الكتابات السياسية ومقاومة الاستعمار في السودان .. ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
alibadreldin@hotmail.com
برقيات وطنية : الكتابات السياسية ومقاومة الاستعمار في السودان بين عامي 1920 – 1924م (3)
Nationalism by Telegrams: Political Writings& Anti-colonial Resistance in Sudan , 1920 – 1924
الينيا فيزا ديني Elena Vezzadini
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذا هو الجزء الثالث والأخير من ترجمة وتلخيص لبحث تاريخي طويل (33 صفحة) عن حركة 1924م للدكتورة الينا فيزايدني نشر في عام 2013م في العدد الرابع والستين للمجلة الدولية للدراسات الأفريقية التاريخية والتي تصدر من جامعة بوسطن بالولايات المتحدة. وكانت حركة 1924م هي موضوع دراسة المؤلفة لنيل درجة الدكتوراه من جامعة بيرجن بالنرويج، وأستلت المؤلفة عددا من الأوراق البحثية من رسالتها للدكتوراه، منها هذه الورقة التي نعرض لبعض أجزائها هنا، خاصة وقد يتذكر البعض منا هذا العام (2014م) مرور تسعين عاما على قيام هذه الحركة الوطنية. المترجم
**** *********** ********** ************
قامت الحكومة الاستعمارية بحملة اعتقالات واسعة في صفوف قادة حركة 1924م في شهر يوليو كانت من أهم نتائجها توقف موجة البرقيات والبيانات التي صدرت من الجمعية في الشهور الأولى من ذلك العام. إلا أنه في النصف الأول من أغسطس أفلحت الحركة في القيام بمظاهرات واحتجاجات علنية تحدت سلطة البريطانيين في مناطق عديدة شملت أتبرا، والتي أعلن فيها مئات العمال في "كتيبة السكة حديد" الإضراب عن العمل في يوم التاسع من أغسطس، وتسبب حدوث إطلاق ناري عرضي في مقتل عشرات من عمال السكة حديد. وقامت في بورتسودان في الفترة من 27 يوليو إلى 13 أغسطس سلسلة من الإضرابات والمظاهرات، ولم تهدأ الأحوال بالمدينة إلا بعد أن اضطرت السلطات لجلب سفينة حربية. وفي الخرطوم وفي ذات اليوم الذي بدأ فيه عمال أتبرا في إضرابهم قام كل طلاب الكلية الحربية بالتظاهر في مسيرة احتجاجية تم بسببها وضعهم جميعا رهن الاعتقال. وأثارت تلك المسيرة والاعتقالات الجماهير فقاموا بأكبر مظاهرة شهدها عام 1924م وكان ذلك في يوم الخامس عشر من أغسطس، وقدرت مخابرات الحكومة أعداد من شاركوا في تلك المظاهرة بين ألفين وثلاثة آلاف متظاهر. وأخيرا، حدث تمرد عسكري للضباط في ملكال في الثاني والعشرين من سبتمبر واستدعى الأمر تدخل الجيش لقمع ذلك التمرد.
وكنتيجة لتك الأحداث قرر البريطانيون تشديد المراقبة على الحدود مع مصر وعلى البريد المرسل والقادم للبلدين. وكان توقيع المرء على برقية (من النوع الذي كان يرسله رجال حركة اللواء الأبيض) كافيا للإلقاء القبض عليه. وبذا توقفت عملية إرسال البرقيات وأكتفت الجمعية بتحرير وتوزيع المنشورات والبيانات والرسائل باليد.
