إدارة السودان في عام 1937م … ترجمة وتلخيص بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 



إدارة السودان في عام 1937م

The Administration of the Sudan in 1937

اي ان كوربن   E. N. Corbyn

ترجمة وتلخيص بدر الدين حامد الهاشمي

هذه ترجمة موجزة لمقال نشر في مجلة الجمعية الأفريقية الملكية (التي تصدرها دار نشر جامعة أكسفورد) في عددها رقم 38 الصادر في عام 1939م، وهو يستعرض أهم ملامح التقرير السنوي الخامس للسير / ستيوارت سايمس  الحاكم العام للسودان في تلكم السنوات (1936 – 1937م).
كان أهم حدثين وقعا في السودان عام 1936م هما التوقيع على الاتفاقية بين بريطانيا ومصر (والمسماة رسميا  بـ "الاتفاقية البريطانية - المصرية للصداقة والتحالف)، وكذلك الشكل الذي اتخذته العلاقة بين السودان ومصر وبريطانيا من جهة، وإيطاليا من جهة أخرى. ولقد توج ذلك كله في إبريل من عام 1938م بتوقيع اتفاقية بين بريطانيا وإيطاليا، حول ما سمي وقتها "الأجزاء التي تهم مصر".
ففي ما يتعلق بالاتفاقية بين بريطانيا ومصر فقد جاء تقرير الحاكم العام في عام 1936م مرحبا بها باعتبار أنها "ضمنت مصالح السودان، ومهدت لتعاون اقتصادي أوثق بين دولتي وادي النيل وبريطانيا لما فيه مصلحة الدولتين أي مصر والسودان"، إلا أن الكاتب لم يغفل ذكر أن كثيرا من المحافظين والذين تختزن ذاكرتهم الخرافات المتأصلة لم يعجبهم كثيرا مما جاء في تلك الاتفاقية المبتكرة، إلا بعد أن يروا رأي العين ثمارها أمامهم حاضرة وملموسة.
وحول تنفيذ الاتفاقية يقول التقرير: "وفي ديسمبر وصل للخرطوم عدد من الجنود المصريين والذين وضعوا  تحت تصرفي للدفاع عن السودان  بموجب اتفاقية الصداقة والتحالف البريطانية – المصرية. وكان أولئك الجنود يمثلون الكتيبة السابعة في الجيش المصري، وقمت بتوزيعهم على مدينتي الخرطوم وبورتسودان".
جاء إنشاء خزان جبل الأولياء على النيل الأبيض في نهاية عام 1937م، وعلى بعد أميال قليلة من الخرطوم،  كدليل عملي على الفائدة المادية التي جنتها مصر من علاقتها الحسنة بالسودان.
لقد شهد كاتب هذا  المقال عندما كان مديرا للمديرية التي يقع فيها هذا الخزان يوم الاحتفال ببدء العمل في إنشائه في عام 1919م.  إلا أن العمل في إنشاء الخزان توقف أحيانا بسبب عدم الثقة والشك بين الطرفين. وتجني الآن مصر ثمار تعاونها مع بريطانيا بزيادة ثروتها  ورفاهيتها وضمان أمنها (المائي) بهذا الخزان الذي يقيها  شر نزوات النيل.
ولعله من حسن الطالع أن صادف عام 1937م عيد جلوس ملكي الدولتين البريطانية والمصرية. فقد أعقب تتويج الملك جورج السادس والملكة اليزابيث الاحتفال بتولي الملك فارق في يوليو من عام 1937م لعرش مصر.
وعلى الرغم من أن حدود السودان تمتد مئات الأميال إلا أن الغزو الإيطالي للحبشة لم يترك أثرا ضارا على السودان. وفي أواخر عام 1935م وبدايات عام 1936م  قمنا بزيادة القوات المرابطة في المناطق الاستراتيجية التي  قد يهاجمها الأعداء، إلا أنه وبنهاية عام 1936م لم يعد ذلك ضروريا.  وأعقب تقهقر المقاومة الاثيوبية أمام تقدم القوات الإيطالية نجاح الإيطاليين في احتلال نقطة بعد أخرى على الحدود، بل وأفلحوا في الاستيلاء على نقطة مقابلة لمديرية كسلا في مارس وإبريل. ونتج عن سقوط نقطة أمام منطقة الفونج  عقب هزيمة الحكومة الاثيوبية قيام نزاعات متعددة بين زعماء القبائل في مناطق الحدود تلك. وما أن أنصرم عام 1936م حتى كانت كل مناطق الحدود في قبضة الجيش الإيطالي، والتي وصلت منطقة "قمبيلا"  المقابلة لمديرية أعالي النيل وذلك في السابع عشر من ديسمبر. وساد الغموض الموقف (العسكري) في مناطق جنوب غرب الحبشة مما استلزم إرسال فرقتين من جنود قوة دفاع السودان في الاستوائية إلى هضبة بوما وذلك في شهر يوليو، بقيت تلك القوات هنالك حتى ديسمبر من ذات العام وبعدها سحبت إحداها.
