عرض لكتاب الدكتور عبد الله جلاب: .. ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
عرض لكتاب الدكتور عبد الله جلاب:
مجتمع مدني مؤجل: قبضة العنف الثلاثية في السودان
A Civil Society Deferred: the Tertiary Grip of Violence in the Sudan
بقلم: جاياناتكومار بحيرا Jayanat Kumar Behera
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
هذه ترجمة للعرض الذي نشره الأكاديمي الهندي جاياناتكومار بحيرا من جامعة انديرا غاندي القبلية الوطنية عن كتاب الدكتور عبد الله جلاب " مجتمع مدني مؤجل: قبضة العنف الثلاثية في السودان" في العدد التاسع والعشرين من مجلة "International Sociology"والصادر في عام 2014م.
ويعمل الدكتور جاياناتكومار بحيرا بحسب سيرته المبذولة في موقع جامعته أستاذا مساعدا في علم الاجتماع، وتخصصه الدقيق يدور حول التنمية الاجتماعية في أوساط القبائل المختلفة في الهند، وعلم الاجتماع الصناعي والسياسي. أما المؤلف فهو أستاذ مشارك في جامعة أيرزونا بالولايات المتحدة، في قسم الدراسات الأفريقية والإسلامية. وكنت قد ترجمت فيما مضى عرضا لهذا الكتاب سطره البروفسيور الأمريكي جون فول يمكن الرجوع له في هذا الرابط
http://www.sudanile.com/index.php/2008-05-19-17-39-36/135-2009-02-08-09-42-42/41685--------q-------
q
أشكر دكتور عبد الله جلاب على مراجعته لهذا النص.المترجم
*********************** ********* *************
غاص عبد الله جلاب في كتابه المميز عميقا في لجة التطور السياسي بالسودان، ودور الاستعمار فيه، وشمل ذلك العلاقة بين الحاكم والمحكومين. وسعى المؤلف أيضا لتحليل ظاهرة التجربة السودانية تلك من داخلها. وتبدو مهارة وشجاعة المؤلف جلية بينة في تحليله المتوازن والمنطقي للأساس الذي تقوم عليه أيديولوجية النظام في السودان. ويسرد الكاتب في وضوح النواتج الاجتماعية والسياسية والثقافية في دولة ما قبل الاستقلال، وفي غضون سنواته، وكذلك في دولة ما بعد الاستقلال، وكيف أن تلك النواتج كان لها كبير الأثر في القواعد والقوانين المكتوبة وغير المكتوبة للتجمعات الاجتماعية والسياسية المختلفة التي برزت في البلاد. ويحلل المؤلف في كتابه هذا التطورات السياسية- الاجتماعية ومؤسساتها التي أفرزت أنماطا متباينة من العنف في البلاد.
قسم المؤلف كتابه إلى ثمانية فصول ناقشت عهود الحكم منذ الممالك القديمة حتى يومنا هذا.
تناول المؤلف في فصله الأول تاريخ قيام الدولة السودانية، وفسر ما هو المقصود بكلمة "السودان"، وخلص إلى أن عملية قيام تلك الدولة كانت نتيجة لعهود طويلة من الحرب والسلام والتجارة وأنماط من الهجرات والاستيطان والتزاوج. وكانت هنالك أيضا عملية غير متوازنة وبطيئة للأسلمة والتعريب ساهمت في جعل السودانيين يقيمون دولتهم. ولم تفلح عدة عوامل مهمة في الداخل والخارج في إثناء السودانيين عن عزمهم وإصرارهم في بعث الحياة والنشاط في أنفسهم وإقامة دولتهم.
بحث هذا الفصل الأول في تلك العوامل والعمليات الجدلية (dialectical processes) التي ساهمت في بناء أمة وقومية ودولة (سودانية ) ووطن بكل ما حمل كل ذلك من روايات متعاقبة وجدالات(discourses) وتضاريس متحولة (shifting terrains).
