الديون على ضوء انهيار حكم القانون في دولة الجنوب . بقلم: البروفيسور/ البخاري عبدالله الجعلي
بسم الله الرحمن الرحيم
الديون على ضوء انهيار حكم القانون في دولة الجنوب والأوضاع الأمنية والإقتصادية المأزومة في السودان
البروفيسور/ البخاري عبدالله الجعلي
مما لا شك فيه أن ديون السودان الخارجية تشكل عقبة أساسية ليس في تحقيق قدر من التنمية فحسب بل تشكل أس واحدة من الكوارث التي يعاني منها السودان التي أقعدته من أي تطور وردته إلى الوراء مراحل تلو مراحل حتى جعلته من بين الدول الأفقر والأكثر فساداً في العالم وفقاً للتقارير الدولية. ومن المؤلم حقاً بطبيعة الحال أن تأتي الدولة التي تعد من بين الدول الأغنى في العالم من حيث الإمكانات والثروات الكامنة فيه زرعاً وضرعاً وأرضاً وماءً أن تأتي في مؤخرة قائمة الدول من حيث الفقر والمرض والجهل والفساد والإفساد وعدم الإستقرار السياسي السائد فيها. ولقد لفت نظرنا تحقيق نشرته التغيير في الصفحة الإقتصادية في عددها الصادر في يوم الأربعاء الموافق الخامس من مارس 2014 بعنوان (قسمة الديون بين الشمال والجنوب.... تعقيدات في الإنتظار) عكس ذاك التقرير ،وإن كان على عجل، الوضع الإقتصادي الصعب الذي يعيشه السودان كما صرّح بذلك محافظ بنك السودان الأسبق.
ولما كانت مشكلة الديون التي يعاني منها السودان ذات جانبين معقدين. الجانب الأول اقتصادي بحت وهذا نتركه لأهل مكة بحسبان أنهم أدرى بشعابها. وأما الجانب الثاني فهو قانوني يتعلق بصفة أساسية بالتداعيات القانونية لخلافة الدولة في القانون الدولي. ولهذا رأينا أن نفرد له مقالنا في هذا الإسبوع للنظر فيه من خلال أبعاده القانونية وتداعياته السياسية المتعددة. وبالتالي فإن من المهم ونحن ندقق النظر في هذا الموضوع أن نشير بدايةً إلى أن الكيانات السياسية ليست دائمة مثل البشر تماماً فهي تموت بالمفهوم القانوني كما يموت الناس. شاهدنا على ذلك أن ثمة دولاً حديثة تظهر في الوجود وأخرى قديمة تختفي عنه. وحدوث الإتحادات والإندماجات والإنفصالات والتفككات بين الدول لم تعد ظاهرة غريبة. وبالتالي كان على القانون الدولي الذي ينظم ويحكم نشوء الدول وتطورها منذ ميلادها وحتى اندثارها أن يستوعب مثل هذه الأحداث والتطورات في داخل اطاره العام مع مراعاة الحد الادنى من التمزق وعدم الإستقرار. ومن المهم التذكير بأن هذا الوضع لم يبدأ اليوم بل برز للوجود بصورة قوية مع نهاية الحرب العالمية الثانية. وما حدث في أوربا خلال العقد الأخير من تسعينات القرن الماضي يأتي في هذا السياق. فقد انحلّ اتحاد الجمهوريات السوفيتية وانبثق عن ذلك عدد من الدول ذات السيادة الآن وهي بيلاروسيا وجورجيا وكازاخستان وكردستان وملدوفا وتركمينستان وأوكرانيا وأوزبكستان. وكذلك ما حدث لجمهورية يوغسلافيا الفدرالية الإشتراكية على اثر وفاة رئيسها المشهور جوزيف بروز تيتو حيث انبثقت عن ذلك عدة دول هي صربيا والجبل الأسود والبوسنة والهيرسك وكرواتيا ومغدونيا. وحدث ذات الشئ بالنسبة لجمهورية تشيكوسلوفاكيا الفدرالية التي انقسمت إلى دولتين هما السلوفاك والشيك يضاف إلى ذلك توحيد الألمانيتين الشرقية والغربية على اثر انهيار حائظ برلين الشهير والذي انتهى بانبثاق دولة واحدة وهي ألمانيا المتحدة. ومن ناحية أخرى لابد من الإشارة لما شهدته أفريقيا بانبثاق دولة ارتريا عن دولة اثيوبيا. كل ذلك لم يكن بدايةً لأمر جديد. وأخيراً وليس آخراً فإن ما حدث في السودان، نتيجة لأخطاء نظام الإنقاذ التي لن يغفرها له التاريخ وهو انفصال جنوب السودان، يشكّل آخرما شهده العالم من انفصال في دولة موحدة إلا أنه لن يضع النهاية لحقيقة ان الكيانات السياسية ليست دائمة.
