ابن الجوزي (أخبار الحمقى والمغفلين) وذكره للأسباب التي حدت به إلى الشروع في الكتابة عن هذه الفئة :" الأول : أنّ العاقل إذا سمع أخبارهم عرف قدر ما وهب له مما حرموه فحثه ذلك على الشكر. الثانى : أنّ ذكر المغفلين يحث المتيقظ على اتقاء أسباب الغفلة إذا كان ذلك داخلاً تحت الكسب وعامله فيه الرياضة وأما إذا كانت الغفلة مجبولة في الطباع فإنها لا تكاد تقبل التغيير. الثالث: أنّ يروّح الإنسان قلبه بالنظر فى سير هؤلاء المبخوسين حظوظاً يوم القسمة فانّ النفس قد تملُّ من الدؤوب فى الجد وترتاح إلى بعض المباح من اللهو ".
وإذا كان ابن الجوزي (508-597هـ) قد كتب أخبار الحمقى والمغفلين ، وقسمه إلى أربعة وعشرين باباً، يذكر فيها أشعار وفصاحة وطبائع وصفات وأنواع الحمقى، كما يذكر الأمثال التي ضربت فيهم، فإنّه في عهدنا الحالي مطالبين بإفراد ملايين المجلدات حتى تتسع لما يجيء على وارد الإيميلات وصفحات الإنترنت.
حينما طرح حكيم زماننا هذا قضية عصير البرتقال كان يريد أن يضعنا في صورة الوجود البشري حينما يتعلق الأمر بالصراع، ولذلك السبب نجده لا يجمع بين البرتقال والمانجو مثلاً. كما أنّه لم يتواضع على توضيح أنّ هذه ليست أفكاراً ثابتة أو مسلمات، حتى تكسب رسالته احترام القراء. أمّا الأدهى والأمرّ أنّه لم يُخفِ عجزه في التغلب على صعوبات التعبير والانشاء ولكن قد يعالجها في موضوع آخر من البيئة المحلية يمكن أن يرتقي بمستوى التعبير والانتاج النثري إلى أبعد مما نتصور مثل حكمة النبق أو الدوم .
قصاصة البرتقال هذه نموذج فقط من كثير من الكتابات التي تشبه إلى حدٍّ كبير المحاولة في كتابة واجب إنشاء على طريقة المرحلة الإبتدائية ، ولكن الإضافة الألمعية هنا تكمن في المسحة العامة له باضفاء طابع الفكر والجدل وتأطير الموضوع بموقف فلسفي عميق. فلو لا هذا الفيلسوف وعلمه وحكمته لما علمنا أنّ البرتقال يخرج منه عصير برتقال ، وفوق كل ذي علم عليم.
(عن صحيفة الخرطوم)


moaney15@yahoo.com

 

آراء