أما في الفصل الثاني فيبحث المؤلف في أمر العنفوالصراعات الدموية والتي صاحب الأيام الأولى للدولة الاستعمارية وما بعدها، ويزعم أن لتلك الصراعات والعنف وثيق الصلات بتأسيس أنماط من الأنظمة والممارسات الشمولية وشبه الشمولية. وأفرز هذا الواقع وصراعاته مع الهويات السودانية ومع مجموعات القوى المختلفة التي بدأت في البزوغ تضاربا للمصالح كان واضحا حينا وخفيا في أحيان أخرى. وفرض ذلك التضارب على كل مجموعة شروطا لنمط وجودها، وخلخل ما استقرت عليه الحياة المدنية في السودان.
ويدور الفصل الثالث حول أنماط المقاومة المختلفة التي واجهت النظام الاستعماري. وكانت هنالك قوتان متضادتان تجاهدان كي تعيدان تشكيل المجتمع السوداني، وسكانه، وحياتهم المادية. وأمام قوة النظام المستعمر ومواجهته (العنيفة) لكل شكل من أشكال المقاومة، لم يجد المقامون بدا من ابتداع طرائق وانماطا مختلفة من النضال أتت بنتائج متباينة. وقد ساهمت أنماط المقاومة المختلفة (السياسية منها والاجتماعية) والتي كانت تعمل من أجل التكامل والاندماج الاجتماعي وإبقاء جذوة النضال متقدة مساهمة كبيرة في تقوية بناء الهوية الذاتية (للأمة)، وساهمت أيضا في إحياء متعسر لها، وفي إخماد المجتمع المدني في وجه الحكم الاستبدادي للدولة في عهود الاستعمار وما تلاه من عهود. أدت هذه العمليات لتنامي "سرطان" مستفحل استشرى في جسد الدولة الاستعمارية، وظل موجودا بجسد الدولة هاديا ومرشدا للقوى "التأديبية" والقهرية حتى بعد رحيل الاستعمار عن البلاد.
يركز الفصل الرابع على نمو وتطور عملية إنشاء الدولة الاستعمارية وعاصمتها الخرطوم، واشتمل الفصل أيضا على وصف وتحليل لأنماط الاستعمار "المتدرجة"وعلى طرق سيطرتها على الأوضاع. وكانت الخرطوم هي العاصمة الاستعمارية وقلعتها ومركز عملياتها التي تدير شؤون البلاد بحكم مباشر وغير مباشر. ونمت في غضون سنوات ذلك الحكم عدة مجتمعات سودانية تعمل مع بعضها البعض، وتعمل كذلك مع المجموعات الاجتماعية الجديدة التي بدأت في البزوغ ، ومضت كلها تعمل مع أو ضد الدولة. ومضى المجتمع التأسيسي (constituent community) في بناء مؤسساته داعما لنظام الدولة المهيمن. وبهذا فقد عمل الجميع كـ "أعداء حميمين" لبناء (وكذلك تقويض) وجود الدولة نفسها.
يحاول المؤلف في الفصل الخامس أن يفسر كيف أن النضال (ضد الاستعمار) قد تشابكت خيوطه مع أشكال الوعي المختلفة في المجتمع السوداني الذي كان قد بدأ متزامنا مع بروزمجتمع سوداني جديد في الظهور. ويتناول المؤلف هنا أيضا قيام وسقوط وبعث مدينة أمدرمان، الأمر الذي وضع "القومية السودانية" على الخريطتين الاجتماعية والسياسية.
أما في الفصل السادس من الكتاب فقد تناول المؤلف كيف أن الأشكال المتدرجة من التسويات والتهميش قد تسببت في خلق "مركز" و"مناطق مهمشة" بالبلاد. ويقرر المؤلف أن غزو محمد علي باشا للسودان لم يكن محض حدث في تاريخ البلاد، بل كان نقطة فارقة في تاريخه. وختم المؤلف هذا الفصل السادس بعرض لآرائه عن الأدوار المعقدة والمتغيرة والمقيدة والمتعددة الطبقات التي لعبتها مصر في ظهور السودان الحديث.
