كان العمى (ولا يزال في أغلب البلدان) ينظر إليه كعاهة مستديمة تستوجب الشفقة والعطف، بل والإحسان والعطايا. بيد أن كل ذلك قد يتغير بعد تطور الطب الحديث خاصة في مجالي طب العيون والأعصاب وغيرهما بإدخال أقطاب كهربائية في أجزاء محددة في الدماغ تنقل إشاراتها إلى شبكية العين، مما يعد بفتح نافذة أمل جديد لمن فقدوا البصر. وصار إطلاق لفظة "أعمي blind" في الثقافة الغربية المعاصرة من الألفاظ غير الصحيحة (المقبولة) سياسيا، وأستعيض عنها بكلمة sightless ، ولعل هذا في فهم بعضنا من باب ما كان يسمي قديما بـ "الفلهمة العوراء"... و"العوراء" هذه كلمة أخري من الكلمات التي قد تعد الآن غير صحيحة سياسيا، وهي عند العرب من ألفاظ السباب (وما أكثرها عندهم!)، وتعجبت الأعراب من الذي يؤثر العوراء علي العيناء! إلا أن الغربيين يأخذون التمييز ضد العميان مأخذ الجد، وجاء قبل سنوات في أخبار "سي ان ان" أن العملة الخضراء تواجه متاعب جديدة غير تراجعها في الأسواق، ذلك أن الدولار متهم الآن بالتمييز ضد العميان، إذ يستحيل عليهم معرفة الفئات عن طريق لمس هذه العملة "الخالية من الإحساس." وحكمت محكمة الإستئناف في مقاطعة كولومبيا، بأن الدولار يميز ضد العميان، الأمر الذي قد يجبر الخزينة الأمريكية على صنع أوراق نقدية من قياسات معينة أو تحمل علامات "نافرة" تمكن العميان من التعرف عليها، فتأمل!
وبعض العميان لا يرون في عاهتهم (إن صح التعبير) وصمة عار أو عيب يستحي منه، فالمغني الأميركي الشهير إستيفي وندر وظف قبل سنوات فقدانه للبصر في دعاية شهيرة نشرت في كبريات المجلات الأميركية ضمن الحملة المناهضة لقيادة السيارات في حالة السكر، فكان المغني "الأعمى" يظهر في الإعلان و هو يقول ما معناه : "أفضل أن أقود سيارتي بنفسي من أن أدع مخمورا يقلني بسيارته"! وهذا باب في الإعلان مؤثر دون ضجيج أو هجيج، وفعال دون إثارة أو إبتذال، وقيل أن المغني الأمريكي الراحل ريي شارلس (وكان فاقدا للبصر) تبرع لجمعية الصم بمبلغ ضخم من المال، ولما سئل عن سبب تبرعه لجمعية الصم وليس العمي (كما هو متوقع) رد قائلا بأنه لا يعد العمى عاهة تستوجب المساعدة... فتأمل مرة أخرى!
وعلى المستوى الشخصي زال عندي ارتباط العمى بالعجز عندما شهدت في "بلاد الأفرنج" (حسب تعبير رفاعة الطهطاوي) الأعمى يحمل عصاه و يقطع بها أشد الطرق ازدحاما بالسيارات، بل ويدرك - حتى و إن كان بمفرده – متى تكون الإشارة الضوئية خضراء ومتى تغدو حمراء... مما يذكر المرء بمقولة أهلنا القديمة: "بشوف القلب ما بتشوف العينين". وهنا يبرز الإختلاف بين البصر والبصيرة، وهو اختلاف بين لا تكاد تخطئه عين، فحاسة البصر كما لخصها أحد العلماء "نافذة من نوافد المعرفة، بها نرى ما يقع تحت نظرنا فنميّزها تمييزاً أوّلياً، بيد أن الإقتصار على البصر وحده في التشخيص والتمييز والمعرفة غير كاف، إذ لا بدّ من ركيزة أخري نلجأ إليها رفعا للإلتباس وإزالة للغموض، أي إنّنا بحاجة إلى (ضوء) آخر نكشف به "الظلمة العقلية"، و هذا الضوء هو (البصيرة)، وجاء في القرآن الكريم " بل الإنسان على نفسه بصيرا"، والبصيرة هنا بمعني الحجة والإستبصار في الشئ، وللبصيرة معان آخر متعددة".
