التحولات السياسية في ماضي وحاضر السودان .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
بدر الدين حامد الهاشمي
31 July, 2014
31 July, 2014
التحولات السياسية في ماضي وحاضر السودان
Sudan: Political Transitions Past and Present
Prof Peter Woodward أ.د. بيتر وود وارد
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة مختصرة لأجزاء وردت في محاضرة عامة لبروفسيور بيتر وودوارد حول التحولات السياسية في ماضي وحاضر السودان، كان قد نشرها معهد دراسات الشرق الأوسط والإسلام بجامعة درام البريطانية عام 2008م كالورقة التاسعة والأخيرة ضمن مجموعة أوراق لباحثين آخرين (سميت سلسلة منشورات سير وليام ليوس) بمناسبة الإحتفال بمرور نصف قرن على إنشاء بروفيسور ريتشارد هيل لـ "أرشيف السودان" بجامعة درام.
ويعمل بروفسيور وودوارد أستاذا للعلوم السياسية بجامعة ريدنق البريطانية، وله إِهتِمام بحثي بالشأن السوداني والإفريقي والعربي، ونشر الكثير من المقالات والكتب عن السودان من أهمها "الحكم الثنائي والقومية السودانية" و"السودان 1898 – 1989م". وسبق للرجل العمل في السودان بين عامي 1966 – 1967م مدرسا للغة الإنجليزية بمدرسة كوستي الثانوية (حيث كان مشجعا ولاعبا بمريخ كوستى!) ، ثم محاضرا بجامعة الخرطوم حتى عام 1971م، حين غادرها للتحضير لدرجة الدكتوراه في جامعة ردينق، والتي عمل بها لسنوات طويلة، خلا فترات قليلة في جامعات ديربان وناتال والجامعة الأميريكية بالقاهرة. وعمل أيضا في السنوات الأخيرة مستشارا لعدد من الحكومات (ومنها الحكومة البريطانية) في الشأن السوداني.
المترجم
*** *** *** *** ***
هذه المحاضرة هي آخر محاضرة في سلسلة المحاضرات التي قدمت احتفالا بمرور خمسين عاما على إنشاء "أرشيف السودان" بجامعة درام. ولا شك أن الجيمع يدينون بالفضل لبروفسيور ريتشارد هيل لبعد نظره، قبل نصف قرن من الزمان، عندما بدأ في إنشاء هذا الإرشيف الذي لا يوجد له نظير في بريطانيا عن قطر واحد. والشكر موصول كذلك لكل موظفي الإرشيف على مجهوداتهم المتواصلة، والتي تتعدى بكثير ما هو مطلوب منهم.
قابلت في السبعينيات وأنا أجمع مادة بحثي للدكتوراه عن السودان السير وليام ليوس والذي عمل عقب تخرجه في جامعة كيمبردج عام 1930م في السلك الإداري لحكومة السودان في بربر ودارفور والنيل الأزرق والإستوائية قبل أن يصبح مستشارا لحاكم عام السودان (سير روبرت هاو ثم سير نوكس هيلم)، وربما كان هو الحاكم الفعلي على عهديهما (ولكن وراء الكواليس). وظفرت من الرجل بمعلومات موثقة، لم تكن من ذاكرته فقط، بل كثيرا كان ما يستعين بكم ضخم من الوثائق في مكتبته. ومن الغريب أن السير وليام ليوس ذكر لي أنه وقبل أن يغادر السودان عشية الاستقلال، قام بالاتصال بوزارة الخارجية البريطانية في لندن ليسألهم إن كان يرغبون في أن يقوم بشحن كم هائل من الوثائق البالغة السرية المحفوظة في قصر الحاكم العام لهم، ولما أتت الإجابة بالنفي لم يجد السير من مفر من حرقها في أحد أركان حديقة القصر!
تحولات أربعة Four transitions
يعلم الكثيرون في هذا العالم ما يجري في السودان الآن، إذ من الصعب تجاهل أمر كمشكلة دارفور (والتي وصفت في سنوات معينة بأنها أكبر كارثة إنسانية). ورغم أن تلك المشكلة كانت في ذروتها بين عامي 2003 و2004م، إلا أن الحكومة السودانية (وحزبها المؤتمر الوطني) كانت في تلك السنوات في خضم مفاوضات طويلة مع الحركة الشعبية إنتهت بتوقيع اتفاقية السلام الشامل في يناير 2005م. وعقب ذلك التوقيع دخل السودان في المرحلة الرابعة من التحول الديمقراطي والتعددية الحزبية والإنتخابات المقرر إجرائها في يوليو 2009م، والذي يفترض أن يجرى بعدها استفتاء في الجنوب ليحدد إن كان الجنوب سينفصل أم يبقي متحدا مع بقية أجزاء السودان.
