أهمية الرق في شمال السودان في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. ترجمة وتلخيص: بدر الدين الهاشمي

 


 

 

Luxury, Status, and the Importance of Slavery in the Nineteenth – and Early –Twentieth –Century Northern Sudan

Heather J. Sharkey هيزير شاركي

ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

تقديم: هذه ترجمة وتلخيص لبعض ما جاء في مقال للدكتورة هيزر شاركي عن "أهمية  الرق وارتباطه بالرفاهية والمنزلة والمكانة الاجتماعية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين"، والذي نشر عام 1994م في العدد الأول من مجلة Northeast African Studies  والتي تصدر عن دار نشر جامعة ولاية ميتشغان. والدكتورة هيزر شاركي متخصصة في تاريخ ولغات وحضارات الشرق الأدنى، ولها عدة كتب ومقالات عن منطقة الشرق الأدنى منها كتاب "الإنجيليون الأمريكيون في مصر"، و"الهوية والمجتمع في الشرق الأوسط المعاصر" و"العيش مع الاستعمار: الوطنية والثقافة في السودان الإنجليزي المصري" ومقالات مثل "مسيحيون في أوساط المسلمين" و"تاريخ إنشاء ميناء بورتسودان" و"عبيد السودان السابقين". وقد سبق لنا ترجمة وعرض بعض تلك الأعمال.

المترجم

*************         *******

أبطل الحكم الاستعماري البريطاني – المصري الرق رسميا  في السودان عام 1899م، إلا أنه سرعان ما تبين لذلك الحكم الثنائي أن ذلك الإلغاء قد أحدث هجرة كثيفة ونزوحا كبيرا للمسترقين الذين كانوا يعملون في مزارع ملاكهم السابقين، وأدى ذلك بالطبع إلى انخفاض خطير في الانتاج الزراعي. ويزعمبعض الباحثين  أن  الرق كان يمثل حجر الزاوية للاقتصاد في السودان والذي كان  يعتمد بصورة كاملة وعلى مدى ثلاثة آلاف عام على عمل المسترقين، وأن الطلب على الرقيق كان دافعه الرئيس هو عملهم المنتج. وهذا الزعم  في رأيي معيب وإن كان لا يخلو من بعض الصحة.

لا شك أن السودان كان مصدرا مهما لتصدير الرقيق منذ آلاف السنين. فقد ورد في التاريخ المصري القديم أنه في القرن الرابع قبل الميلاد  غزا فرعون مصر سينفرو (Seneferu) أرض النوبة حتى الشلال الرابع للحصول على الرقيق بين منطقتي أبي حمد والخرطوم.  وورد في الوثائق البطلمية أن ريش النعام والعاج وخصيان الرقيق الذين كانوا يؤتى بهم  من السودان كانت من البضائع التي تفرض عليها الضرائب في ميناء الإسكندرية. وظل السودان مصدرا للرقيق والسلع غير المألوفة (exotic) الأخرى للفراعنة المتعاقبين والإغريق والروم والبيزنطيين وحكام المسلمين الأوائل، والمماليك والعثمانيين والأتراك  وغيرهم. وبهذا يمكن القول بأن  جمهورية السودان بحدودها الحالية تمثل ميراث / إرث (legacy) ذلك الهجوم الكاسح الذي قاده هؤلاء الغزاة  جنوبا للحصول على الرقيق والسلع الكمالية الفاخرة (luxury goods).