لم يشر تقرير الحاكم العام في 1937م للحدود إلا في فقرة واحدة من ثلاثة سطور فقط، مما يدلل على أن الأحوال عند حدود البلاد مع إيطاليا (مثلها مثل الحدود مع بلجيكا وفرنسا) كانت هادئة مستقرة.
لقد أدت عملية إعادة تنظيم السودان إداريا ودخول السيارات والطائرات للبلاد إلى تقسيم السودان إلى ثمان مديريات، وهي المديرية الشمالية وتمتد من الحدود مع مصر إلى قرب مدينة الخرطوم، ومديرية كسلا، وهي تشمل كل مناطق شرق السودان حتى البحر الأحمر، ومديرية الخرطوم، وهي المديرية الأصغر حجما ولكن بها العاصمة والحكومة المركزية، ومديرية النيل الأزرق في قلب البلاد بين النيلين الأبيض والأزرق، وتضم الآن أيضا ما كان يعرف بمديرية النيل الأبيض ومديرية كردفان في منطقة الغرب الأوسط، ومديرية دارفور في أقصى الغرب. هنالك أيضا مديريتين تسكنها القبائل الزنجية هما أعالي النيل في وسط الجنوب والاستوائية  في أقصى الجنوب.
و ظل الناس يتحدثون عن إعادة تنظيم المديريات منذ زمن طويل، وفي النهاية ترك الأمر لهذا الحاكم العام ليحسم الأمر.
وفي شأن العلاقات مع الدول الأخرى جاء في التقرير أن دخول الطيران قد جعل الوصول لكل مناطق السودان ممكنا، على الأقل بمجرد النظر من عل، إن لم يكن بالزيارة الفعلية على الأرض. وبلغت عدد المرات التي حطت فيها طائرات في وادي حلفا في عام 1937م ما يفوق الألف مرة، وكانت عدد تلك المرات في 1936م 825 مرة.
وأنشئت في  يوليو من عام 1937م  شركة الخطوط الملكية لتوزيع البريد كانت تصل بخدماتها حتى جوبا (والتي حولت لملكال عاصمة مديرية أعالي النيل فيما بعد لخطورة الهبوط في جوبا). وقامت الخطوط الإيطالية المعروفة باسم ليتوريا Littoria بزيادة عدد رحلاتها الاسبوعية بين روما وأديس ابابا (عن طريق السودان) إلى أربع رحلات.
للسودانيين عادة "سعيدة" هي نسبة الرفاه الذي ينعمون به إلى ما حباه الله سبحانه وتعالى لحكومتهم من خير وبركة، فتراهم يرددون أمام حكامهم أن "الله راضي عليكم". ولا غرو، فقد عادت الأمطار للهطول في السودان في عام 1934م (بعد طول جفاف)، وفاض النيل كذلك، ولازم "الحظ السعيد" الحكومة! وكان تأثير ذلك الحظ السعيد تراكميا. فقد جاء في تقرير الحاكم العام سنة 1936م أن ذلك العام كان عاما للرفاه والنماء، ثم تلى ذلك في تقريره لعام 1937م  أن حالة السودان الاقتصادية جيدة جدا. لم يكن هنالك جانب من جوانب الحياة في القطاعين العام والخاص لم يحدث فيه تقدم ملحوظ، وفي بعض الحالات تقدم باهر.
جاء في ذلك التقرير: "لقد ظهر الرخاء في البلاد وكثر النقد المتداول في أيدي الناس، وازداد معدل استهلاك السكر، وكثرت البنايات في الخرطوم وأمدرمان والمدن الكبيرة الأخرى، وارتفعت معدلات الادخار في المصارف وازدادت كذلك أعداد المسافرين في مناطق البلاد المختلفة مما شكل عبئا ثقيلا على طاقة النقل بالسكة حديد..."
وارتفعت قيمة تجارة البلاد الخارجية من 10.5 مليون جنيه سوداني في عام 1935م إلى 11.75 مليونا في العام الذي تلاه، وارتفعت كثيرا في عام 1937م  إلى ما يقارب 15 مليون جنيه سوداني. وبلغت الزيادة في قيمة الصادرات مليونا من الجنيهات في 1936م، و 2.5 مليونا في 1937م .
وقد كان نصيب بريطانيا من صادرات السودان يعادل 43.1%، ونصيبها من واردتها 24.2%.، بينما كانت صادرات السودان لمصر واليابان تعادل 19.3%  و18.9% على التوالي من جملة صادراته، ومثلت وارداته منهما 8.5%  و3.6% على التوالي من جملة وارداته.