ومن شاهد الشريط (الفيلم) المصري "الكيت كات" يدرك كيف تأتى لذلك الأعمى الحشاش العيش وسط ثلة من المبصرين الأنذال وكيف تمكن – بذكاء فطري خارق- من الإيقاع ببعضهم. و يقال أن الشيخ الضرير (والمعارض) كشك كان شديد "الغتاتة" علي المخبرين السريين الذين كانوا يتبعونه كظله أينما ذهب، فكان يتعمد أن يخرج من مسجده ويطوف – بالساعات الطوال- في شوارع القاهرة ليعذب متتبعيه من المخبرين بالمشي خببا عله يرد لهم بعض جمائلهم عليه!
ومن غريب ما سمعت عن العميان عند أحد المهتمين بتراث العرب أنهم (أي العميان) قوم قليلو الحياء، لا يتورعون عن التلفظ بأقذع الألفاظ وأنكر السباب، ولعل مرد ذلك – حسب ما قال- أن فقدانهم للبصر يجعلون في مأمن من النظر في وجه من يقارعهم، وعدم رؤيتهم لردود الأفعال التي يحدثها ما يتلفظون به من بذاءات أو ردود جارحة، ودلل علي ذلك برد طه حسين الذي ذاع بين الناس من أنه قال للطلاب المحتجين عليه إبان توليه الوزارة والذين وصموه بالعمي فرد عليهم في حرقة: "الحمد لله الذي جعلني أعمى حتى لا أنظر إلي أوجهكم الكالحة" أو كما قال.... و هذا في ظني تخريج فاسد لزعم أشد فسادا.
ومن قصص المستشرقين عن عميان مصر (ومنها انتقيت عنوان هذا المقال) قصة لا تخلو من طرافة ولكنها رغم ذلك تستدعي التفكير والتأمل العميقين رواها المستشرق إدوارد لين في كتاب بعنوان "المصريون وعاداتهم في القرن التاسع عشر" جاء فيها أن الطلاب العميان في الأزهر (وكانوا نحو ثلاثمائة) كان لهم مكان مخصوص يسمى "زاوية العميان" تصرف عليهم الدولة من أموال رصدت خصيصا لهم، بيد أن هؤلاء الطلاب العميان كانوا عنيفي المسلك كثيري الشغب. ونمى لسمعهم ذات مرة أن رجلا أوربيا دخل الأزهر(كان في الأصل مسيحيا وأعتنق الإسلام وسمى نفسه "منصور أفندي") فثارت ثورتهم وتصايحوا "أين الكافر؟ سوف نقتله؟"... و تجمعوا للبحث عنه والفتك به. وبسبب عاهتهم بالطبع أفلت الرجل منهم ونجا بجلده.
وروى الكاتب أيضا أن هؤلاء الطلاب العميان كانوا كثيري المطالبة للأزهر بتحسين أحوال معيشتهم، بل وكانوا يسـتأجرون أدلاء من المبصرين ليدلوهم علي الطرق الكبيرة حيث يخرجون في مظاهرات عارمة وهم يحملون العصي ويحطمون بها الحوانيت، بل وينزعون العمائم من رؤوس المارة. وأهتدى الأزهر إلى حيلة ذكية وهي تعيين شيخ أعمى مثلهم ليتولى شياخة "زاوية العميان"، وكان أول "بيان رقم واحد" له هو جلد سائر الطلاب العميان جزاءًا وفاقا لهم علي ثورتهم. ولكن لم يصبر هؤلاء الطلاب علي "الظلم" طويلا فتربصوا بشيخهم الضرير وقيدوه وجلدوه جلد غرائب الإبل، ومن ثم أجبروه على التنحي عن وظيفته المشئومة.
alibadreldin@hotmail.com