الدور الذي لعبته حيوانات السودان مع الجيوش المتحالفة 1940 – 1946م .. ترجمة وتلخيص بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

The part played by the animals of the Sudan with the allied armies, 1940 - 1946

بي زي ماكينزي  P. Z. Mackenzie

ترجمة وتلخيص بدر الدين حامد الهاشمي

هذه ترجمة موجزة لمقال نشر عام 1947م في "مجلة الفيالق البيطرية في الجيش الملكي" والتي كان يصدرها  فرع الطب البيطري في الجيش الملكي البريطاني، والذي تم إنشائه في 1796م. وكاتب المقال هو أحد أعمدة الطب البيطري في السودان في أربعينيات القرن الماضي.
ذكرني هذا المقال القديم بمقال نشر في صحيفة "كريستيان سينس مونتور" في عام 2007م بعنوان "الحمير في دارفور"   يصف فيه الكاتب الحمار في سنوات الحرب في دارفور بأنه ليس فقط دابة للنقل والحمل، بل هو سيارة "بيك أب" حية لحمل الماء والحطب، وللفرار من أتون القذائف وجحيم المعارك، ولإنقاذ الأرواح... ولعله بهذا التوصيف يفضل بعضا من بني البشر من مختلف الملل والنحل والألوان. المترجم
********     ************     *************
لعبت الحيوانات بالسودان في غضون سنوات الحرب العالمية الثانية دورا مهما يستحق التوثيق في تاريخ حملات الجيوش في أقطار الشرق الأوسط وغيرها من الدول.
استخدمت القوات المتحالفة في تلك المعارك واحدا أو أكثر من أنواع الحيوانات المستأنسة في السودان، والتي شملت الخيل والبغال والحمير والإبل وذلك للنقل وحمل الأمتعة وغيرها، وكذلك الأبقار والمعز والأغنام (الضأن) كمصادر للحوم.
كانت تصدر تلك الأنعام لبلدان بعيدة مثل إيطاليا (وفيها مركز قيادة منطقة وسط البحر الأبيض المتوسط) وإلى سوريا وفلسطين ومصر وواحات الصحراء وإرتيريا و الحبشة (حيث قيادة منطقة الشرق الأوسط)، وإلى عدن (حيث توجد قيادة شرق أفريقيا). ومن المحتمل جدا أن حيوانات الركوب السودانية قد نقلت أيضا من الشرق الأوسط إلى بلاد فارس والعراق في عام 1942م، بل وإلى جنوب شرق آسيا حيث اشتدت الحاجة لمزيد من التعزيزات في بورما في عامي 1944 و1945م.
لم تنشر – مبلغ علمنا-  أي دراسة هدفها تتبع حركة ومسار الحيوانات السودانية  لتلك الدول البعيدة، ولا عن مصير ما بقيت منها على قيد الحياة، ولا عن كم من أفواه الجنود والضباط أطعمت. والغرض من هذا المقال هو القاء بعض الضوء على قليل من هذه الجوانب.
الأبقار والمعز والأغنام
من المهم دراسة الأحداث التي أدت إلى أن يقوم السودان بتصدير أعداد كبيرة من الأبقار والمعز والأغنام من أجل اطعام جنود الحلفاء بين نوفمبر 1941م وأغسطس 1946م، وذلك لأهميتها السياسية وكذلك لكبر الأعداد التي صدرت.
كان مصدر اللحوم الوحيد  لجيوش الحلفاء في مصر  في نهايات الأربعينيات هو السوق المدني المصري، والذي كان يعتمد بدوره على لحوم الحيوانات السودانية المستوردة. وبطلب من الحكومة المصرية امتنعت جيوش الحلفاء عن الاعتماد على هذا المصدر المدني إلا في حالات الضرورة القصوى.
وفي يوم 16/12/ 1941 تحرك قطار شحن من مدينة الأبيض وهو يحمل أبقارا مصدرة للجيش البريطاني في مصر. كانت تلك أول شحنة لتجار سودانيين تصدر من السودان، وأعقبتها شحنات أخرى عديدة، كان تعداد كل شحنة فيها 3500 رأسا من البقر و10000 من الأغنام ترسل شهريا لمصر. وازدادت من بعد ذلك أعداد الحيوانات في كل شحنة فبلغت 5000 رأسا من البقر  و12000 من الأغنام.