ومما لا شك فيه أن الأمر لا يقتصر على مجرد ميلاد دولة أو دول جديدة أو مجرد اختفاء أخرى بل الأمر ينطوي على صعوبات وتداعيات معقدة تترتب عن التغيير في السيادة السياسية على أي كيان اقليمي محدد وذلك فيما يتصل بأغراض القانون الدولي والعالم كافة. فعلى سبيل المثال لا الحصر تبرز تساؤلات عديدة منها: إلى أي مدى تكون الدولة المستقلة حديثاً ملزمة بالمعاهدات والعقود التي أبرمتها السلطة السيادية التي كانت على ذلك الإقليم في السابق. وبتعبير أوضح إلى أي مدى كان السودان على سبيل المثال ملزماً بالمعاهدات والعقود التي أبرمتها (حكومة السودان) قبل اعلان الإستقلال في الأول من يناير 1956؟. وهل تؤول جنسية الدولة الخلف (تلقائياً) Automatically إلى السكان لتحل محل جنسية الدولة السلف؟ وبتعبير آخر هل تؤول على سبيل المثال جنسية دولة جنوب السودان (تلقائياً) على كل من كان مقيماً في الجنوب بما فيهم كل السودانيين الشماليين الذين كانوا مقيمين في جنوب السودان؟ ثمّ ماذا يحدث للأملاك الخاصة والحقوق المكتسبة سلفاً في اقليم انتقل إلى سيادة أخرى؟ وماذا عن سفارات الدولة الأصل في الخارج إذا انفصل جزء عنها وشكّل دولة جديدة مثل دولة جنوب السودان؟ وهل تظل السفارات المملوكة للسودان في الماضي على ضآلتها تظل تلك الأملاك تابعة للدولة (السلف) Predecessor أم أن في المسألة (إنّ) ؟ وماذا عن العضوية في المنظمات الدولية؟ هل تظل الدولة السلف صاحبة المقعد أصلاً في المنظمة أم أن من الجائز أن يطالب الجزء الذي انفصل وشكّل دولة بأن يكون له ذلك المقعد؟ وقد لا يكتسب التساؤل الأخير صعوبات بالغة في المنظمات بصفة عامة إذ أن المجال سيكون مفتوحاً للدولة (الخلف) Successor لاكتساب العضوية طالما أصبحت دولة ذات سيادة واستوفت شروط العضوية في المنظمة المعنية. ولكن لكم أن تتصوروا أهمية هذا السؤال البالغة إذا كانت الدولة السلف التي انفصل عنها جزء وكوّن دولة مستقلة، كانت (عضواً دائماً) في مجلس الأمن بموجب ميثاق الأمم المتحدة على سبيل المثال. فهل ستكون العضوية حقاً أصيلاً للدولة السلف أم أن من الجائز أن تطالب به الدولة الخلف؟. وأخيراً وليس آخراً إلى أي مدى تكون السلطة الجديدة في الدولة المنفصلة مسؤولة بالنسبة لأصول السلطة القديمة بصفة عامة و(ديونها) على وجه الخصوص؟ وهنا مربط الفرس!!!.
لقد أنجزت مفوضية القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة منذ انشائها في 1946 في اطار مهامها لتقنين مختلف موضوعات القانون الدولي ونقلها من مجرد شكل قواعد عرفية دولية إلى شكل قانون اتفاقي بحيث يصاغ في اتفاقية دولية، لقد أنجزت من بين ما أنجزته من تقنينات "اتفاقية خلافة الدول على الأملاك والإرشيف والديون" لسنة 1983. لكن هذه الإتفاقية لم تدخل حيز النفاذ حتى الآن فضلاً عن أن السودان لم يفكر في التوقيع عليها أو الإنضمام إليها بطبيعة الحال. وفي السياق الذي ينصبّ فيه تركيزنا في هذا المقال نصت الإتفاقية على أنه :" إذا انفصل جزء أو أجزاء من اقليم دولة وكونت دولة، ومالم تتفق الدولة السلف و الدولة الخلف على خلاف ذلك، فإن ديون الدولة السلف تنقل إلى الدولة الخلف بنسب عادلة مع الأخذ في الإعتبار وبصفة خاصة الأملاك والحقوق والمصالح التي تنتقل إلى الدولة الخلف فيما يتصل بدين الدولة". وكما هو واضح فإن النص ينطوي على مبدئين هامين هما الإعتراف بالعدالة باعتبارها مبدأ ارشادياً هاماً في قسمة الديون الموروثة على ضوء خلافة الدولة والثاني مبدأ استصحاب الحقوق والإلتزامات المتبادلة للخلف. ويضاف إلى ذلك استصحاب المبادئ العامة لاتفاقية 1983 باعتبارها مبادئ عرفية دولية وردت في اتفاقية دولية لا يمكن تجاهلها بالرغم من أنها لم تدخل حيز النفاذ كما ذكرنا.