ولكن  لا يجب أن نتوهم أن حقيقة أن الرقيق كانوا يعدون بالنسبة للأسواق الخارجية "سلعة فاخرة" مثلها مثل العاج وريش النعام تثبت بالضرورة  وجود سوق محلية رائجة لتلك "السلعة". ونسبة لطول الزمن فإنه يصعب معرفة وتحديد أوضاع الرقيق بالسودان، وصياغة نظريات حول تأثيرهم  الاجتماعي والاقتصادي الكلي في تلك الأزمان السحيقة. ولم تتوفر مصادر موثوقة لدراسة الرق في السودان إلا بعد تأسيس سلطنتي الفونج (في سنار) وكيرا (في دارفور) في بداية القرن السادس عشر  والسابع عشر، على التوالي. وظل امتلاك الرقيق من أهم امتيازات وحقوق طبقة الصفوة في المجتمع في غضون القرون القليلة التي سبقت الغزو المصري- التركي في عام 1820م. وكان مالكو الرقيق من السلاطين وزعماء القبائل والنبلاء الاقطاعيين في سلطنتي الفونج وكيرا يشيدون قرى بكاملها لعبيدهم الذين يسخرونهم للعمل في مزارعهم  مما جعل ذلك  الرقيق عنصرا بارزا ومهما في حياة البلاط، وفي ترتيب الهرم الإداري، وحدد من له الحق الحصري  في منح  امتياز امتلاك الرقيق للآخرين. وكما أشار أوفاهي فقد  كان امتلاك الرقيق (خاصة في سلطنة كيرا) رمزا  للسلطة والثروة، وللقداسة أيضا.

ومع بدايات القرن التاسع عشر  وبسبب "فراغ السلطة" الذي حدث نتيجة للاضمحلال البطيء والمنتظم لسلطنة الفونج بدأ التجار الميسورين في المناطق النيلية في تملك الرقيق. وبعد الغزو التركي – المصري حدثت "ثورة" في تجارة الرقيق. ولا غرو،  فقد كانت أحد أهم أهداف ذلك الحكم هو الحصول على الرقيق بأرخص الأثمان (خاصة من مناطق الجنوب غير المسلم) لتجنيدهم في جيشه. وبيع كذلك كثير من هؤلاء المسترقين من الرجال والأطفال والنساء في أسواق الرقيق في شمال السودان. ومع تكاثر أعداد هؤلاء الأرقاء ووردهم للأسواق انخفضت اسعارهم وصار لغالب الشماليين "الأحرار" ثروة من المسترقين، حتى أن الرحالة آرثر هولرويد، والذي كتب مذكرات عن رحلته في كردفان  سجل أن الرجل  من عوام فقراء سنار كان في عام 1839م  يمتلك عبدا أو عبدين. وقدر عالم الجيولوجيا الألماني ادوارد روبل في عام 1821م  عدد المسترقين  بين وادي حلفا وشلال النيل الرابع بـ 4500  (وكان هذا يمثل 4% من جملة السكان آنذاك). ومع نهاية القرن التاسع عشر غدت أعداد المسترقين تمثل على الأقل ثلث السكان في كل المنطقة، وكان يعمل جلهم بالزراعة.

كان فشو تملك المسترقين بتلك الصورة تطورا جديدا في السودان. فقد غدا ملاك الرقيق من مختلف طبقات المجتمع الاجتماعية والاقتصادية في شمال السودان يسخرون مسترقيهم في أعمال أخرى غير الزراعة منها الخدمة المنزلية وطحن الذرة والطبخ وأعمال الحدادة وحفر الآبار ونسج الأقمشة وغير ذلك. ووقع عبء غالب الأعمال الشاقة على المسترقات من النساء، إذ كن يجلبن الماء من مسافات بعيدة ويبنين المنازل وغير ذلك.

ورغم الزيادة الكبيرة في تملك الرقيق في غضون سنوات القرن التاسع عشر، وما صاحب ذلك من تنوع في الأعمال التي كانوا يقومون بها، إلا أن القيمة الحقيقية  في تملك  الرقيق (تماما مثل ما كان في سلطنة الفونج وكيرا)  ظلت هي في رفع القيمة والمنزلة الاجتماعية للمالك واثبات أنه صاحب سلطة ونفوذ وشوكة. وكانت إحدى تجليات منزلة مالك الرقيق هو طول وقت الفراغ لديه وعزوفه التام عن الأعمال اليدوية، وهو ما أطلق عليه عالم الاجتماع والاقتصاد ثورشتاين فيبلينThorstein Veblen  "الترفيه الجلي conspicuous leisure"، وأسميه في هذا المقال "أخلاقيات الكسل idleness ethics ". وكانت قيمة تملك الرقيق عند الملاك في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين تتعدى مجرد عملهم في ترقية الاقتصاد المحلي والزراعة والطبخ إلى زيادة شعورهم بالهيبة والرفعة والاحترام والمنزلة الاجتماعية الرفيعة.

