الهوية والتاريخ والسلطة في الدراسات التاريخية عن السودان .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
الهوية والتاريخ والسلطة في الدراسات التاريخية عن السودان
Identity, history and power in the historiography of Sudan:
Dr. Elena Vezzandini
د/ إلينا فيزاندي
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم:هذه ترجمة (بتصرف واختصار)لجزءصغير من مقالللدكتورة إلينا فيزاندي
عن "الهوية والتاريخ والسلطة في الدراسات التاريخية عن السودان: بعض الأفكار حول كتاب "تاريخ السودان الحديث" لمؤلفيه هولت ودالي"،والمنشور في "المجلة الكندية للدراسات الأفريقية" في عددها رقم 45 والصادر في عام 2012م. وتعملالدكتورة إلينا فيزاندي باحثة في جامعة بيرجنبالنرويج. وسبق لناأن نشرنا ترجمة موجزة لبعض ما جاء في مقالها عن حركة 1924م بعنوان"برقيات وطنية: الكتابات السياسية ومقاومة الاستعمار في السودان"
المترجم
----------- ------------- ----------
يعد كتاب "تاريخ السودان الحديث" لمؤلفيه هولت ودالي أحد أهم المراجع الموثقة والمعتمدة لتاريخ السودان المعاصر، وقد صدرت آخر طبعة منه (وهي السادسة) في عام 2011م. ومؤلفاه هما بروفسيور بيتر هولت (المستشرق البريطاني الراحل الذي عمل في القسم السياسي لحكومة العهد الاستعماري، ثم أستاذا في جامعة لندن، وأول من كتب عن تاريخ المهدية في السودان) ومارتن دالي (وهو أهم الذين أرخوا لتاريخ السودان في عهد الحكم الثنائي، البريطاني – المصري في كتابين شهيرين). وهذا الكتاب هو ممايبدأ به عادة طلاب علم التاريخ والأكاديميون الذين يهمون بالتعرف على تاريخ السودان الحديث، كما فعلت أنا شخصيا. وحافظ هذا الكتاب علىتأثيرهالقوي لسنين طوال، ولا غرو، فهو مصدر غني بالمعلومات ليس فقط للمؤرخين والخبراء في الشأن السوداني، بل للعاملين في المنظمات الطوعية والنشطاء والإعلام بمختلف صورهكذلك. ويمتاز الكتاب بقدرة تثير الاعجاب على تلخيص تاريخ يمتدلأكثر من 1400 سنة في نحو 200 صفحة فقط!
ولم تفت على ملاحظة إصرار المؤلفين في هذا الكتاب على الاستمرار في نشر وبث نماذج/ صيغ/ أمثلة تاريخية (historical paradigms) بعينها والـتأكيد عليها مرارا وتكرارا، مما نتج عنه تسطيح مؤسف (وغير مقصود بالطبع) لتعقيدات وثراء ماضي السودان.ولا ريب أن سر نجاح وشعبية هذا الكتاب في أوساط المؤرخين وعامة القراء يكمن في أنه قد كتب بصورة قد تعد مثالا نموذجيا لما ينبغي أن تكون عليه الكتابة التاريخية من حيث الحيدة والاستقلالية واللهجة المتوازنة والحرص الشديد على دقائق التفاصيل. ولكن ربما يكون هنالك سبب آخر لشعبية وشهرة الكتاب ألا وهو أنه يعزز من الطريقة التقليدية التي تعودنا عليها (نحن الغربيون) في النظرة للسودان، وهو ما يشعرنا بنوع من الراحة والرضاء!
وفي هذا المقال سأحاول أن أبسط تجربتي مع هذا الكتاب كمؤرخة مبتدئة تكتب عن التاريخ الاجتماعي للسودان في عهدالاستعمار.
_____ _______ __________
مقدم المدنية للسودانThe coming of civilization to Sudan
على الرغم من أن غالب الدراسات التأريخية للسودان تؤكد خطل فكرة أن تاريخ هذه البلاد قد بدأ مع دخول الإسلام لها، إلا أن هذه الفكرة بقيت عالقة في كتابات (وعقول) الكثيرين، ومنهم مؤلفي هذا الكتاب الذي نحن بصدده الآن، واللذان سلكا مسلك المؤرخين الكلاسيكيين قبلهم (مثل هارولد ماكمايكل ويوسف فضل) في توصيف هجرة ودخول العرب للسودان ووصف بعض سكانه بأنهم "عرب". رغم أن الخط الفاصل بين "العرب" و"غير العرب" ليس واضحا دائما، والتحدث باللغة العربية كما هو واضح لا يكفي لجعل المرء عربيا. فعلى سبيل المثال فإن الفونج (حكام سلطنة سنار) لم يكونوا عربا، بل هم مجموعة عرقية أصلية autochthonous group، غير أنهم يتحدثون العربية، بل ويزعمون (كغيرهم من القبائل المسلمة العربية وغير العربية في شمال السودان)بأنهم من نسل الرسول العربي. (بالطبع يخالف ما ذهبت إليه الكاتبة هنا ما يذكره بعض الناس من أن من تحدث بالعربية وكانت لسانه فهو عربي، بناء علي حديث "من تحدث العربية فهو عربي"، وهو حديث موضوع أو ضعيف جدا ومتروك، لا يصححه أحد من أهل علم الحديث من جهة إسناده، ولكن يأخذ بصحة معناه بعض الناس في السودان.المترجم).
