مذكرات حول فلاتة ميلي في كسلا .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
Notes on the Fellata Melle of Kassala
J. A. De C. H. جي أي دي سي أتش
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
هذه سطور قليلة سجلها من كسلا رجل بريطاني (لعله من الإداريين الذين عملوا بتلك المدينة في عشرينيات القرن الماضي عن الفلاتة في تلك المدينة)، ونشرت في مجلة "السودان في مدونات ومذكرات Sudan Notes and Records" في عددها التاسع، والذي نشر في عام 1926م.
المترجم
**** **** **** **** ****
توجد في الوقت الحاضر في كسلا وما حولها خمس أحياء (فرقان) يقنطها مهاجرون من غرب أفريقيا. ولمجيء هؤلاء الناس للسودان، واستقرارهم فيه تاريخ مثير للانتباه.
لقد أتى هؤلاء المهاجرون، وبأعداد كبيرة، من منطقة تامبكتو قبل نحو ربع قرن من الزمان تحت قيادة الفقير/ محمد هاشم. وقاموا بأداء فريضة الحج، حيث بقى الفقير في المدينة بينما آب بقيتهم إلى السودان، وآثروا الاستقرار في مدينة كسلا. وكانوا في سنواتهم الأولى بالمدينة يعانون من شظف العيش والفقر المقذع، حيث كانوا يشتغلون بالأعمال اليدوية اليومية وبالرعي. وقليلا قليلا تحسنت أحوالهم فامتلكوا بعض أنواع البهائم (غالبا المعز والغنم)، وازدادت مع مرور السنوات أعداد أنعامهم، وقام كل واحد منهم بضم ما يملكه لقطعان أفراد قبيلته الآخرين، وصاروا من الرعاة الرحل، ينتقلون من مكان لآخر طلبا للماء والكلأ.
وكانت علاقة هؤلاء المهاجرين بالقبائل الموجودة قبلهم في المنطقة علاقة حسنة، رغم أنهم كانوا يعدون من "الأغراب" عندما تثار قضية تملك من نوع ما. غير أنهم ، وعلى وجه العموم، لم يواجهوا أي صعوبة أو مضايقة في الحصول على الماء والكلأ لبهائمهم.
ومما يجدر ذكره أنهم تطبعوا ببعض مظاهر وطباع وعادات القبائل التي وجدوها قبلهم في المنطقة، فبنوا بيوتهم على نمط يشابه ما كان سائدا عندهم في غرب أفريقيا، ولكن على نسق ما كان معتادا عند الهدندوة (مثل مد قطع طويلة من "برش" حول البيت المبني على هيكل من سيقان الأشجار). وتشبهوا بالهدندوة في ترك شعرهم ينمو على شكل "تفة" (Fuzzy head)، ويحمل الشاب منهم دوما الخنجر المعروف عند الهدندوة. ومن المثير أنهم أجادوا، وبسرعة ملحوظة، اللغتين المستخدمتين في المنطقة (العربية ولغة البجا) إضافة بالطبع للغتهم الأصلية.
وكانوا بالنسبة للإداريين شعبا مثاليا، فقد كانوا يتحاشون المشاكل، ويقومون بدفع ما عليهم من ضرائب في موعدها المحدد، ولا اذكر شخصيا أبدا أي حادثة أو جرم قام بارتكابه أي فرد من هؤلاء الفلاتة بكسلا في السنوات الأخيرة.
ويتزعم فلاتة كسلا حاليا الشيخ محمد أحمد بلو، وهو رجل متدين وله عظيم الأثر في حياة جماعته في المدينة، وما زال يحتفظ بعلاقات ود واحترام مع الفقير/ محمد هاشم بالحجاز.
وقد علمت من الشيخ بلو أنهم كانوا في بلادهم الأصلية قبيلة شبه مستقرة (أو شبه رحل)، وغدوا في كسلا بالتأكيد من الرحل، ولكن في منطقة محددة وصغيرة نسبيا.
إن ارتداد هؤلاء الناس لحياة الرحل أمر يستحق الدراسة لسببين. ويتعلق الأول منهما بمستقبل القبائل الرحل في السودان بصورة عامة، والثاني بمستقبل الرحل في مديرية كسلا على وجه الخصوص.
ومعلوم أن الأمر المعتاد هو أن يتحول الرحل إلى جماعة مستقرة، وذلك عن طريق التطور الطبيعي تحت ظروف أمنية مستقرة ومسالمة، وأيضا عن طريق النمو الزراعي المكثف في منطقة القاش في غضون السنوات القليلة الماضية.
ولكن أتى فلاتة ميلي بشيء مخالف للتيار العام، وتأقلموا بصورة سريعة ومذهلة مع طريقة عيش القبائل الحامية في المنطقة، وفي ظني أنه لن تنقضي إلا سنوات قليلة نسبيا وسيصعب بعدها التفريق بين فلاتة ميلي وغيرهم من سكان المنطقة.
ويبدو أن مد "الاستقرار" عند الرحل ليس قويا كما كان يظن البعض، وليس من المحتمل (كما يؤمل البعض) أن يسود الاستقرار في القرى والحضر في المستقبل القريب (أو البعيد!). ومن المرجح جدا (وحالة فلاتة ميلي تؤيد هذا الزعم) وبالنظر إلى الأحوال الطبيعية في شمال السودان، ومزايا حياة الترحال الطليقة الخالية من تكاليف حياة الزراعة والاستقرار، أن تظل حياة الرعاة الرحل كما هي، وألا تندثر في وقت قريب. ولا بد من وضع هذا في الاعتبار واعتبار الرعاة الرحل جزءً أصيلا لا يتجزأ من الحياة الاقتصادية في السودان.
alibadreldin@hotmail.com
////////