ولم يكن ثمة عائق أمام تدفق تلك الشحنات الشهرية لمصر إلا عدم توفر عربات الشحن الكافية. وفكر المسؤولون في استخدام النقل البحري عن طريق بورتسودان وسواكن، إلا أن الأخطار الأمنية في البحر الأحمر وقلة السفن التجارية حالت دون ذلك، فظل النقل البري عن طريق السكة حديد هو الوسيلة الوحيدة المتاحة للنقل، خاصة مع توفر مواقع للحظر الصحي البيطري (الكرنتينات) قرب الحدود مع مصر.
تواصلت عمليات تصدير الأنعام السودانية تجاريا لمصر بوتيرة غير مسبوقة دون أي انقطاع لخمس سنوات متصلة، ونجح تجار الماشية السودانيين في توفير ذلك المدد المتصل من الحيوانات دون صعوبات تذكر، وبانتظام وكفاءة، وحرص الجميع على أن لا يصدروا إلا الذكور من الحيوانات، ولم يحدث أبدا أن تم تصدير الحيوانات غير البالغة أو الهزيلة أو المريضة.
كان عقد توريد لحوم هذه الحيوانات يعطي لشركة واحدة في كل مرة، تعمل وبصورة وثيقة مع الحكومة والجيش السوداني. وبفضل هذا الترتيب ظلت أسعار اللحوم  المعدة للتصدير وتلك المستخدمة محليا مستقرة دوما.
كانت الأبقار المشتراة للجيش تأتي من مناطق البقارة في جنوب كردفان وجنوب دارفور. وأتت عبر السودان أيضا  أعداد كبيرة من الأبقار من أفريقيا الوسطى (المستعمرة الفرنسية)، وكذلك جلبت للأبيض أبقار حمراء لونها ذات قرون طويلة من مناطق الفلاتة، وكذلك أبقار استوائية من مناطق أويل بالجنوب بعد عبورها لبحر العرب في أبيي. وحملت كذلك قاطرات الشحن في كوستي بأبقار أعالي النيل التي  تسمى "ماجوك"، والتي قدمت لكوستي على ظهور البواخر النيلية.
وجمعت أعداد كبيرة من الأغنام من مختلف السلالات من المناطق الرعوية في شمال السودان، خاصة منطقة الكبابيش في شمال كردفان، ومن مناطق الميدوب في شمال دارفور. وكانت تلك الأغنام تأتي لأمدرمان مشيا على الأقدام، بينما كان بعضها يتوقف في الأبيض. وجمع عدد قليل من هذه الأنعام من مناطق الجزيرة والنيل الأبيض والبطانة والفونج، وأتت أيضا أعداد من أغنام الزغاوة السوداء في شمال دارفور، تلك التي تتميز بغزارة الشعر وطول القرون، إلا  إن سلطات الجيش طلبت لاحقا عدم جلب الأغنام الزغاوية لعدم مناسبتها لاحتياجاتهم. وربما كان ذلك بسبب شكلها (conformation) أو بسبب وصولها لمناطق الحدود في حالة صحية سيئة بسبب طول السفر والإجهاد. وهنا تروي قصة طريفة عن تاجر مغامر أصابه الإحباط من رفض سلطات الجيش للضأن الذي جلبه لهم، فقام بإجراء عمليات تجميل جراحية (plastic surgery) قطع فيها أذيال أغنامه في محاولة منه لجعلها تبدو كالمعز بعد أن سمع أن الجنود الهنود مغرمون بأكل لحم المعز!
وعند سقوط أرض الصومال البريطانية (British Somaliland) توقفت إمدادات اللحوم عبر ميناء عدن، فأرسلت حكومة عدن طلبا عاجلا للسودان والهند لتوفير حيوانات اللحوم. أرسل السودان في سبتمبر من عام 1940م  سفينة شحن ملكية من بورتسودان وعلى ظهرها 120 من الأبقار و1200 من الأغنام و300 من المعز، وكانت تلك هي المرة الأخيرة، إذ أن حكومة عدن رأت أن ما يأتيها من الهند يناسبها أكثر.
أنشئت عدة مسالخ في مدن مصر (كالقاهرة والاسكندرية والسويس والاسماعيلية وقنا وسفاجة) لاستقبال البهائم السودانية، وكانت لحومها تستخدم لإطعام جنود الحلفاء في مصر، وكذلك لإطعام أسرى الحرب في المعسكرات التي أنشئت في مصر. ونقلت أعداد كبيرة من الحيوانات السودانية عبر صحراء سيناء حيث ذبحت في فلسطين.
وفي عامي 1944 و1945م نقلت أغنام سودانية حية إلى إيطاليا لإطعام الجنود الهنود في ساحات المعارك هناك، ونقلت كذلك من وادي حلفا لحوم بالشاحنات المبردة إلى جنود الحلفاء في الكفرة بليبيا.  
