مهام الفترة الانتقالية: قراءة في الاتفاقات الوطنية (13-14)
تاهيل الحكام
كان اكتساب المهارات العقلية والحياتية يتم في تأريخ السودانيين عبر بروفات متعددة في حياتهم. من الجمعيات الادبية في المدارس الوسطى والثانوية، الجمعيات المختلفة، وحتى إنتخابات اتحادات الطلاب في المراحل الثانوية والجامعات. بجانب هذا تواجدت إنتخابات التعاونيات على طول قرى السودان، او على مستوى المناطق الجهوية. من هذه التكوينات ينتقل المواطن إلى الانتساب في نقابة مهنية، عمالية، اتحادات مزارعين، رعاة وغيرها. من هذه التكوينات الديمقراطية كان يتخرج القادة السياسيون، الوزراء، اعضاء البرلمانات..الخ. كل هذه التكوينات تضاءلت مساهمتها طوال ربع قرن.
التكوين السياسي والفكري للأحزاب
طبيعة تكوين الاحزاب السياسية السودانية سواء القائمة على الارتباط الطائفي، أو الإيديولوجي ركزت في بناء كوادرها على تنمية القدرات السياسية، الخطابية في الغالب، أكثر من القدرات الفكرية والتجارب الحياتية، وإن اختلف الوضع قليلاً في الأحزاب العقائدية. وسنهتم بالأحزاب الطائفية؛ لأنها الأكثر وصولاً للسلطة ويجيء معظم القادة منها. العبور إلى القيادة في هذه الأحزاب مرتبط بشكل كبير بالوضع الأسري والانتماء القبلي، ومن ثم التدرب والتعلم من الاحتكاك بالقيادات العليا للحزب بدون أي برامج للتطوير، أو التدريب المنظم المعروفة.
تعتمد هذه الأحزاب بالأساس على التحليلات الذي تقدمه القيادة (الإمام أو مولانا) للأحداث بدون الاعتماد على مراكز أبحاث أو مؤسسات متخصصة تابعة لها، مع بعض الاستثناءات، وأدى هذا أحيانا كثيرة إلى أن يكون القائد الأسري أو القبلي المنتمي لأحد الأحزاب في فترة سابقة، رئيسا للاتحاد الاشتراكي في أثناء المايوية، ثم مرشحاً للحزب وعضواً بمكتبه القيادي أثناء الديمقراطية الثالثة وهكذا.
أما الأحزاب العقائدية فبدلاً من أن تستفيد من وجود مئات العقول اللامعة والذكية، وتشجع قيام مراكز أبحاث جادة ومستقلة، ترفدها بنتائج بحوث موضوعية تبني عليها تحليلاتها، فقد اتجهت لاعتقال التحليلات في مكتبها السياسي، أو مجلس الشوري؛ لتصبح رؤية الزعيم هي السائدة، وعلى الاعضاء تلقيها والترويج لها. إن أهم مؤشرات الديمقراطية في الدولة والسلطة، ما يتم داخل الأحزاب من إدارة ديمقراطية من حيث حرية التفكير، حرية النقد، المشاركة الجماعية في اتخاذ أهم القرارات، انتخاب القادة، رقابتهم أو إسقاطهم من القيادة الحزبية.
المهارات الإدارية
تُكتسب المعارف الإدارية ومهارات القيادة في بلادنا خبط عشواء، وهي لاتمثل معياراً في الإختيار أصلاً ولا تكون هي الشاغل في تكوين الحكومات. وهذه سمة عامة في كافة الحكومات التي مرت على السودان؛ حتى عندما تتحدث سلطة ما عن الكفاءة فهي تتحدث عن الكفاءة الأكاديمية (مثل اختيار الوزراء من الاكاديميين فقط؛ لانهم أكاديميين)، أو عن النجاح الشخصي (مثل اختيار طبيب جراح ناجح، مدير بنك ناجح، بائع ثياب ناجح، سمسار اراضي ناجح..الخ).
وقد خلت أجندة الحكومات المتتالية من أي برامج لتأهيل وزرائها، أو قياداتها العليا حين يتولون هذه المهام إما بالهاتف، أو ضمن صفقات مصالحة، وأدى هذا بنا إلى أن من بين مئات الوزراء المتعاقبين لا تكاد الذاكرة أن تحتفظ سوى بأسماء قليلة استطاعوا إحداث تغيير محسوس، وترك بصمة على صعيد الإنجازات.
التكوين الجيلي للمؤسسات الإجتماعية
يرتكز الموروث الإسلامي على إرتباط الحكمة بسن النبوة (40 عاماً)، والموروث الإجتماعي من تقديم شيوخ القبائل وكبار القوم وغيرها. بدلاً من سن النبوة فقد تسيد وتسلط المسنين على الحكومة، ومؤسسات النظام كافة، اغلب قادة الاحزاب منظمات المجتمع المدني وغيرهم حتى مستواها الثالث فوق السبعين. كان هذا الأصل طوال القرون والسنوات. هذه التراتبية- عدا الخدمه المدنية- منعت كافة هذه التكوينات من التجدد.