وإذا تركنا مسألة الأملاك جانباً فالنظر يتجه نحو مسألة (الأصول المالية والتبعات) Financial Assets and Liabilities باعتبارها موضوعاً ذا أهمية دولية من حيث أن قسمتها تحظى دائماً باهتمام جهات عديدة تشمل الدول الخلف والسلف بالإضافة إلى المؤسسات المالية الدولية والمقرضين الماليين الحكوميين والعامين المتحدين في (نادي باريس) وكذلك في (نادي لندن). وقد أكدت الممارسة الدولية وبصفة خاصة في حالة يوغسلافيا على سبيل المثال لا الحصر، أكدت الدور الهام للمؤسسات النقدية الدولية في بلورة مضامين ظلت مبهمة في القانون الدولي مثل مضمون )التوزيع العادل( Equitable distribution مقترناً بمحتوى موضوعي متماسك.
أن التساؤل الأخير الذي أشرنا له في صدر هذا المقال وهو الخاص بتداعيات خلافة الدولة على الأصول والديون بموجب القانون الدولي هو ما استوجب تدقيق النظر فيه على ضوء عدم الإستقرار السياسي والأمني والوضع الإقتصادي الصعب جداً في الدولة السلف (السودان) والدولة الخلف (دولة جنوب السودان) على حد سواء، وانعكاس ذلك وأثره بالنسبة لما تم الإتفاق عليه سلفاً بين الدولتين في هذا الخصوص. والثابت أن من المعالم الأساسية لقانون خلافة الدولة بالنسبة (للأصول والديون) The Assets and Debts أنه يقوم في المقام الأول على اتفاق يتم بين مختلف الأطراف المعنيين. فالتشاور ابتداءً بهدف التوصل لاتفاق على تسوية الديون له الأولوية وهو مبدأ قانوني عرفي دولي وأساسي ومهم جداً في مثل هذه القضية الشائكة. والسبب في ذلك يعزى إلى أنه لم تتبلور حتى الآن قواعد قانونية صلبة يمكن الإستناد عليها في قسمة الديون من الناحية القانونية في أي حالة من حالات خلافة الدولة العديدة. وبالتالي فإن الأمر يستند بالضرورة على الإلتجاء لالتماس حلول من (التطبيق الدولي) International Practice بيد أن التطبيق الدولي هو الآخر يطرح صوراً متباينة الأمر الذي يساهم في تعقيد موضوع هو معقد أصلاً.
صحيح أن ديون السودان التي تجاوزت الأربعين مليار من الدولارات لم تبدأ مع عهد نظام الإنقاذ. لكن نظام الإنقاذ كرّس تلك الديون وعمّقها حتى قبل انفصال الجنوب عن السودان باهتمامه بالصرف على آليات الحرب والدمار والتجوال في كل دول العالم وتنظيم المؤتمرات والإجتماعات التي لا تحصى ولا تعد حتى أوشكت الخرطوم أن تتفوق من حيث عدد المؤتمرات والإجتماعات التي عقدت فيها على ما عقد في(فيينا وجنيف)!!!. وصحيح أيضاً أن الحكومة قطعت شوطاً بالإتفاق على ما سمي بالقيام بـ(جهد مشترك) تقوم به حكومة السودان وحكومة دولة جنوب السودان، لإقناع الدائنين بإعفاء السودان من ديونه على ضوء مبادرة (الهيبيك) الخاصة باعفاء البلدان المثقلة بالديون. بيد أن المواقيت بالنسبة لما تم الإتفاق عليه مع حكومة دولة جنوب السودان بشأن الجهد المشترك يبدو أن الزمن قد تجاوزها. والبادي أن مسألة تجديدها حتى سبتمبر 2014 القادم على ضوء ما جرى ويجري في دولة جنوب السودان الآن لا يسعف السودان في مواجهة المشكلة القائمة مع العالم الخارجي. فدولة جنوب السودان الطرف الثاني في الإتفاق تعاني ما تعاني الآن من الحروب والإنفلاتات الامنية إن لم يكن التشتت والتبعثر وانهيار حكم القانون بالإضافة إلى انتهاكات بالغة الخطورة بالنسبة لحقوق الإنسان فقد أصبحت هي الأخرى، مثل السودان في هذا الشأن تماماً، متهمة بأسوأ الجرائم الدولية بما فيها الإبادة الجماعية من منظور المجتمع الدولي بصرف النظر عن دقة أم عدم دقة الإتهام. ودولة هذا حالها ليس من المتصور منطقاً أن تقوم بـ(جهد مشترك) مع السودان، لاقناع المجتمع الدولي لاعفاء الديون كما هو مرسوم في الإتفاق بين الدولتين. وبالتالي فإن ما استوجبت اتفاقية 1983 القيام به في المقام الأول قد أصبح في عداد المنهار ولا نحسب أن الركون عليه سائغاً.