الإبل
ابتاع الجيش في نهايات عام 1941م وبدايات العام الذي تلاه  نحوا من 15000 من الإبل لحمل ونقل أثقال للقوات المكلفة بغزو الحبشة، ولنقل الإمبراطور وجنده من مناطق الحدود مع السودان  إلى مرتفعات الحبشة.  كانت تلك الحيوانات قد جمعت أساسا من الأبيض والنهود في كردفان، وجمع بعضها أيضا من مديرية النيل الأزرق، وقدم الكواهلة (وهم فرع من قبيلة الكبابيش) مائة من الإبل هدية للجيش.
تعيش إبل السودان عادة في مناطق سهلية رملية، وهي لم تألف العيش والترحال في المناطق الجبلية. ولذا فقد نفقت أعداد كبيرة منها في أرض الحبشة، أو تعذرت الاستفادة منها بسبب البرد والأمراض التي أصابت مفاصلها وأقدامها وظهورها، ولعدم توفر الغذاء الذي اعتادت عليه، وبسبب تفشي وباء طفيل المثقبيات  (trypanosmiasis). وقدرت الإبل التي نفقت في أرض الحبشة بتسعة ألف، وكثيرا ما كانت  جثث تلك الجمال النافقة  تشاهد وهي تملأ سفوح الجبال والتلال.
ورغم كل تلك الخسائر الكبيرة فقد أتمت تلك الدواب مهمتها في نقل ما أريد لها حمله، ووصلت بعض الجمال الناجية لأديس أبابا.
وبعد اختتام المهمة نقل ما بقي من الإبل التي عادت لسفوح الجبال والجروف، وتلك التي وصلت متأخرة من السودان ولم يتسن للجيش استخدامها، إلى السوق المحلي، وبيعت أعداد منها في مناطق جنوب شرق السودان (ذكر الكاتب أنه شاهد ذات مرة جملا كباشيا وعليه وسم الجيش يعمل في منطقة كرن بإريتريا  في عام 1944م).
استخدمت كذلك الإبل السودانية المجلوبة لحملة الحبشة في أعمال الحراسة التي كان يقوم بها الجنود على ظهور الإبل (الهجانة) في جبهتي كسلا والفونج  في الفترة الأولى من الحرب  حين كانت قوات دفاع السودان والقوات المتحالفة ما تزال في مرحلة الدفاع عن الحدود. ومن بعد ذلك، وتحديدا في أعوم 1942 –  1946م  استخدمت قوات الهجانة تلك في إريتريا  لحفظ الأمن الداخلي في الأراضي المحتلة، ولصد هجمات "الشفتة" ولمنع الاحتكاكات والصراعات الدموية بين القبائل على الحدود. وكانت غالب الإبل المستخدمة في هذه الحملة في إريتريا قد جلبت من منطقة قبيلة الشكرية في مديرية كسلا.
مما يجدر بالذكر نقل مئات الإبل لوقود الطائرات المعبأ في علب من الصفيح  سعة الواحدة منها أربعة جوالين للمطارات في دارفور في عام 1942م. فبعد أن أغلقت الـ
Western Mediterranean أمام الحلفاء، كان على إمدادات الطائرات المخصصة لقوات الشرق الأوسط أن تحمل جوا من ساحل أفريقيا الغربي عبر أجواء السودان، وأن يعاد تزويدها بالوقود في الجنينة والفاشر.  وكان وقود الطائرات متوفرا في الأبيض، بيد أن ترحيله بالشاحنات إلى دارفور كان محفوفا بالمخاطر نظرا لطول المسافة وسوء حال الطريق وقلة الشاحنات. ولكل ما تقدم لجأ الجيش لاستخدام الإبل في حمل الوقود. ولم يكن ذلك بالأمر السهل، فقد كانت كمية كبيرة من الوقود (تصل إلى نصفه) تتسرب من تلك الصفائح بسبب اهتزازها وهي على ظهور الإبل، إلا أن نصف الكمية التي تصل للجنينة والفاشر كانت كافية لتسيير تلك السفريات الجوية الحيوية.
كانت القبائل التي تربي الإبل تصدر لمصر في غضون سنوات الحرب مئات آلاف النياق السمينة من أجل بيع لحومها. ولعل مرد ذلك الطلب المتزايد على لحوم الإبل في مصر هو ارتفاع دخول الأسر المصرية مع توافد القوات الأجنبية لمصر، وعجز الدولة المصرية عن مقابلة الطلب الكبير على اللحوم من قبل مواطنيها من المدنيين والعسكريين والقوات الأجنبية من مصادرها المحدودة من الأبقار، مما استدعى الاعتماد على الإبل السودانية.