تغيرهذا، في العالم، تحت عجلات التقدم الإنساني والتطور البشري، يتخرج الشاب من الجامعات (في الدولة المسئولة التي توفر التعليم لكافة الذين لديهم رغبه) في عمر العشرين عاماً، يمكن ان ينجز الدكتوراة قبل أكمال العقد الثالث من العمر. هذا على المستوي التعليمي، لكن في الثقافة والاطلاع فقد توفر لكل طارق للانترنت، ترليونات الصفحات، المكتبات الكاملة، الانسكلوبيديات وغيرها. تتنوع المجالات الثقافية لتنوعات مذهلة وهائلة، لم تترك أي شاردة او واردة من المخزون البشري كافة: من التراث البشري مكتوباً، منطوقاً، في صور، افلام، خرائط وغيرها.
معرفياً ليس هناك حدود للعقول الشابة المتوثبة، مع القدرة الخلاقة والمبدعة وتفتح الخيال. هناك شعار سقيم يردده العواجيز ان الشباب بناة المستقبل، والصحيح انهم بناة أي حاضر، والمستقبل يبنيه تجدد الاجيال واختفاء التراتبية وسيادة الكفاءة والانجاز.
الحركات المسلحة
عند انتهاء الحرب والصراعات يطل على المشهد السياسي محاربون قضوا سنوات في قيادة حركات مسلحة، مشاغلها ومسئولياتها مختلفة عن إدارة الدولة. أن هذه الحركات سوف تكون مضطرة للتحول لمنظمات سياسية ويحتاج اعضاؤها للتأهيل والتدريب السياسي (نمتلك ذخيرة كبري من منظمات خيرة قامت بمثل هذا العمل بعد نيفاشا وتقوم به في دارفور الأن)، والمهارات الإجتماعية. إعادة الاستيعاب عملية جدية واولوية، ولنا في تجاربنا السابقة سواء بعد اتفاق اديس ابابا 1972، المجموعات المقاتلة في يوليو 1976، حركات دارفور المنضوية تحت اتفاق الدوحة وغيرها. إن التساهل او التجاهل في هذا الامر روشتة لإعادة النزاعات. هذه مسئولية الدولة وليست الحركات وتحتاج لحلول شاملة واعادتهم إلي الحياة الطبيعية كمواطنين منتجين في مختلف قوس قزح الحياة.
لقد اعتدنا من الفرقاء، العقداء والعمداء القفز من الثكنة وساحات القتال إلي كرسي الرئاسة، كذلك قفز القادة من الغابة اوالقفار الصحراوية إلي مقاعد السلطة، تم كل هذا بدون تدريب او تآهيل سياسي. لقد احتاج كل هؤلاء لسنوات طويلة لاكتساب مهارات الحكم والتعامل مع السياسة، وكثير منهم فاشل في ادائها. هناك مكتبة ضخمة في صنوف التدريب، صقل المهارات والتأهيل لابد أن يخضعوا لها.
لقد اختارتهم منظماتهم او حركاتهم لصفاتهم القيادية، لكن ليس منها أنهم يمتلكون صفات القائد السياسي للوطن. لقد اعتدنا في الحياة السياسية السودانية على الايمان أن الممارسة (غير القائمة على أي معطيات علمية) هي التي تصنع السياسي، ويجدر بنا أن نعترف بمقولة أن مساعد الطبيب لن يصبح طبيباً مهما طالت مدة الممارسة، إلا بالتعليم والتدريب.
التأهيل النفسي
توفر تراث إنساني عظيم منذ الحرب العالمية الأولى و/الثانية، حروب فيتنام وغيرها حول التاثيرات النفسية والإجتماعية للحروب، الاعتقال والتعذيب وكيفية التأهيل منها، لم يعد التاثير الذي تسببه الحروب، الاعتقالات والتعذيب مجرد اطروحات فقد دعمتها دراسات متنوعة وعديدة من السودان وخارجه. إن من تعرضوا إلي انتهاكات جسدية ونفسية خلال فترة الحروب، اعتقالهم، او تعذيبهم بحاجة إلي المساعدة على تحرير أنفسهم من كل الأعراض النفسية والشعور بالذنب. يشكل الإرشاد الإجتماعي ضرورة ملحّة وجزءاً من العلاج الذي يجب أن لا يقتصر فقط على الضحايا ، بل يجب أن يشمل أيضاً جميع أفراد عائلاتهم، ويكون هدف العلاج هو إعادة بناء شخصية الناجين بحيث يصبحون قادرين من جديد على متابعة حياتهم الطبيعية. يقوم مركز فنر بإدارة د.عبد الباسط ميرغني بمجهود كبير ومقدر، واضعاً الأساس العلمي في هذا المجال.
يتوفر في الوطن الأن مراكز تدريب عالية المستوى، وبرامج تدريبية لكافة اوجه النشاط البشري، ومن الضروري أن نبدأ مسيرة الفترة الانتقالية بضمان كفاءة من سوف يتم اختيارهم لقيادة البلاد. هذا يصدق على الوزراء وكافة الاطر القيادية على جميع المستويات. للسياسة الحديثة معارف، مهارات ومواقف تدرس، ولمن اراد أن يحكم وطناً في أي موقع سياسي أن يمر عبر مقاعد التدريب والتأهيل.
omem99@gmail.com