هل السودان قابل للحكم؟ .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
20 July, 2014
(1)
هل السودان قابل للحكم؟ بعض الأفكار حول تجربتي الديمقراطية الليبرالية والحكم العسكري (1)
Is the Sudan governable: Some thoughts on the experience of liberal democracy and military rule (1)
Prof Peter Woodward أ.د. بيتر وود وارد
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة لشذرات مختصرة من مقال لبروفسيور بيتر وودوارد حول تجربتي الديمقراطية الليبرالية والحكم العسكري في السودان نشر عام 1986م في العدد رقم 13 من مجلة الجمعية البريطانية لدراسات الشرق الأوسط Bulletin Society for Middle Eastern Studies. ويعمل بروفسيور وودوارد أستاذا للعلوم السياسية بجامعة ريدنق البريطانية، وله إِهتِمام بحثي بالشأن السوداني والإفريقي والعربي، ونشر الكثير من المقالات والكتب عن السودان من أهمها "الحكم الثنائي والقومية السودانية". وسبق للرجل العمل في السودان بين عامي 1966 – 1967م كمدرس للغة الإنجليزية بمدرسة كوستي الثانوية (حيث كان مشجعا ولاعبا بمريخ كوستى!) ، ثم محاضرا بجامعة الخرطوم حتى عام 1971م.
المترجم
*** *** *** *** *** ***
يترواح مفهوم حكم السودان من مجرد حفط شكليات "الدولة State" إلى مفهوم أعمق يجسد القدرة على رسم وتنفيذ سياسات للتنمية. وتحاول هذه الورقة دراسة الطيف الواسع الواقع بين هذين المفهومين. وهما على كل حال مفهومان مترابطان، فالقدرة على رسم وتنفيذ سياسات فعالة مرتبطة بالقدرة على حكم كل مساحة السودان.
ومعلوم أن عملية صناعة "دولة" في السودان (تقريبا بنفس حدوده الحالية) وحكمه لسنوات حتى 1956م (عام الإستقلال) كانت بيد حكام أجانب، وبمشاركة محدودة جدا من صغار الموظفين السودانيين. فقد حكم الأجانب السودان مرتين: كانت المرة الأولى هي الحكم المصري – التركي، وكانت الثانية هي الحكم البريطاني – المصري (والذي كان للبريطانيين فيه اليد العليا). ولم يفصل بين فترتي الحكمين الأجنبيين غير ثلاثة عشر عاما من الحكم الوطني (هي فترة المهدية).
ولم تكن "الدولة" التي فرضت في تلك السنوات من صنع الأجانب فحسب، بل كانت تعكس توجها خارجيا محضا، فكانت هنالك المصالح الاقتصادية لمحمد علي باشا ومن خلفوه في حكم مصر من ناحية، وكانت هنالك أيضا الضرورات الإستراتيجية للإمبراطورية البريطانية من ناحية أخرى. وكانت المجموعات السكانية التي ضمها الحكام الأجانب في هذه الدولة مجموعات يعوزها التجانس. ورغم أن سكان شمال السودان كان يتميزون ببعض التواصل الثقافي (بسبب اللغة العربية والدين الإسلامي والثقافة وبسبب ثراث قديم من تكوين "الدولة" خاصة على ضفتي النيل)، إلا أن ذلك لم يزل الفروقات العرقية والجهوية حتى في شمال السودان، غير أن ذلك لم يشمل بالقطع جنوب السودان. ولم تفلح تجربتي الثورة وتكوين "دولة موحدة" إلا قليلا في عملية دمج أو توحيد مكونات البلاد العرقية. وساهمت بلا ريب سياسيات المستعمر البريطاني في جنوب السودان في تعميق الخلافات والفروقات بين سكان السودان، وتقليل فرص التفاعل والتداخل بين ذلك الجزء من السودان وبقية أجزاء البلاد مما هيأ الفرصة مستقبلا للصراع (والذي ختم بإنفصال الجنوب كدولة مستقلة يوم 9/ 7/ 2011. المترجم).
وقد حكم السودان من قبل الحاكمين الأجنبيين (التركي – المصري والبريطاني- المصري) بحكم عسكري اتوقراطي اعتمد على توليفة من "المشاركة والتعاون" و"القسر والإكراه"، مع بعض الاهتمام بشأن التنمية. غير أن هذين الحكمين الأجنبيين كانا على كل حال قد حكما البلاد حكما غير ديمقراطي انتهى في الحالتين بخروجهما (أو طردهما) من البلاد، بفعل ثورة المهدي الدينية (في حالة الحكم التركي – المصري) أو بفعل ضغوط سياسية شعبية (في حالة الحكم البريطاني – المصري). غير أن خروج أي منهما من السودان لم يعن إِنهيار "الدولة"، بل ترك أمر الحكم للحكام الجدد القادمين ليحكموا بالطريقة التي يرونها.