ولم نقع على أي كتابات أو وثائق تتناول دور الرقيق  في ترقية شعور مالكيهم  بالهيبة والسلطة والقوة، إلا أننا نلحظ في كتابات بعض الرحالة الأوربيين الذين زاروا السودان تعجبهم من أن هنالك من ملاك الرقيق من كان  يحتفظ بعدد كبير من الرقيق لم يكن يقومون بأي أعمال اقتصادية نافعة، وليس من تفسير لذلك غير أن مجرد الاحتفاظ بعدد كبير من العبيد – بغض النظر عما يقومون (أو لا يقومون) به من أعمال-  يلفت نظر الناس لمالكهم كرجل رغد العيش، واسع الثراء ورفيع المكانة. فعلى سبيل المثال لاحظ الرحالة براون عند زيارته لدارفور في تسعينيات القرن الثامن عشر أن السلطان كان يحيط عرشه  بخمسة عشر من الخصيان يلتحفون أثوابا حريرة ناعمة، وعلم ذلك الرحالة أن أولئك الرجال كان قد تم خصيهم في ذات القصر (سبق لنا ترجمة مقال عن ذلك الرحالة بعنوان "أول من وطأت قدماه أرض دارفور من الأوربيين: د.ج. براون (1793م)" المترجم). وكذلك تعجب الرحالة الألماني جوستاف ناختيقال وهو يطوف في وداي (الآن في تشاد) ودارفور في بدايات سبعينيات القرن التاسع عشر من "الاستخدام الاحتفالي" للرقيق من الرجال والنساء. فقد ذكر أنه شاهد عددا من نساء  المابا  يسرن في الطرقات وخلفهن عدد من الفتيات الصغيرات المسترقات وهن يرفعن ذيول ملابسهن (المسماة فردة اندركي؟endurki).  وذكر ذات الرحالة أنه وجد في كل مناطق الحزام السوداني في أفريقيا  أن ثمن الخصي وكذلك الأمة أو  العبد المصاب بإعاقة ما  (مثل الصمم أو البكم أو القزامة) كان يفوق كثيرا ثمن نظيره السوي بدينا،  ربما لأن المسترق المعاق كان يعد أداة للتسلية والترويح عن النفس (ولعل المرء يذكر هنا بيت المتنبئ: "ومثلك يؤتى به من بلاد بعيدة ليضحك ربات الخدور البواكيا"! المترجم)، أو لأن وجود أمثال هؤلاء في موكب السيدات كان مما يشد الانتباه ويزيد من المكانة. وأيد عالم الآثار الألماني كارل ريتشارد ليبسس  زعم  "الوظيفة الاجتماعية" و"الاستخدام الاحتفالي" للرقيق الذي أتى  به من سبقه من الرحالة وذلك عند رؤيته للسيدة نصرة  بنت آخر سلاطين الفونج، والتي قابلته في خمسينيات القرن التاسع عشر وهي محاطة بعشر من الإماء الصغار وهن في فساتين بيضاء وصنادل مزينة مزركشة. وأورد أيضا عالم طبيعة ألماني من الرحالة الذين زاروا منطقة الشكرية في عام 1870م  أن الشيخ عوض الكريم زعيم تلك القبيلة قابله  وفي معيتهأعيان وشيوخ وكبراء قبيلته، وكانتتحيط بهم مجموعة كبيرة من الزنوج المسترقين الذين كانوا على أهبة الاستعداد  لتنفيذ ما يطلب منهم في الحال.

وأورد س. هيليلسون في بحث شهير نشره في مجلة "السودان رسائل ومدونات"  في عددها السادس والصادر في عام 1923م عن "طبقات ود ضيف الله"  مثالا آخراً على الاستخدام الاحتفالي، بل الفاسد decadent (بحسب زعم المؤلفة بالطبع. المترجم)  للرقيق، ليس من قبل صفوة السياسيين هذه المرة، بل من قبل رجال الدين من ذوي النفوذ الواسع، إذ ذكر أن الشيخ حسن بن حسونة بن الشيخ موسى (والمتوفى في 1664م) كان يمتلك من الرقيق عددا كبيرا كانوا  يمثلون قرى بأكملها، وكان 500 من هؤلاء المسترقين يعملون كجنود مسلحين له. وكان ذلك الشيخ يقيم لضيوفه الكثر موائد إفطار في رمضان يظهر فيها كرما فياضا  إذ كانت تقدم فيها  من 120 من إمائه وهن يرتدين الملابس الزاهية للضيوف أطباق الطعام واحدا بعد الآخر، بينما يكتفي الشيخ الزاهد بحسوات من ماءغمرت  فيه بعض حبات القرض مع  أقل القليل من بسيط  الطعام. وكان الناس يعزون كثرة عبيد الشيخ لبركاته، وأحد مظاهر نعم الله عليه.