ويلاحظ بصورة عامة أن المؤرخين لا يزالون يكتبون ويتحدثون عن "تعريب السودان" غير أن أحدا منهم لم يتطرق مطلقا "لسودنة العرب" مع أنه من اليسير جدا تصور حقيقة أنه تم استيعاب (ذوبان؟) العرب المهاجرين للسودان في التكوينات الاجتماعية المحلية التي كانت قائمة، وتمت بالفعل "سودنتهم". ومن أكبر عيوب المثال/ الصيغة /النموذج (paradigm) الذي حافظ على نهجه كتاب هولت ودالي والقائل بتعريب القبائل السودانية التي اختلط بها العرب المهاجرون بين القرنين السابع والسابع عشر هو تصور ثبات ودوام هوية هؤلاء الناس وإلى الأبد. ويمكن التدليل على ذلك بما ورد في كتاب هولت ودالي عن قبيلة العبابدة (وهم فرع من فروع الهدندوة) ويتحدثون العربية ويزعمون لأنفسهم نسبا عربيا، من أنهم "مستعربين Arabized"(أو بالأحرى معربين Arabizing) رغم أنهم - بحسب ما ورد في كتاب هولت ودالي لا يعدون من ضمن القبائل العربية. ويؤكد المؤلفان في موضع آخر رؤيتهما الثابتة في أمر تقسيم القبائل السودانية لقبائل عربية وغير عربية فيكتبان عن قبيلة الفور ما نصه: "ورغم أن الفور ظلوا محاطين بسيل من القبائل العربية المهاجرة، إلا أنهم أفلحوا في إنشاء سلالة ملكية مسلمة مستقلة لم تسقط إلا في عام 1916م"، وكأنهما يؤكدان على انفصام وفصل تام بين "الفور" و"بقية القبائل العربية" لا يسمح أبدا بحدوث أي تغير في هوية أي منهما، وعلى رفض أو تجاهل للصلات بين شعب الفور ومن يجاورونهم من أفراد القبائل الأخرى، رغم أن كثير من علماء التاريخ والأنثروبولوجيا يؤكدون أن أصل الفروقات والتقاتل بين سكان دارفور منشأه هو صراعات الموارد وسبل كسب العيش وليس "العروبة" أو عدمها.
ليس من أغراضي في هذا المقال أن أثبت أن من يدعون أنهم عربا هم ليسوا كذلك في واقع الأمر، ولكني أدعوا فقط لأمر أراه بدهيا، ألا وهو أن ادعاء نسب أو هوية ما لا يعلو على التاريخ، ولا يذهب أبعد منه. فالاعتراف بعروبة مجموعة ما لا يعني أن تؤصل وتتجذر– وإلى الأبد- هذه الهوية في تاريخ خالد وساحق القدم. فعندي أن أي مجموعة تغدو عربية بمجرد أن تبدأ في نسبة نفسها للعرب. ففكرة أن "الشعب" أو "القومية" تقوم على النظرة إلى الماضي ليست فكرة ثابتة ودائمة لا يتطرق إليها شك، بل إن الشعوب تولد في زمن ماض أقرب كثيرا مما نتصوره. ويجب كذلك تذكر أن مفاهيم "الشعب" و"الوطن" و"القومية" ليست مفاهيماً ثابتة جامدة، بل هي مفاهيم تتغير وتتبدل مع مرور الزمن.
ومعلوم أن هنالك العديد من المؤرخين الذين حاولوا فهم الظروف التي برزت فيها فكرة "عروبة" سكان شمال السودان، إلا أن مجهودات هؤلاء المؤرخين لم تفلح في اجتثاث النموذج (paradigm)الشائع والغالب في أدبيات الدراسات التاريخية السودانية من أن لسكان شمال السودان تاريخا عربيا صرفا. بل لقد ساهم اعتبار أن الفروقات والانقسامات بين"العرب" و"غير العرب" هو من مسلمات وثوابت الحقائق في ماضي السودان في تعتيم تاريخ البلاد بأكثر مما ألقى عليه الضوء.