يبحث الفصل السابع في نشوء وتطور ايدلوجية المركز، ومؤيدو الهيمنة ومعارضيها. ويمكن لايدلوجية هذا المركز أن تفرض ما تراه من شروط وقواعد لضمان بقاء أنماط الحياة التي يريدها والحفاظ عليها. وبذا خلقت وشكلت الدولة لها "مركزا" و"مناطق مهمشة".
قام المؤلف في الفصل الثامن ببحث معنى وتطور الأفكار حول "الهامش" و"التهميش" بغرض توضيح أن النتائج التي تمخضت عن عمليات رسمية وغير رسمية، أو تغيرات اقتصادية – سياسية بنيوية تحكمت في سلوك وتصرف السودانيين إنما جاءت نتيجة لتجارب استعمارية استقطابية تراوحت بين الانفتاح والانغلاق. وكانت العلاقة الديناميكية بين سياسة الانفتاح والانغلاق عند الحكم الاستعماري نتاجا لتقسيمات إقليميةأسمتها الدولة الاستعمارية الجنوب والشرق والغرب، بالإضافة لأشكال غير مرئية من التهميش. وكانت في قلب هذا المسميات والجدالات أشكالا متباينة للممارسات يجب فحصها وتحليلها بغرض معرفة كيف أن الاستعمار صنف وقسم ومارس وخلق لغة للهيمنة، ومارس سلطة القوة إلى أن استنفدت تماما في نهاية المطاف.
وبحسب رأي جلاب فإن عملية خلق الدولة لـ "مناطق مهمشة" كانت عملية معقدة تطلبت ابتداع آليات سهرت الدولة على خلقها وتغذيتها ورعايتها.
يختم المؤلف كتابه بخطة عمل للمجتمع السوداني. فمن منظورنمو وتطور الدولة الاستعمارية وتكوينها متعدد الأبعاد تطورت هذه الانشاءات (constructions?)بصور مختلفة ومستقلة وذلك في إطار نظام مستقل واحد يحكم من المركز الذي انشأه، وهو مركز يدير كل عمليات الدولة المختلفة. وحدثت 5 تطورات رئيسة في هذا البناء في غضون سنوات الاستعمار، واستمرت تلك التطورات في العمل كنواقل للعنف في سنوات ما بعد عهد الاستعمار (لم يفصح الكاتب المستعرض للكتاب عن هذه التطورات في مقاله! المترجم)
يحتوي هذا الكتاب على عدد من الرؤى النظرية العقلانية والتي تذهب بعيدا في تفسير تكوين طبقات المجتمع السوداني، وعن الدولة، وعن بناء الأمة. ويمكن أن نجد تطبيقات لتلك الرؤى في سياقات اجتماعية و اقتصادية وسياسية عديدة. فآراء جلاب قد تشحذ الافتراضات الرئيسة للجدال التحليلي في أمر القوة الاستعمارية، وهذا أمر غاية في الفائدة عند تناول الموضوع في سياق الأوضاع في السودان، فهو يضيئ ببراعة وإتقان المسار التاريخي لفهم العنف في إطار وسياق أوسع.
أزكي هذا الكتاب لكل من يهتم بأمر السودانيين، فهو دعوة لكل المفكرين والباحثين الأكاديميين لاستكشاف جوانب أخرى من هذا الموضوع في المناطق المهمة سياسيا. وأرشح الكتاب على وجه خاص للقراء والباحثين المهتمين بطرق البحث التاريخية الكمية (quantitative historical methods)، فهو كتاب مدروس بعناية وغني بالتفسيرات النظرية، ومكتوب بلغة واضحة سلسلة، ولا ريب عندي في أن القضايا التي أثارها هذا الكتاب ستزيد أفكارنا عن السودان وأهله ثراءً.
alibadreldin@hotmail.com