وكان  التزيين وخاصة  تصفيف الشعر من أهم أعمال الإماء والعبيد في تلك السنوات. وكانت جودة عمل الأمة منهن على جسد وشعر سيدتها دلالة على عظم مكانة السيدةوأهميتها وسط مجتمعها. وكانت هذه الأهمية الاجتماعية  لعمل المسترقين في مشط الشعر هيأحدى الملاحظات التي  سجلها  خبير المدفعية الأميركيج. ب. انجلش والذي رافق الجيش المصري التركي عند غزوه للسودان في 1820- 1821م.فقد زعمانجلش في كتاب أصدره عن تلك الحملة  أنه شاهد عبدين يموجان ويضفران بعناية  فائقة  شعر سيدهما في بربر، واختتما عملهما بصب قدر وافر من دهن ضأن ذائب على شعر  السيد المضفور حتى أبيض لونه.  وتبين للرجل الأمريكي بعد السؤال أن ذلك السيد كان يتزين  للقاء  أصحابه على النهر في صباح اليوم التالي. وذكر عالم الآثار البريطانيهوسكنس في كتاب له عن رحلاته في السودان وأثيوبيا  أن عملية مشط  الإماء لشعر زوجة مك شندي كانت تستغرق تسع ساعات كاملة، وزعم ذلك الرحالة  أنه شاهد عشرين من إماء تلك السيدة  يقمن  بطحن بهارات كثيرة  كن يستخدمنها  في المسح على شعرها وجسدها. وذكر آخر وصفا مشابها لما تقوم به الإماء من عملية  مشطمطول لشعر زوجة شيخ لعرب البقارة في كردفان.

وكتب عالم النبات الألماني اشفاين فورث عن قيام الإماء السود  في سواكن بشرق السودان بجلب الماء للمدينة  من آبار بعيدة، وهي مهمة ذكر أنها كان يمكن للحمير القيام بها، غير أن تكلفة اقتناء الحمير كانت أعلى من اقتناء الإماء، خاصة وأن الإماء كن يقمن أيضا بالعناية بشعور مالكيهم!

نستخلص من تلك الكتابات أن الرقيق فيشمال السودان كانوا يقدمون لسادتهم  إضافة لأعمالهم الرئيسةأعمالا أخرى غير منتجة (unproductive labor) وخدمات كمالية(luxury services) وكانت تلك الخدمات تعد  عند اولئك السادة  مؤشرا  للثراء  والدعة ورمزا للهيبة والنفوذ.وعزز توفر خدمات الرقيق المنتجين وغير المنتجين   من سلوك الفراغ والكسل الشخصي personal idlenessعند ملاك الرقيق حتى غدت عدم حاجة المرء  للعمل اليدوي وعزوفه عن خدمة نفسه خصلة نبيلة  ومصدرا للفخر. ولم يكن هذا السلوك الكسول حصرا على مناطق شمال السودان، بل لاحظه كثير من الباحثين في شأن الرق والرقيق في المجتمعات الآسيوية والأفريقية (مثل بعض قبائل داهومي وجزر القمر وغيرهما).

كان أكثر ما أزعج ملاك الرقيق في أمر إبطال الحكومة الاستعماريةللرق في السودان ليس فقط النقص الحاد في الأيدي العاملة (المجانية)، بل أيضا التهديد الذي مثله الغاء الرق لشرفهم وكرامتهم الشخصية من حالة  فقدان الرقيق (slavelessness) التي كتب عليهم أن يكابدونها.


alibadreldin@hotmail.com

 

آراء