ومعلوم أن التحولين الديمقراطيين السابقين (1964 – 1965م و 1985 – 1986م) لم يعمرا إلا سنة واحدة أو نحوها (كانت فترتي الديمقراطية بعد سقوط الحكم العسكري الأول هي بين عامي 1964 – 1969م، وبعد سقوط الحكم العسكري الثاني كانت بين 1985 – 1989م. المترجم)، وحدثا عقب ثورة أو إنتفاضة شعبية عفوية ضد حكم عبود ونميري العسكريين، على التوالي. ولا تذكر تلك الثورة والإنتفاضة إلا في معرض الإشادة بشجاعة وتصميم من قاما بهما، وأنهما حدثا بغتة دون كبير توقع، وسبب ذلك جزئيا ضعفا في التحضير المسبق لاستلام السلطة، وفي تكوين الحكومة المؤقتة التي كان عليها تسيير شئون الحكم بالبلاد. ولم يحدث في تكوين وعمل تلك الحكومات المؤقتة أي نوع من التغيير الحقيقي مما زاد من الاحساس بالإحباط على "الفرص الضائعة". فقد أعاد الحزبان النخبويان التقليديان في شمال السودان (الأمة والإتحاد الديمقراطي) الاستيلاء على المبادرة من الشارع، والتي كان يسيطر عليها الراديكاليون أصحاب الأفكار التقدمية وما يسمى بـ "القوى الحديثة" وفرضا على الكل العودة للنظام الديمقراطي التعددي على نسق وطريقة ويست منيستر، أي مثلما كان عليه الحال مطلع يناير 1956م. ومعلوم أن السودان كان قد مر بتجربتين من قبل، انتقل فيهما من حكم عسكري لحكم مدني ولكن دون تغيير حقيقي وجوهري يخلق نظاما حزبيا تعدديا قابلا للحياة، بل عاد لنظام معلوم المثالب. فذلك النظام قام على أساس دولة مركزية موحدة فشلت في أن تتقاسم السلطة مع أطرافها البعيدة جغرافيا (التي تعرف الآن بالمناطق المهمشة)، خاصة الجنوب، مما دفع سكانه للتمرد العسكري، والذي بدأ في عام أغسطس من عام 1955م، أي قبل نيل الاستقلال، وتفاقم فيما بعد ليغدو حربا للعصابات استمرت خلال سنوات الفترتين الديمقراطتين وبعدهما. ثم عادت الأحزاب التقليدية لما دأبت عليه من تحالفات وإئتلافات لحكومات غير مستقرة فشلت جميعها في حل مشكلة الجنوب وفي تنمية البلاد. ورحبت الجماهير من فرط إحباطها وسخطها من الأحزاب بالإنقلابين العسكريين في عامي 1958م و1969م أملا في حكومة أكثر حسما وعزما وفعالية. إلا أن التحول الذي يجري الآن (أي في عام 2008م) يشابه التحول الذي جرى بالسودان قبيل الإستقلال بين عامي 1953- 1956م أكثر من ذلك التحول الذي وقع في 1964- 1965م و1985 – 1986م. فقد كان تحول 1953 – 1956م عملية تفاوضية شارك فيها كل اللاعبين الأساسين في السياسة السودانية في ذلك الوقت وهم بريطانيا ومصر والأحزاب السياسية الرئيسة، خاصة حزبي الأمة والوطني الإتحادي. وبدأت كل فصول تلك العملية التفاوضية عقب الإتفاقية التي عقدت بين بريطانيا ومصر في شان السودان في فبراير من عام 1953م، والتي وضعت الأساس لعملية التحول، وفي اختيار السودانيين للاستقلال أو الإتحاد مع مصر. ومن أوجه التشابه بين التحول الحالي في 2008م وتحول 1953 – 1956م هو أنه كان يفترض أن ينتج عنهما انتخابات حزبية تعددية وقيام حكومة ديمقراطية. وفي التحولين المذكورين كانت سيادة السودان وتقسيم الموارد في مقدمة الإهتمامات، فكانت قضية المياه المعلقة بين مصر والسودان من الأمور المهمة في التحول الأول، بينما كانت مسألة توزيع الثروة وحقول النفط من أهم القضايا المعلقة في التحول الثاني. وكان للمجتمع الدولي في التحولين دورا رسميا وأخر غير رسمي.