ويجب تذكر أن مفهوم عروبة السودان ليست شأنا تاريخيا فقط، إذ أن لذلك المفهوم أبعادا سياسية واجتماعية وغيرها. فقد همد قليلا تعريف السودان كقطر عربي في السنوات الأولى للنظام الديكتاتوري العسكري الذي قاده جعفر نميري، حين بدأ في حوار بين الشمال والجنوب، وشاع حينها تعريف السودان كقطر عربي - أفريقي. وعد بعض الباحثين عملية التعريب عملية متحركة قابلة للصعود والهبوط بحسب متغيرات الزمان والمكان والأوضاع الاجتماعية والسياسية وأنماط الهجرات الداخلية والخارجية وغيرها.
وبالعودة لكتابي هولت ودالي يمكن القول بأن ذلك الكتاب لم يتطرق مطلقا لتاريخ جنوب السودان قبل الغزو المصري – التركي، ولم يأت للجنوب على ذكر في سنوات الحكم التركي إلا في معرض الحديث عن تجارة الرقيق، وإلا عن كونه منطقة طرفية مهمشة في عهد الاستعمار البريطاني – المصري، ومسرحا لحرب أهلية بعد ذلك. ولا ريب أن غياب الجنوب كمادة تاريخية في الكتاب لا يمكن رده أبدا لجهل الكاتبين، بل إلى ذلك النموذج التاريخي المعتاد والذي اختصر ولخص - وبشدة- كامل تاريخ الجنوب وعده تاريخ حرب وعنف.
إن المجموعات العرقية التي تؤكد أنها عربية النسب هم بالفعل من العرب، ذلك لأن تلك هي هويتهم التي اختاروها / زعموها، وليس بسبب هجرة العرب للسودان. ويزداد الأمر تعقيدا عندما يبحث أمر تعريف الهوية والذاتية للسوداني المنتسب للعرب بحسب النوازع التي دعته للقول بأنه عربي. وتتنوع تلك النوازع من الوضع الاجتماعي في المجتمع المحلي إلى طبقة المرء وثقافته العالية المتفوقة علي غيرها، وإلى العوامل السياسية الراهنة والتي قد تفرق وتقسم أفراد الشعب إلى "عرب" و"غير عرب" عملا بسياسة "فرق تسد".
***** ********* **********
شعوب دون تاريخPeople without History
إن لكثير من الذين يعرفون أنفسهم كسودانيين من أصول عربية وطبقات عليا في المجتمع إيمان لا يتطرق إليه شك فيما يتعلق بطبيعة المجتمع والسياسة، ألا وهو ضرورة أن ينحدر الفرد منهم من عائلة "مهمة"، وأن ينتسب لقبيلة "مهمة" كي يجد الفرصة في حكم بلاده. وبصورة من الصور فإنه من المسلم به أنه من الطبيعي أن يحكم البلاد أفراد من "العوائل الكبيرة". وينبغي أيضا التأكيد هنا على أن التاريخ قد أثبت أن تلك العوائل قد أنجبت بالفعل أفرادا متميزين سياسيا و/ أو دينيا أثبتوا أنفسهم في عديد المواقف (خاصة عند الملمات بمواقف "بطولية" خاصة في عصر الحكم التركي والمهدية)، ولعل هذا مما يؤكد ما يذهب إليه البعض من أن أصل الفرد هو من يحدد مصيره(origin makes destiny) ويثبت مقولة أن " التاريخ يكشف لنا عما كنا نعلمه سلفا"! وفي غضون سنوات الحكم الثنائي كان الإداريون البريطانيون من أشد الناس إيمانا بهذه الفكرة. ويبدو أن فكرة أن المحرك والقوة الدافعة لكامل لتاريخ السودان هو التاريخ السياسي لقبائله الكبيرة كانت هي الفكرة الأساس (theme) في كتاب هولت ودالي عن تاريخ السودان.وكمثال على ما ذكرنا دعنا نأخذ مثالا واحدا لكيفية وصف ذلك الكتاب لنشأة "الوطنية" في السودان ابْتِداءً من ثورة 1924م ، والتي كانت مشهدا من مشاهد التمرد القائم أساس أيديولوجي ضد الاستعمار، وكانت من نتائجها إضعاف الوجود والنفوذ والتأثير المصري في السودان. ولكن بالنسبة لهولت ودالي في كتابهما الشهير كانت هنالك معارضة للاستعمار من طبقتين بالبلاد: الطبقة السفلى (وأفرادها من الراديكاليين والمنبتين (بلا قبائل ذات شأن) والفاشلين عديمي السند الذين لا يمثلون غير أنفسهم)، والطبقة العليا (والذين وصفهما المؤلفان في كتابهما بأنهم رجال من التجار والأفندية والضباط، وهم بالطبع أقل إلحاحا وأكثر أهمية ممن سواهم، غير أنهم لا يودون رهن مستقبل بلادهم وللأبد بأيدي البريطانيين).وكانت هذه الفئة "المحترمة" هي من قادت البلاد للاستقلال في نهاية المطاف. وبعبارة أخرى فقد كان المؤلفان يقولان بأن نجاح السوداني سياسيا يعني ويعتمد على مدى حداثته وحصوله على تعليم (غربي) وفوق هذا وذاك على أصوله الاجتماعية. ولا يخفي خطل تحليل ذلك الكتاب في هذه النقطة بالذات، فقد شارك في ثورة 1924م مثلا رجال من مختلف الطبقات الاجتماعية في السودان، وشارك عدد ممن اشتركوا في تلك الثورة في حكم البلاد لاحقا، منهم الضابط عبد الله خليل، والذي تقلد رئاسة الوزارة، ونال عدد آخر من الضباط في الجيش المصري وابنائهم (وبعضهم – وليس كلهم بالطبع-) منحدر من أصول لمسترقين مناصب عليا بالبلاد.