الخيل والبغال والحمير
بدأت الحكومة في عملية واسعة لشراء أعداد كبيرة من الخيول من البقارة بجنوب كردفان وجنوب دارفور في عام 1940م، وصحبت تلك العمليات الواسعة محاولات أخرى لشراء أعداد أقل من الخيول من مديريات أخرى. وفي ذلك العام تم تجميع نحو 1400 حصانا في اسطبلات ضخمة في الأبيض وواد مدني والخرطوم. و كانت كل الخيول المشتراة تخصى (جراحيا) فور دخولها لتلك الإسطبلات، ولم يحدث أبدا أن اشتريت أفراس (إناث الخيل).  ولم يسبق لتلك الخيول التعود على نوع السروج واللجامات الأوربية الطراز، واستلزم تدريبها عليها وقتا.
حاول ضابط مشتريات بريطاني شراء مائة من الخيول من قبيلة الرزيقات للجيش، فقدمتها القبيلة هدية كريمة منها للمجهود الحربي. واستخدم الجيش أيضا ما كان عند الشرطة وكردفان من خيول كأجراء عاجل، على أن يتم تعويضها  كلما تيسر شراء خيول من ملاكها.
واستخدمت البغال والخيول القزمة (ponies)  في حملة الحبشة لحمل المؤون والعتاد خاصة في معركة كرن الشهيرة. وبعد انتهاء حملة الحبشة (والتي قدر أن كثيرا من الخيول التي شاركت فيها قد سارت لمسافة لا تقل عن ألفين من الأميال) وجد أن هنالك فائض كبير من خيول الجيش في السودان، فتم بيع كثير منها في مصر لاستخدامها في عربات النقل "الكارو"، أو تم منحها للشرطة وغيرها من المؤسسات في فلسطين ولبنان والسودان، واستخدمت لحوم الخيول المذبوحة لإطعام أسرى تلك الحرب، وأشيع أن كميات من تلك اللحوم وجدت طريقها لإيطاليا ويوغسلافيا.
لا يعد السودان من الأقطار التي تربي فيها البغال، بيد أنه يجاور الحبشة، وهو قطر مشهور بتربية هذا النوع من الحيوانات حيث يستخدم في حمل الأغراض الثقيلة، وكان يشترى بكثرة في القلابات والكرمك على حدود السودان مع الحبشة. وبعد انتهاء الحرب وجد أنه قد تبقت من البغال التي استخدمها جيش الحلفاء 120 بغلا حبشيا، فتم التخلص منها بالبيع في مزاد علني أو بذبحها واستخدام لحومها لإطعام أسرى الحرب.
وتحسبا لاحتمال تسليح قوات من الأحباش للدخول في حرب عصابات في حالة قلبت امبراطورية شرق أفريقيا المجن وغدت قوة معادية  اشترت الحكومة السودانية مئات من الحمير من الخرطوم والأبيض ووضعتها في منطقة القضارف بمديرية كسلا. واستخدمت تلك الحمير في حمل وإرسال بنادق وذخائر للأحباش الذين قدموا لمناطق الحدود مع السودان لاستلامها والسير بها خلف خطوط الأعداء.
وكذلك أشترت حكومة السودان أعدادا كبيرة من الحمير لحمل الحطب للمحطات بين كوستي وجوبا حيث كانت البواخر النيلية (والتي تلعب دورا كبيرا في تقديم المواد المختلفة من شرق أفريقيا إلى الشرق الأوسط)  تتوقف من أجل التزود بالحطب (مما لم يذكره كاتب المقال هنا وذكره أحد كبار ضباط الجيش السوداني الذين اشتركوا في معركة كرن أن الحمير كانت تستخدم في حروب الحبشة ككاشفات للألغام، إذ ترسل في مقدمة الجيش للتأكد من أمن الطريق وخلوه من الألغام. المترجم". 
لعله من الطبيعي أن يعد المرء وطنه ومنطقته التي دارت فيها الحرب منطقة بالغة الأهمية، رغم أنها قد تكون منطقة صغيرة وليست بذات خطر أو ذكر كبير. ورغم هذا التحيز فإنني أزعم هنا أن حيوانات السودان قد لعبت أدوارا خلفية مهمة في الحرب العالمية الثانية بين عامي 1939  و1946م في مجالات توفير اللحوم وحمل المؤن والذخائر، وفي مجال النقل والتنقل بين مسارح العمليات في الأماكن المختلفة.




alibadreldin@hotmail.com

 

آراء