نبي السودان المزيف .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
نبي السودان المزيف
The False Prophet of the Sudan
مقال تاريخي في مجلة "العلم" الأمريكية
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
alibadreldin@hotmail.com
هذه ترجمة لمقال قصير وقعت عليه مصادفة في المجلة العلمية الأمريكية "العلم Science" وهي كانت ولا تزال وبلا منازع المجلة العلمية الأولى في أمريكا (وبالتالي في العالم بأسره).
نشر المقال في العدد الثالث لتلك المجلة في يوم 15/2/1884م دون أن يذكر اسم كاتبه. ورأيت ترجمته لفائدته التاريخية، ولا يفوت بالطبع على أحد أن المقال قد كتب في عام 1884م (أي قبل عام على اكتمال نجاح الثورة المهدية بسقوط الخرطوم في يناير من عام 1885م) ويعرض لجزء من تاريخ المهدية بصورة تختلف قليلا أو كثيرا عما هو معلوم الآن، ويحفل ببعض الأخطاء التاريخية وغيرها. المترجم
******************
تثير الحركة الإسلامية في السودان اهتماما خاصا عند علماء الأجناس (ethnologists) لتماهيها مع الأحداث التي صاحبت انتشار الدين الإسلامي منذ ظهوره. علمت من خطاب وصلني من الخرطوم حديثا بأن قائد تلك الحركة هو محمد أحمد (المهدي) والذي ولد في دنقلا في عام 1260 هـ لأبوين فقيرين (هما عبد الله وأمينة)، وكان هو الثالث بعد ولدين آخرين (تضاربت الأقوال في تاريخ مولد المهدي فمنهم من قال أنه ولد عام 1259 هـ ، وورد أيضا في موسوعة السودان الرقمية أنه ولد في عام 1250 هـ. المترجم). بدأ في حفظ وتعلم القرآن في سن السابعة في مدرسة إسلامية، وأكمل حفظ القرآن كاملا وهو في الثانية عشر من عمره، وكان ذلك في ذات العام الذي توفي فيه والده. وكفله إخوانه من بعد ذلك ليكمل تعليمه في علوم الشريعة وقوانينها ويحقق بعض ما كان يصبو إليه من علو شأن ورفعة مكانة. بعد وفاة أمه ارتحل إلى "الجزيرة أبا" في النيل الأبيض ليبقى مع أخويه ويعمل معهما في صناعة بناء القوارب. قضى في تلك الجزيرة نحو خمسة عشر عاما عرف خلالها عند كل من عرفه بأنه رجل دين (مقدس) قبل أن يعلن أنه صار "المهدي المنتظر". قام الرجل بالكتابة لكل شيوخ الدين و"كبار الدراويش" في المنطقة بأن النبي محمد قد أتاه في المنام (والهواتف في حالة اليقظة أيضا. المترجم) وأخبره برسالة (من الله) مفادها أنه هو "المهدي المنتظر"، وأن سيطرة الترك قد حان أوان زوالها، وأن عهد "المهدية" قد أقبل زمانه، وطلب منهم في رسائله العون والسند والتأييد والمبايعة، إذ كان يدرك أن الحكام الترك لن يدعوه وشأنه وسيحاربونه. وعبر في إحدى رسائله عن عزمه التوجه لمكة في مستقبل قريب للحصول على مبايعة شريفها. كانت أخبار ذلك المهدي ونواياه قد فشت في الخرطوم قبل نحو عام من معرفة السلطات المحلية بالأمر. وقرر أخيرا (محمد) رؤوف باشا حاكم البلاد العام إرسال وفد برئاسة " محمود أبو السعود" للقاء النبي الجديد في جزيرة أبا. التقى "أبو السعود" الرجل في عشته محاطا بأنصاره، وعرض عليه أن يعود في معيته للخرطوم ليقوم بعمل خارق أمام الناس يثبت فيه صحة دعواه. أبى المهدي قبول ذلك التحدي فهدده "أبو السعود" بأنه سيرغمه بالقوة على العودة للخرطوم. عندها أشهر أنصار المهدي سيوفهم فتراجع "أبو السعود" عن تهديده وآب مع بقية الوفد على ظهر باخرته الصغيرة للخرطوم. وأمر بعد ذك اللقاء "أبو السعود" بالعودة إلى الجزيرة أبا في جيش صغير مؤلف من نحو 200 من الجنود لإحضار المهدي قسرا للخرطوم. وقد نزل الجنود على شاطئ الجزيرة ليلة 18/8/1881م وفي وحل كثيف وقعوا فيه ضحية كمين نصبه لهم الدراويش قضى عليهم جميعا. وحاول الدراويش مهاجمة الباخرة التي أتى بها "أبو السعود" وجنده، فأسرعت بالهرب إلى Cava . في يوم 21/8/1881م جمعت الحكومة عددا كبيرا من الجنود لسحق حركة المهدية قبل أن يستفحل أمرها، بينما خرج المهدي من جزيرته متوجها إلى "جبل قدير" تحت سمع وبصر جنود للحكومة لم يجرؤ أحدٌ منهم على منعه أو محاولة القبض عليه. وفي نوفمبر من عام 1881م هاجمه في "قدير" راشد بيك ومعه جيش من الشلك مكون من 500 من المحاربين. قضى المهدي وجنده في دقائق معدودة على محاربي ذلك الجيش المتحالف إلا واحدا منهم! وبعد تلك الهزيمة تم تعيين موظف أوروبي هو جقلر باشا للإشراف على حملة عسكرية هدفها الأول هو القضاء على المهدي وأنصاره. رفض جقلر باشا هذا أي عون أو مدد إضافي من الحكومة وزعم أن ما تحته من الجند كاف للقضاء على المهدي وأنصاره، وجمع جنودا بلغ عددهم نحو 7000 من حاميات كردفان وسنار وفشودة (في الأصل كاشودا. المترجم) والخرطوم، وعين يوسف باشا قائدا لتلك الحملة. كان اولئك الجنود من المستجدين قليلي التدريب، ولا يحملون من الأسلحة الفعالة غير 6 مدافع فقط.