وعلى الرغم من كل ذلك فمن الثابت أنه ومنذ الاستقلال في 1956م لم يقم الحكام الوطنيين بالتخلي عن مواقعهم عند فشلهم في الحكم. فلم يشهد أي عهد ديمقراطي لبيرالي في السودان استقرارا في الحكم رغم كل تجارب التحالفات الحزبية. ورغم أن حكم نميري العسكري ظل في الحكم لمدة ستة عشر عاما إلا أنه كان قد ووجه في سنواته تلك بعدد كبير من التحديات الهائلة والصغيرة أيضا. ويلاحظ أيضا أنه ما أن يسقط نوع حكم ما في السودان فإن ذلك لا يعقبه فراغ ليملأه الحكم المقبل، وذلك لأن هنالك دوما "بقايا" أو "أشباح" من العهد الفائت تظهر في قائمة الحكام الجدد، وربما لعبت تلك "البقايا" أدوارا في قلب الطاولة على الحكم الذي كانوا من ضمن طواقمه، ومن ثم تحظى – مرة أخرى- بمقاعد الحكم في النظام الجديد.
ولعل أس مشكل السودان يكمن في عدم القدرة على بناء نظام حكم مستقر يبقى ويقوم بتنفيذ سياساته لفترة طويلة نسبيا. ولا تتوقف المشكلة عند هذا الحد إذ أن نقاط ضعف الحكومة (والتي هي غالبا نقاط ضعف نظم الحكم) تهدد وجود واستمرار حياة "الدولة" ذاتها.
وإن كان للسودان أن يظل "دولة" قابلة للحياة وأن ينهض اقتصاده من وهدته فيجب عليه أن يطور للمستقبل نظاما حكم يكون أكثر فعالية (بمعنى الكلمة).
فترتي الديمقراطية الليبرالية (1956 – 1958م و1964 – 1969م)
لم تتعرض فكرة إدخال الحكم الديمقراطي بعد نيل الاستقلال في دولة كانت تحكم حكما اتوقراطيا لأي قدر من النقاش الفاحص. وعلى الرغم من أن ذلك لم يكن يبدو أمرا محتملا بسبب
أسلوب القيادة – بدءاً من السيد عبد الرحمن المهدي راعي حزب الأمة والملك المحتمل للسودان (للبروفسير حسن عابدين رأي مخالف لما أورده بروفسير بيتر وود وارد هنا بخصوص مصداقية رواية "ملك السودان" هذه. المترجم) وانتهاءاً بالحزب الشيوعي في أقصى اليسار، وذلك بخصوص مناداتهما بالاستقلال التام والسريع للسودان. ولم تطرح أبدا أي بدائل ممكنة للديمقراطية الليبرالية التي كانت تسير على خطى "ويست مينستر"، الحافر على الحافر، دون النظر والتأمل في حقائق وقائع الحال في السودان وسيادة ما سماه تيم نبلوك "القوى الاجتماعية المهيمنة"، إضافة إلى القوى الاجتماعية – السياسية التي تمثلها، وسلوك الأحزاب وممثليهم في البرلمان.
وكانت أول هذه القوى الاجتماعية التي ظهرت كحزب سياسي هي حزب الأمة والذي تكون في عام 1945م، والذي أسس بنائه على جماهير الأنصار وعقيدتهم المهدية، والتي كانت بمثابة "القلب" في ذلك الحزب. إلا أن إنجاز السيد عبد الرحمن المهدي الأكبر تمثل في تحويل "التوقع الألفي
millenarian expectation"
إلى قوة ذات توجهات وطنية طويلة الأمد، وذات أساس اقتصادي منظم ومتين تمثل في "دائرة المهدي"، ومغلفة بقوة مهددة وضاربة من مقاتلي الأنصار، والذين استخدمهم ذلك الحزب في أكثر من مناسبة، وبفعالية كبيرة، في شوارع العاصمة للتعبير عن سياساته وفرض قبولها.
وكان من خواص حزب الأمة أنه تجاوز تمايز طبقات المجتمع، ليس عن طريق المظاهر الشعبوية بل بإخضاع جميع منتسبيه (من زراع ورعاة وغيرهم في مناطق نفوذه في غرب ووسط السودان) لتسلسل هرمي ثابت ومتين في الحركة بقيادة زعيمهم الروحي السيد عبد الرحمن المهدي. وكان نجاح ذلك الزعيم يقوم أساسا على التعاون مع الحكومة وليس مصادمتها، والحفاظ على "الأوضاع القائمة" عوضا عن إحداث تغييرات راديكالية متطرفة. وكانت تلك هي مساهمة حزب الأمة في ما سماه تيم نبلوك "القوى الاجتماعية المهيمنة".
ثم أتى رد القوى الوطنية العلمانية، والتي كانت تعارض الحكم البريطاني فتكونت في مواجهة حزب الأمة أحزابا عديدة كان أهمها حزب الأشقاء. وكان هذا الحزب يمثل تهديدا (سياسيا) للحكم البريطاني يفوق ما كان يمثله حزب الأمة، ربما بسبب وجود عدد كبير من المتعلمين والمثقفين بين قادته وأعضائه. ولم يكن لهؤلاء من وسيلة فعالة لإيصال رسالتهم لعامة أفراد الشعب إلا بواسطة الطريقة الختمية، والتي كانت من أكبر الطرق الصوفية بالبلاد، ومن أشد تلك الطرق رفضا للمهدية في القرن التاسع عشر، وظلت على ذلك العداء حتى بعد نيل السودان لاستقلاله.