السيادة Sovereignty
كانت سيادة السودان ومنذ زمن طويل موضع تنافس وغموض شديدين. فعقب غزو حاكم مصرمحمد علي باشا في عام 1820م للأراضي التي كونت السودان الآن كأكبر قطر في أفريقيا كان السودان يعرف بالسودان المصري- التركي، إذ أنه كان يتبع رسميا للخلافة العثمانية (التركية) ويحكم بواسطة مصر (والتي كانت مستقلة فعليا عن الخلافة العثمانية). وأفحلت المهدية في طرد ذلك الحكم بسقوط الخرطوم في 1885م.، غير أن أحدا في العالم لم يعترف بالمهدية كدولة مستقلة ذات سيادة. وبعد معركة أمدرمان في 1898م استعادت بريطانيا ومصر حكم السودان تحت مسمى السودان الإنجليزي – المصري (والذي كان يحكم فعليا من قبل بريطانيا)، وظلت مصر تؤمن بأن السودان يتبع التاج الملكي المصري، مثلما كان عليه الحال قبل ظهور المهدية.
وتزايد التنافس بين مصر وبريطانيا عقب الحرب العالمية الثانية، خاصة مع تنامي المشاعر الوطنية السودانية. غير أن تلك "المشاعر الوطنية السودانية" لم تكن موحدة أبدا، إذ أنها كانت مكونة في غالبها من حزبين متنافسين، حزب يميل إلى بريطانيا (الأمة) أو إلى مصر (الإتحاديين والختمية). وماتت الدعوة للإتحاد لمصر في السودان بعد قيام إنقلاب يوليو 1952م والذي أطاح بالملكية التي كانت تنادي بإعتبار السودان جزءاً لا يتجزأ من مصر. وحسمت قضية سيادة السودان بتوقيع مصر وبريطانيا لإتفاقية 1953م، والتي قضت بإعطاء السودانيين حق تقرير مصيرهم. غير أن تلك الإتفاقية لم تسلم من الإنتقاد، خاصة من موظفي القسم السياسي بحكومة السودان والذين كانوا يرون بأن بريطانيا قد خذلت السودانيين وخانت السودان من أجل مصر. وصرح جيمس روبنسون السكرتير الإداري بأنه "ما لم تحدث معجزة، فإن مصر ستبتلع السودان". ولكن ظل السير وليام ليوس مستشار الحاكم العام مقتنعا بأن السودان سينال استقلاله عن بريطانيا ومصر في نهاية المطاف.
وكان من رأي القسم السياسي بحكومة السودان أن فوز حزب الأمة في إنتخابات 1954م سوف يعزز من فرص استقلال السودان، غير أن نتيجة تلك الإنتخابات أتت لصالح الإتحاديين الموالين لمصر. وكان من رأي بعض البريطانيين أن فوز حزب الأمة في تلك الانتخابات كان سيدفع بالحزب الوطني الإتحادي للإرتماء أكثر في أحضان مصر. وقرر البريطانيون بعد ذلك العمل على حمل الحزب الوطني الإتحادي لتغيير مواقفه الإتحادية من مصر، والسعي لتحقيق الاستقلال الكامل للسودان بعيدا عن مصر وبريطانيا. ولعبت علاقة السير وليام ليوس المتميزة مع السيد مبارك زروق وزير المواصلات وزعيم مجلس النواب دورا كبير في سبيل تطوير ذلك المسعى. ورتب الحاكم العام السير هاو زيارة للسيد إسماعيل الأزهري رئيس الوزراء المنتخب للندن حيث قوبل بحفاوة حارة أزالت ما كان بين الطرفين من جفوة وإرتياب وعدم ثقة، وجعلت الأزهري يقول في محادثة خاصة للسير وليام ليوس بعد زيارته للندن: " لا ينبغي أن تتصور أن رجلا في كامل وعيه يستبدل سيدا بسيد آخر. لقد شعر كثير من السودانيين، ولبعض الوقت، بأن إصطفافهم مؤقتا مع مصر للتخلص من الحكم البريطاني سيكون أسهل لهم وأكثر عمليا. ولكن هذا لم يكن يعني أنهم يريدون أن تحكمهم مصر".
وظل السير وليام ليوس يؤكد على وزارة الخارجية البريطانية خطورة إتحاد السودان مع مصر. وهو في هذا كان يلقى تعضيدا من أصحاب العداء الشديد لمصر من أمثال وينستون تشيرشل رئيس الوزراء (وأحد من شهدوا واقعة كرري)، والذي بلغ به العداء لمصر أن أقترح إرسال مدد عسكري للسودان لمنع إتحاده مع مصر، غير أن أحداً لم يلق بالا لذلك المقترح المغالي.