ومن الأمثلة الأخرى التي يمكن إيرادها في معرض الحديث عن خطل بعض أفكار كتاب هولت ودالي الصارمة والقطعية والمختصرة لتعقيدات جسام هو القول بأن الحركة الوطنية السودانية بعد سنوات ثلاثينيات القرن الماضي نشأت تحت جناح السيد / علي الميرغني (زعيم طائفة الختمية) أوالسيد/ عبد الرحمن المهدي (زعيم طائفة الأنصار)، والقول القاطع بأن دخول (تدخل؟) الطائفية في السياسة السودانية هو سبب رئيس لفشل الديمقراطية في البلاد. وفي تلك الأقوال اختصار مخل لكثير من العوامل المعقدة والمتداخلة الأخرى في شعاب الخلافات السياسية التي نشبت بين الأحزاب السياسية المختلفة الهوى والمتباينة المصالح (والتي لا تتوافق دوما عند جماهير الحزبين الكبيرين مع مصالح قادتهم)، وتجاهل لدور المثقفين والنقابات والأحزاب الأخرى ذات الوزن المقدر مثل الأحزاب العقائدية اليمينية واليسارية (والتي يصف المؤلفان منتسبيها في يسر وجزافية بالمتطرفين).
ومن المعلوم أن كل كتاب يعكس (وبدرجات متفاوتة) الزمن الذي كتب فيه، وكتاب "تاريخ السودان الحديث" لمؤلفيه هولت ودالي ليس استثناءً من هذه القاعدة. فأوجه القصور في الكتاب – من وجهة نظري بالطبع- تكمن في فلسفة كتابة تاريخ السودان وسائر الدول الأفريقية، وما اعتورها من قرب (شبه دائم) للعلاقات بين مؤرخي المرحلة الاستعمارية مع مرحلة ما بعد الاستعمار، ودرجة الاهتمام والعناية بطبقة الصفوة في المجتمع كصناع للوطن، وعدم قدرة فهم أولئك المؤرخين لفهم تعقيدات أحداث السودان التراجيدية الراهنة.
ويفرض السؤال التالي نفسه: لماذا ظل هذا الكتاب هو أحد المراجع الرئيسة (عند الغربيين) لدراسة تاريخ السودان وفيه من أوجه القصور ما ذكرنا؟ الإجابة السهلة هي عدم وجود منافس لهذا الكتاب في الوقت الراهن، وقلةإتمام المؤرخين في سنواتنا هذه بتاريخ السودان مقارنة بتاريخ دول مجاورة كمصر وإثيوبيا، وتركيز الكتاب على مفاهيم قديمة وراسخة (ومريحة) في أذهان الغربيين (وبعض السودانيين أيضا) مثل تخلف المناطق الريفية وثبات التراتيب والتسلسل الهرمي الاجتماعي في البلاد، وعدم قدرته على التغيير، وتأثير الدين في السياسة، وفوق كل هذا هو التنبؤ (المتشائم) بأن ليس أمام للسودان (مثل بقية الدول الأفريقية) غير مستقبل يسوده العنف. وبما أن أحدا لم يتصد بعد لتحدي كتابة تاريخ جديد للسودان فسنظل نقرأ كتاب هولت ودالي، والذي سيظل هو الكتاب الأكثر شمولا (والأشد اختصارا) لتاريخ السودان (يبدو أن الكاتبة هنا كانت تقصد المؤرخ والقارئ الغربي، وإلا لكان قولها شديد التطرف والتعميم الكاسح والمخطئ – كغيره من التعميمات - وفيه تجاهل لما سجله المؤرخون السودانيون بلغتهم عن تاريخ بلادهم في مراحله المختلفة. المترجم).
alibadreldin@hotmail.com
/////////////