وتكون في عام 1952م الحزب الوطني الاتحادي من عدة تحالفات من أحزاب وجماعات صغيرة متباينة المشارب، يجمعهم دعم مصر لهم للسعي للوحدة بين "شطري وادي النيل". وكانت جماهير ذلك الحزب مكونة من الطبقة المتوسطة في المجتمع مثل التجار والموظفين والعمال في السودان الشمالي النيلي، وتحت زعامة ناظر المدرسة السابق السيد إسماعيل الأزهري. وكان من ضمن عضوية ذلك الحزب أفراد من الطائفة الختمية (خاصة في شرق السودان وشماله)، وهم كانوا أكثر من مجرد "جزء" من الحزب الوطني الاتحادي، إذ كانوا يمثلون جزءا له مرجعيات فكرية وأصولية مختلفة عن العلمانيين في ذلك الحزب، غير أن القاسم المشترك لهم مع أولئك الإتحاديين هو التنافس الحاد مع حزب الأمة، والذي كان الأكثر تجانسا ووحدة. ثم قام الختمية في عام 1956م بالانفصال وتكوين حزب الشعب الديمقراطي (وعاد للإندماج مع الحزب الوطني الاتحادي تارة أخرى في عام 1968م تحت مسمى الحزب الاتحادي الديمقرطي). وبدا لكثير من المراقبين أن ذلك الحزب كانت له خواص الحرباء، فهو يعني عند كل مجموعة من منتسبيه شيئا مختلفا! وكان يفتقد الالتزام والهوية المميزة، وبذا لم يكن يلبي تطلعات الذين يسعون لتنمية البلاد وتقدمها.
وكانت جماهير حزبي الأمة والحزب الوطني الاتحادي تمثلان (على الأقل لأغراض الانتخابات) غالبية سكان السودان الشمالي، بيد أن وجود هذين الحزبين كان معدوما في الجنوب لغياب التنظيم الاجتماعي الذي يمكن أن يسمح بظهور "مجموعات مهيمنة" فيه، وبسبب عزلة الجنوب وشيوع الأمية فيه مما نتج عنه غياب شبه تام لطبقة متعلمة كان من الممكن أن توازي قوة الإسلاميين والعلمانيين في شمال السودان. وكان من يمثلون الجنوب في برلمانات العهود الديمقراطية الليبرالية نواب تعوزهم الخبرة والكفاءة والقاعدة الاجتماعية والأموال الأزمة للتواصل مع ناخبيهم. ولعل هذا يفسر ضعف صلاتهم بمواطنيهم، وسلوكهم المتردد والمتذبذب، وضعفهم، وقبولهم للضغوط.
وبالنظر إلى ما تحصل عليه كل حزب من الأحزاب السياسية التي خاضت كل الانتخابات التي جرت منذ عام 1954م وإلى عام 1986م (انظر الجدول) يتضح أنه ما من حزب تمكن من الحصول على الأغلبية المطلقة سوى الحزب الوطني الاتحادي في انتخابات عام 1954م. ولذا لجأت الأحزاب للتحالف مع غيرها. وكانت حكومات الأحزاب المتحالفة قصيرة العمر ومشغولة دوما ببقائها في السلطة. وعانت كثير من الأحزاب من حالات التمرد والانشقاق والانقسام بسبب هشاشة البنية التنظيمة لتك الأحزاب، وغلبة التنافس العائلي والشخصي بين قادة تلك الأحزاب (مثل انقسام حزب الأمة لجناحين بقيادة السيد الصادق وعمه السيد الهادي). ولم يكن لبعض تلك الأحزاب (مثل حزب الاتحاد الديمقراطي ) من نشاط واضح إلا في مواسم الانتخابات.
وكان هنالك وعي وإدراك لكل مثالب وقصور العهد الديمقراطي اللبيرالي، خاصة عند صناع ثورة أكتوبر 1964م وبعيد تكوين أول حكومة قومية بالبلاد. ولعل هذا الوعي والإدراك هو ما دعا المواطنيين للقبول والترحيب بـ"ثورة" مايو في 25 مايو 1969م.
1986 | 1968 | 1965 | 1958 | 1954 |
|
63* | 101* | 73 | 45 | 51 | الحزب الوطني الاتحادي |
63* | 101* | قاطع | 27 | - | حزب الشعب الديمقراطي |
99 | 73 | 92 | 65 | 22 | حزب الأمة |
3 | 10 | 11 | - | 1 | الحزب الشيوعي |
51 | 3 | 5 | - | - | الجبهة الإسلامية |
- | - | - | 20 | 9 | حزب الجنوب |
- | - | 10 | - | - | سانو |
- | - | 6 | - | - | جبهة الجنوب |
1 | 3 | 10 | - | - | البجا |
8 | 2 | 10 | - | - | النوبة |
* حزب الاتحاد الديمقراطي (بعد اندماج الحزب الوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقراطي)
---
أشكر د/ نهلة عباس لمدي بالمقال الإنجليزي
alibadreldin@hotmail.com