وبعد ثلاثة أيام من وصول أولئك المجندين لقدير هاجمهم نحو خمسين ألفا من أتباع المهدي المتمردين بقيادة أخوين للمهدي. وقضى المتمردون على جنود الحكومة ولم ينج منهم سوى 24 مجندا، بيد أن المتمردين تعرضوا أيضا لخسائر فادحة في الأرواح كان أبرزهم أخوا المهدي. شجعت هزيمة جنود الحكومة تلك الحاميات التي جمع منها الجنود علي التمرد، فقام تمرد في سنار قتل فيه عدد من الجنود ونهبت ممتلكات الأوربيين. أرسلت الحكومة "كريم بيك" مع 3000 من الجنود العرب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بيد أنه هزم هزيمة نكراء وقتل معظم جنوده وفر من نجا منهم من الموت. وأعقبت ذلك عمليات حرق للقرى وسلب ونهب وفظائع لم تراع سنا ولا نوعا ولا جنسا.
في غضون تلك الأيام تم تعيين عبد القادر باشا حاكما عاما للسودان، بينما صوب المهدي رحله نحو الأبيض عاصمة كردفان مهاجما بالسيف كل من يعترض طريقه من سكان القري في المنطقة. وقد أسر المهدي قسيسين وراهبتين وعاملين آخرين في بعثة كاثوليكية في المنطقة وقام بتعذيبهم لثلاثة أيام متصلة بلا رحمة – وبدون جدوى أيضا- كي يرتدوا عن دينهم ويصبحوا مسلمين. وفي سبتمبر هاجم المهدي الأبيض بجيش بلغ عدد أفراده 192000 من المتمردين بعد أن صمد من كانوا تحت الحصار المهدوي بفضل خندق بنوه حول المدينة. قد أنهك ذلك الحصار المدينة وعرضها للجوع والتلف والموت، واضطر عندئذ كل الأوربيين بالمدنية لإعلان إسلامهم حفظا لأرواحهم وأرواح من معهم، رغم مصادرة كل ما كانوا يملكونه من مال وتجارة وغيرها، وتم أيضا تدمير البعثة الكاثوليكية تماما وحرق كل وثائقها. وبيع كثير من سكان المدينة عبيدا واغتصبت النساء. وقبل سقوط الأبيض وحدوث كل ما ذكرنا كانت الحكومة قد بعثت علي بيك بجيش لإنقاذ المدينة. تصدى لذلك الجيش الفكي المنا (سماه الكاتب (Mama كبير وزراء المهدي فهرب من جيش علي بيك نحو 1000 جندي نحو بارا واستسلموا للمتمردين بعد نحو أسبوعين. لم يكن النصر دوما حليفا لأولئك المتمردين في كل معاركهم، فعلى سبيل المثال كان المتمردون قد تمكنوا من الاستيلاء على كاركودي /كركوج؟ (سماها الكاتب Karkodi) (والتي هي مركز مهم لتجارة الصمغ العربي والعدس وتقع على النيل الأبيض) وقتلوا نحو 400 من جنودها وتجارها. ولكن بعد مرور 30 يوما على تلك المجازر تمكنت القوات المصرية من طرد أولئك المتمردين وأفلحت في إعادة القانون والنظام للمدينة. كذلك تمكنت القوات الحكومية من سحق قوات المتمردين في قرتين كبيرتين على النيل الأبيض تقعان على بعد 10 ساعات عن الخرطوم، وقتلت قائد المتمردين وثلاثة من أبنائه.
إلى ذلك التاريخ كان ذلك التمرد قد أفقد السودان نحو مائة ألف من الأنفس، وفي الوقت الذي كتب فيه ذلك الخطاب الذي وصلني كان هكس باشا قد وصل وكان من المتوقع قيامه بالقضاء على التمرد وإحلال القانون والنظام محل الفوضى والخراب، بيد أنه هو الآخر تعرض لهزيمة ماحقة وأعقبت هزيمة جيشه مجزرة كبيرة.
والآن تتعرض الحكومة المصرية لضغوط كثيرة من إنجلترا للتخلي عن السودان لجحافل المهدي، وسيترك التعساء ممن كتب عليهم البقاء في مراكزهم الحدودية البعيدة أن يظلوا فيها وأن يبقوا على أمل أن يتم انقاذهم في أوقات لاحقة.
هكذا تبدو قصة هذا المهدي وكأنها نسخة مكررة من قصص العصور الوسطى، ويصعب تخيل حدوثها ونحن في نهايات القرن التاسع عشر. وما لم تتدخل يد الحبشة القوية ضد قوات هذا النبي الكاذب، فلا يستبعد أبدا أن تلقى مصر على يديه نهايتها.