وشملت النصوص التي أرسلت بين 17 أغسطس و28 نوفمبر أحد عشر منشورا وتسع رسائل وثلاثة مقالات. وكانت الرسائل تعنون دوما لأشخاص بأعينهم، بينما كانت المنشورات تعرض وتقدم للناس في المساجد والأسواق دون تمييز أو تخصيص. وخلافا للبرقيات، كانت تلك المنشورات معدة لترى و"تستهلك" داخل السودان. أقول "تري" لأن كثيرا من الناس كانوا من الأميين، ولكن مجرد وجود هذه المنشورات (أو "المواد المثيرة للفتنة" كما كان البريطانيون يسمونها) كان يذكر الجميع بوجود عناصر وطنية بالبلاد. وكانت غالب هذه النصوص تعنون لأفراد أو مجموعات سودانية. ففي منشور واحد نجد عبارة: "دعوة لعموم أفراد الشعب السوداني، وإلى أهالي كردفان والشيوخ والسيد عبد الرحمن المهدي".
تختلف برقيات جمعية اللواء الأبيض عن المنشورات من حيث المصدر، فقد كانت معظم البرقيات صادرة عن مدينة بورتسودان (وكان عددها 14)، بينما صدرت 12 برقية من مدينة الخرطوم، وصدرت من مدينة أتبرا القليل من البرقيات. وكذلك أرسلت بعض البرقيات من مدن صغيرة كالحصاحيصا وشندي وواد مدني وأبي حمد وبركات ومروي ووادي حلفا. واستأثرت العاصمة المثلثة بالمنشورات والرسائل، إلا من قليل منها صدرت من مدن الأبيض ووادي مدني وبارا وأتبرا وبورتسودان والنهود.
وبما أنه لم يكن ممكنا إرسال المنشورات بالبريد، فقد صارت هذه المنشورات توزع دون تعرضها للرقابة التي فرضتها الحكومة على البريد، أو لعدم القبول الذي جابهته جمعية اللواء الأبيض من مسئولي البريد في مدن كالأبيض وواد مدني.
وهنالك اختلاف مهم وأخير بين البرقيات والمنشورات يتمثل في الموقعين على هذين الصنفين. فلقد كانت غالب الرسائل والمنشورات في المرحلتين الأولى والثانية من حركة 1924م غفل من التوقيع. وبينما كان 42 من الـ 53 تلغرافا التي بعثت بها جمعية اللواء الأبيض موقعة بأسماء من بعثوا بها، كانت 26 من 29 رسالة ومنشورا إما غفل من التوقيع أو موقعة باسم جمعيات مختلفة مثل "جمعية وحدة السودان" والتي كانت جمعية موازية لجمعية اللواء الأبيض تعدها مخابرات الحكومة، وعلى وجه العموم، تجمعا للضباط السودانيين في الجيش المصري. وهنا يجب تذكر أن النشاط السياسي كان محرما على رجال الجيش، ولذا كانوا يمارسون ذلك النشاط في سرية وتحفظ شديدين. وكانت من بين الأسماء الموقعة على تلك المنشورات جمعيات مختلفة منها "جمعية تقدم السودان" و"جمعية الدفاع الوطني" و"جمعية الهلال"، ولكن يصعب على المؤرخ ربط هذه الجمعيات بمنظمات أو نشطاء بأعينهم.
ولكن كيف لنا أن نفسر الانتقال من البرقيات إلى المنشورات، أي من العلنية إلى السرية؟ يبدو واضحا أن الرقابة التي فرضتها الحكومة وحملة الاعتقالات التي شنتها على قادة ونشطاء الجمعية قد أجبرت بقية أعضائها على التزام جانب السرية والحذر، وجعلتهم يوقفون إرسال البرقيات ويعتمدون على المنشورات والرسائل المكتوبة بخط اليد. وبذا بدا أن شرايين الدعاية السياسية قد سدت، على الأقل في السودان.