وكانت تلك الأعوام أعوام رخاء غير مسبوق، ولا عجب، إذ إن دخل البلاد قد فاق ما كان متوقعا بنحو 1360975 جنيها سودانيا نتيجة لزيادة مبيعات قطن الجزيرة. وبما أن أسعار القطن في السواق العالمية كانت تأرجح بين صعود وهبوط، فقد قامت الحكومة وبحكمة كبيرة بتخصيص حساب خاص سمته حساب تسوية القطن
Cotton equalization account
ويوضع في هذا الحساب الأموال الفائضة من بيع القطن في السنوات السمان، ويستفاد من تلك الأموال في السنوات العجاف، عندما يكسد سوق القطن. وبهذا فإن حساب تسوية القطن قد يعد مؤشرا لحال الوضع الاقتصادي بالبلاد، والذي يعتمد بصورة شبه كاملة على إنتاج مشروع الجزيرة من القطن.
وقد كان لاستخدام نتائج الأبحاث الزراعية أثر كبير في زيادة انتاج الفدان الواحد من القطن. إذ بلغ انتاج الفدان الواحد يعادل 1.92 قنطارا من القطن في موسم 1932 – 1933م، وبفضل اكتشاف نوع بذرة قطن  محسنة (سموها  X 1530)  في الأبحاث الزراعية بمشروع الجزيرة ارتفع انتاج القنطار إلى 4.6 قنطارا في موسم 1935 – 1936م، ووصل في بعض المناطق إلى 5.4 قنطارا للفدان الواحد (لمزيد من المعلومات يمكن الاطلاع على مقال للدكتور سليمان محمد أحمد سلمان بعنوان "أضواء على مشروع الجزيرة" مبذول في الشبكة العنكبوتية. المترجم).
وصاحب استغلال العلم في خدمة المشاريع الزراعية التنموية في تلك السنوات  جهود من الحكومة للنهوض  بالتعليم التقني والفني بالبلاد.
ففي عام 1937م صادف أن كان هنالك وفد بريطاني من خبراء في التعليم مشهود لهم بالعلم والخبرة والكفاءة في زيارة ليوغندا لتقييم التعليم في شرق أفريقيا. فطلبت حكومة السودان من أعضاء ذلك الوفد أن يعرجوا على السودان لدراسة أوضاع التعليم في السودان ومستقبله. فاقترح أولئك الخبراء رفع كلية غردون التذكارية إلى "جامعة السودان" تقام فيها كليات علمية مثل كلية الطب والطب البيطري والزراعة. واختير – ولأول مرة بالسودان-  في عام 1938م ستة  طلاب لدراسة الطب وثلاثة  طلاب لكل في كليتي الزراعة والطب البيطري.  وتقرر أيضا فتح كلية للهندسة في عام 1939م، وبدأت منذ عام 1937م كلية القانون في قبول الطلاب.
وأنشئت كذلك مدرسة للشرطة تخرج فيها أربعة من بين ستة كانوا قد التحقوا بها، وتم تعيينهم كمساعدي مآمير. وتم تعيين عدد من السودانيين للعمل  ضباطا الجيش في قوة دفاع السودان. وبهذا فقد ساد الارتياح أوساط السودانيين بأن لهم فرصا في التوظيف والعمل في الوظائف العسكرية والمدنية بالبلاد.
وفي عام 1937م تم تعيين 414  سودانيا في وظائف كتابية.، وبذا ارتفع عدد الكتبة السودانيين إلى نحو 63% ممن يعملون في الخدمة المدنية بالبلاد، وكانت تلك النسبة تبلغ نحو 37% في عام 1920م.
وقد ذيل التقرير الحاكم العام  بسرد تاريخي  (ومن زاوية شخصية) لما مر بالسودان من أحداث منذ حرب أمدرمان  في يوم 2/ 9/ 1898م، والتي دخل السودان بعدها في "مدار الحضارة" (orbit of civilization) وحتى يوم كتابة التقرير في مايو من عام 1938م (أي بعد مرور أربعين عاما من بدء الحكم الثنائي).
يقول الحاكم العام إن ما تم انجازه في تلك السنوات يبعث على الفخر "المشروع"  بأهل البلاد من السودانيين، وكذلك بالذين قدموا لمساعدتهم، والذين قاموا  أولا بإحلال النظام محل الفوضى، ثم من بعد ذلك قاموا بإرشاد المواطنين ومساعدتهم  في التقدم والتطور بخطوات متئدة ومحسوبة.
ويقف الآن في صفوف بناة السودان الحديث ثلة من أبنائه من القادة الدينين (هكذا! المترجم) وزعماء القبائل، والجنود الشجعان ورجال الشرطة، و آخرين كثر. 

 

آراء