وفي أغسطس اقترح السيد علي الميرغني زعيم الطائفة الختمية (المؤيدة للحزب الوطني الإتحادي) أن يجرى استفتاء )وليس انتخابات( لتحدد موقف السودان من الإتحاد مع مصر أو الاستقلال التام، ووافق البرلمان على ذلك الاقتراح في التاسع والعشرين من ذات الشهر. ولكن قرر السيد الأزهري بعد شهرين من ذلك أن البرلمان بإمكانه أن يقرر في ذلك الأمر ويحسمه. وكانت تلك إحدى مناورات الساسة السودانيين التي كانت تذهل وتربك أحيانا خصومهم، بل والمسئولين البريطانيين أيضا! ولزيادة الإرتباك اقترح بعض المسئولين البريطانيين أن تعلن بريطانيا – ومن جانب واحد- أن السودان قد غدا دولة مستقلة، إلا أن السفارة البريطانية في مصر – وكانت ذات سلطة ونفوذ- صبت ماءاً بارداً على ذلك الإقتراح. واقترحت مصر القيام بإستفتاء أولا ثم إنتخابات لبرلمان جديد يحسم الأمر بحسب نتيجة ذلك الإستفتاء، ووافقت بريطانيا على الاقتراح المصري. إلا أن ساسة السودان كان لهم رأي آخر، فبعد مفاوضات مطولة خلف الكواليس وفي يوم 15/12/1955م أعلن السيد الأزهري أن الاستقلال سيعلن من داخل البرلمان يوم "الأثنين المقبل". ولم يكن أمام مصر وبريطانيا إلا الإذعان لذلك القرار.
ولم يرد في خضم كل ما ورد أعلاه أي ذكر لجنوب السودان، والذي وصفه السير وليام ليوس (والذي حكم الإستوائية لعدد من السنوات) بأنه مصاب بـ "سوء حظ تاريخي"، فقد كان قد أستغل كسوق رائج ( خاصة للرقيق) في القرن التاسع عشر، وأعلن الحكم الثنائي الجنوب "منطقة مقفولة" بين أعوام الحربين العالمتين، ولكنه رفع ذلك الحظر في عام 1947م بعد تنامي المشاعر الوطنية السودانية بشمال السودان، وشيوع الرغبة في ضم شطري السودان كقطر واحد. ولكن في أغسطس من ذات العام وقع أول عمل عسكري مضاد للحكومة السودانية الجديدة في توريت. ولم تتوقف المصادمات الحربية بين الشمال و الجنوب (خلا سنوات قليلة عقب توقيع اتفاق أديس أبابا في 1972م) إلا بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل في يناير 2005م.
الموارد Resources
كان أمر الموارد وتقاسمها مرتبط، ومنذ البدء، بأمر السيادة. فبين عامي 1953 و1956م حدثت خلافات عميقة بين مصر والسودان حول رغبة مصر بناء سد على النيل في أسوان، وأصر السودان على ضرورة عقد اتفاق جديد لتقاسم مياه النيل بين مصر والسودان عوضا عن اتفاقية عام 1929م. وكانت قضية المياه من أهم قضايا السودان لإعتماده شبه الكامل على زراعة وتصدير القطن. فكان أول ما قامت به أول حكومة للسودان هو الدخول في مفاوضات مع مصر واجهت مصاعب عديدة واِنْتَهَتِ بالفشل. وتجمد الأمر مؤقتا عندما رفض البنك الدولي تمويل بناء السد، ربما بإيعاز من الولايات المتحدة، وربما بسبب عدم الاتفاق بين مصر والسودان. وكان السير وليام ليوس في تلك السنوات مؤيدا صلدا لموقف السودان، ليس من باب العناد أو التعطيل، بل كما قال: "من أجل مستقبل الأجيال السودانية القادمة".
وكان القطن في غضون سنوات التحول الأول هو مصدر الثروة في السودان، بينما كان النفط هو المصدر الأساس أثناء سنوات التحول الرابع. وضمنت اتفاقية السلام الشامل نصوصا تضمن توزيعا عادلا ليس فقط للسلطة، بل للثروة أيضا. ولكن شكل وجود وظهور البترول في مناطق التماس بين حدود شمال السودان وجنوبه مصدرا جديدا للصراع بين الطرفين. وكانت اتفاقية السلام الشامل قد حسمت أمر الحدود فيما عدا منطقة أبيي الغنية بالنفط، وذلك بسبب مشاكل فنية وعرقية وغيرها.
alibadreldin@hotmail.com
///////