وصاحب تجفيف تلك القناة من قنوات النضال والاتصال في السودان فتح قنوات جديدة ... هذه المرة في مصر وبواسطة المصريين. وظل السؤال حول مدى وجود تنسيق مصري في الأحداث التي جرت في السودان واحدا من الأمور الغامضة حول حركة 1924م، والتي لم تجد بعد تفسيرا شافيا. ويبدو – وفي الظاهر على الأقل - أنه كانت هنالك ردة فعل مصرية تلقائية للأحداث التراجيدية التي وقعت في أتبرا وبورتسودان والخرطوم. وتلقت بالفعل العديد من المؤسسات المصرية سيلا من البرقيات من داخل مصر، ومحفوظة الآن في الأرشيف المصري القومي على الأقل سبعة وثلاثين برقية، أرسلت بين الثاني عشر من أغسطس والثالث من سبتمبر 1924م، كان الموقعون عليها من أعيان الريف ونقابات العمال في الإسكندرية والسويس وعمال السكر في كوم امبو. وكانت هنالك أيضا برقية وقع عليها محمد حنفي الطرزي باشا وعلماء وأعيان وتجار ومزارعين وطلاب والعاملين في منفلوط (قرب أسيوط). جاء في أحد البرقيات بتاريخ 24 يونيو 1924م ما يلي:
"نحتج بشدة ضد قتل إخواننا المصريين والسودانيين في أتبرا والخرطوم، وضد العدوان على الحرية، وعلى مصر ممثلة في جنودها. إننا ندعوكم لاتخاذ الخطوات الصحيحة حتى نحمي هذه الأرواح البريئة والحقوق الوطنية المقدسة".
ولا ريب أن ردة فعل المهنيين وأفراد الطبقة العاملة المصرية كانت أقوى منها عند ساستهم، والذين كان أعضاء جمعية اللواء الأبيض في الأساس يستهدفونهم بتلك البرقيات.
ويوضح التحول من البرقيات إلى المنشورات تغيرا في استراتيجية الحركة الوطنية. فقد كتب عليها بعد تلك الحملة التي شنت على قيادتها وأفرادها أن تحافظ على وجودها وفي ذات الوقت أن تعمل على تعبئة واستنفار جماهير الشعب السوداني.
وبعد فشل مفاوضات المصريين (بقيادة سعد زغلول) والبريطانيين (بقيادة ماكدونالد) في اكتوبر 1924م وضح أن الصراع على السلطة بين مصر وبريطانيا سيستمر ولن يتوقف في غد قريب.
إن التفكر في الكيفية التي وقعت بها تلك البرقيات، وأسماء من وقعوا عليها يوفر لنا معلومات هامة، ليس فقط عن الخلفية الاجتماعية لبعض من لعبوا أدوارا مهمة في تلك الحركة، بل عن تنظيم الحركة الداخلي وتراتيبها وتقسيماتها الاجتماعية والعلاقات بين المجموعات التي أيدتها.
اختارت الحركة بعناية من يوقع على برقياتها، ولم تدع الأمر للصدف، مما يؤكد أنها كانت حركة بالغة التنظيم. وأصرت الحركة على أن يوقع من يريد من اعضائها التوقيع باسمه كاملا وذلك تماشيا مع مبدأ الشفافية والعمل العلني الذي ارتضته كاستراتيجية ثابتة. وكان توقيع المرء على مثل تلك البرقيات يعرضه للاعتقال الفوري، وتحسبا لذلك كانت الجمعية تعين قبل إرسال البرقية الشخص الذي سيخلف مرسل البرقية.
وفي بعض الحالات نجد أن البرقيات كان يوقع عليها عضو واحد من أعضاء الجمعية مثل علي عبد اللطيف ثم عبيد حاج الأمين وصالح عبد القادر وحسن شريف وعمر باخريبة في مدني (في 24 حالة)، أو يوقع عليها 3 - 5 من الأعضاء (في 11 حالة)، وفي حالات أقل وقع على البرقيات ما بين 16 – 85 عضوا. وأحيانا كانت ترسل البرقيات تحت توقيع جماعي مثل "عمال بورتسودان". وكما ذكرنا فقد كانت أسماء من وقعوا على البرقيات تشف بجلاء عن التنوع الاجتماعي عند قادة الحركة، فقد كان الضابط (السابق) علي عبد اللطيف من أصول جنوبية ونوباوية، بينما كان عبيد حاج الأمين ابن شقيق مفتي البلاد (والذي يعد أكبر سلطة دينية رسمية في شمال السودان).