وإذا تركنا مسألة وضع دولة جنوب السودان جانباً فإن السؤال الأول الذي يفرض نفسه بالتحديد يتجه نحو الجهه أو الطرف الذي كان من المتوقع أن يخاطبه (الجهد المشترك) للسودان ودولة جنوب السودان ونقصد بذلك العالم الخارجي أوالدائنين إذا تحرينا الدقة. وبالتالي فإن السؤال الثاني الذي يفرض نفسه بقوة هو بالتحديد: هل العالم الخارجي الآن في وضعٍ يمكنه من مجرد التعاطف ناهيكم عن الموافقة على اعفاء الديون المتراكمة على السودان؟ إن الإجابة على هذا التساؤل بناء على كل الظروف والملابسات الماثلة أحسب أن الناظر إليه يجد صعوبةً بالغة في الإجابة عليه بغير النفي. فالعالم الخارجي قد حدد موقفه من الأنظمة الشمولية منذ عدة سنوات. وأصبحت الديمقراطية عقيدة راسخة عند كل الدول والمؤسسات الدائنة للسودان. ويتبع ذلك ضرورة توافر الإستقرار السياسي والتبادل السلمي للسلطة واحترام ومراعاة حقوق الإنسان. وغني عن التذكير أن الاخيرة ونقصد بذلك حقوق الإنسان أصبحت بمثابة (علامة مميزة) Earmark للسودان في كل المحافل الدولية وبصفة خاصة لدى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. وهاهو بروفيسور (مسعودي) الخبير الدولي المكلف من قبل مجلس حقوق الإنسان لمتابعة ومراقبة الاوضاع الإنسانية في السودان قد أوشك هو الآخر أن يكون مثل (أمبيكي) جيئةً وذهاباً للسودان. ومن المؤسف حقاً أن السودان بسبب اصراره على سياسته الخارجية التي يستعصي فهمها بالنسبة لنا فقد الكثيرين ليس من الأصدقاء فحسب بل فقد كما يتبدى جلياً، عدداً مقدراً وهاماً جداً من الأشقاء بالنسبة له.
إن ما يسعى هذا المقال لطرحه أنه بالنظر للموقف على ضوء الأوضاع الماثلة الآن في السودان يبدو أن الصورة لا تبعث على التفاؤل لأي تجاوب من الدائنين. وقد شهد شاهد منهم وهو والي شمال دارفور خلال الأيام الثلاثة الماضية عبر تلفزيوني الشروق والسودان بأن الأوضاع سيئة في مناطق متعددة من الولاية وأن آلاف الأسر يعانون من الجوع والمرض وعدم الأمن والأمان. وطالب بتدخل مباشر من السلطة الإتحادية مما يعني ضمناً أن الأوضاع الأمنية لم تعد في مقدور امكانات الولاية. وأكثر من هذا لقد عاتب والي شمال دارفور العالم الخارجي بسبب ما أسماه (صمته) بشأن ما يجري في دارفور. ووفقاً لناظر عموم قبائل شرق دارفور أن الحالة متردية جداً وأن القوات المتمردة تسيطر على مساحات شاسعة. وما ذهب إليه المسؤولان صحيح مائة في المائة ولعل أبلغ (بينة قاطعة) Conclusive Evidence كما نقول في قانون الإثبات سفر وزير الدفاع ومدير الأمن الوطني للوقوف على الأوضاع الأمنية في اقليم دارفور. ومن ناحية أخرى هاهي الاوضاع في (أبيي) تنذر بمخاطر وترديات شتى لها ما بعدها بالتأكيد، والمحادثات بين الحكومة وقطاع الشمال انهارت تماماً وأصبحت في خبر كان مما يعني المزيد من التدهور الأمني والمزيد من الصرف المالي والمزيد من انتهاكات حقوق الإنسان في جنوب كردفان والنيل الأزرق. وهكذا فإن الصورة في مجملها تعبر عن نفسها ولا تحتاج لإضافة.
teetman3@hotmail.com
/////