وتنوعت أصول ومهن من وقعوا على تلك البرقيات فكانوا على وجه العموم من شمالي الطبقة الوسطى، ومن المولدين (الذين كان آبائهم أو أمهاتهم من المصريين)، وكان هنالك فرد واحد فقط من أصول جنوبية ونوباوية هو علي عبد اللطيف. وشمل طيف الموقعين كثير من المهنيين والموظفين في القطاع العام والخاص (كموظفي شركة جرتلي هانكي في بورتسودان) والضباط السابقين ورجال الدين والعمال المهرة وغير المهرة (مثل النجارين والطباخين والخدم) والتجار (من المتجولين وأصحاب المحلات الكبيرة أيضا).
وكان محتوى برقيات جمعية اللواء البيض لا تختلف في مضمونها عن تلك التي يجدها المؤرخ السياسي في آسيا وأروبا وأمريكا اللاتينية من حيث الأيديولوجية الوطنية، إلا أنها تميزت باستخدام تعابير مجازية وصورا بلاغية متعددة، وشددت على أن السودان وطن واحد دون أن توضح ما الذي يجعله وطنا واحدا، ولم تربط أبدا الوطنية والزعم بوجود قواسم مشتركة في الدين واللغة والثقافة والتاريخ أو الأصل العرقي. فلم يرد في أي من تلك البرقيات أي إشارة لأصل عربي (أو غيره) للسودانيين، ولم ترد كلمة "العرب" غير مرتين في جميع البرقيات التي أرسلت. ولم يرد في تلك البرقيات "أصل" السودانيين التاريخي، إذ أن الجمعية كانت ترى أن أصلهم هو في حاضرهم وليس في ماضيهم، وأن الأمة والوطن يجب أن تبنى في الحاضر من خلال مقاومة الاستعمار (والذي كانت تصفه بتعابير شبه اسطورية/ ميثولوجيةsemi - mythological ).
وكما يتضح من مضمون برقيات حركة اللواء الأبيض كانت دعوة الحركة ترى أن بناء الأمة السودانية يمر عبر محطات ومراحل ثلاث هي:
1. مرحلة الاستعمار البريطاني الذي قيد حرية السودانيين وأضهدهم
2. المرحلة التي كان لزاما على السودانيين النضال ضد البريطانيين للفكاك من قيود استعمارهم
3. مرحلة جني ثمار النضال، إذ أن المعركة مع المستعمر البريطاني ستنجلي عن تحرير البلاد ومولد الأمة السودانية.
وكمثال للبرقيات التي أرسلت لمصر سجلت هذه البرقية التي بعثت في يوم 26 يونيو 1924م: " أعتقل الضابط زين العابدين بينما كان يقوم بتصوير مظاهرة. إننا نحتج ضد هذا الاعتقال وضد حبس أربعة من الموظفين، وضد ضرب الذين كانوا يهتفون بحياة ملك مصر والسودان...". ولعل هذا يؤكد أن الجمعية كانت تنادي بالوحدة التامة بين مصر والسودان، وإن بدا ذلك في ثوب يلفه الغموض الشديد.
كانت غالب البرقيات تتحدث عن الاستعمار البريطاني كحكم استبدادي طاغي يستخدم وسائل غير قانونية ضد من يكافحونه، وفي المقابل، فإن ابناء الوطن من أفراد الجمعية يستخدمون دوما الوسائل السلمية المنظمة والمسموح بها قانونا للتعبير عن آرائهم، وأنهم إنما ينشدون العدالة والإصلاح، وأنهم يمثلون جمعية وطنية شفافة تعمل في العلن، بينما يستخدم الاستعمار البريطاني وسائل غير معلنة ومحاكم سرية لمعاقبتهم.