مهنة … في محنة (14): بالقاضية، ضربت الإنقاذ أول قوانينها الصحفية

 


 

 




سقطت تجربة هامش الحريات الهش مع أول كلمات النقد
وقعت "السوداني"صريعة "رهاب الصحافة المستقلة"  
تجربة الدارين الصحفيتين بدت أكثر قوة من تجربة مايو 
د. محمود قلندر

لابد أن القارئ لهذه السلسلة من محاولة التحليل لواقع لصحافة عبر عصورأ سميناها عصور (الكبد)، قد لاحظ الآن أن شاهد القول فيها هو وقوع الصحافة السودانية في كل المراحل السياسية تحت وطأة القبضة السياسية الرسمية الخانقة، لم يختلف في ذلك ديموقراطيون لبراليون، عن شموليين مواربين أو مصارحين.ولم يغير تأرجح الحكم بين الشمول والانفتاح عن ذلك الواقع الخانق الذي عايشته الصحافة السودانية عبر تاريخها.
ولا يختلف المراقبون لمسيرة علاقة الانقاذ بالصحافة في عشريتها الأولى، على أن الصحافة المستقلة الوليدة، تقلبت على جمر الشك والريبة الرسمي.ولن يختلف معنا أحد لو قلنا إن الواقع السياسي الذي عاشته البلاد في العشر الأولى من الانقاذ ألقى بظلاله على العلاقة بين الصحافة والنظام، وجعل تلك العلاقة رهينة بمعطيات غير موضوعية، منها علاقات الاستلطاف الشخصي أو عدمه بين المسئولين الأعلى والصحفيين، واقتراب أو ابتعاد المسافة السياسية بين الشخصيات السياسية النافذة والمؤسسات الصحفية الخاصة أو حتى العامة. فعلى الصعيد السياسي كانت الفترة تضج بالتقاطعات والتعقدات بين أطراف الفعل السياسي في الساحة، فالإسلاميون المباشرون قيادة العمل التنفيذي فئة فاعلة، وبعض العسكريين في المجلس العسكري فئة ثانية فاعلة، والقيادات الإسلامية المسيطرة عن بعد فئة ثالثة فاعلة. وقد امتدت تقاطعات وتعقدات العلاقة بين الفئات الثلاثة إلى كل مجالات العمل التنفيذي والسياسي، حتى كادت –في بدايات التسعينيات- أن تقفز من وراء الستر والحجب التي ظل الحادبون يحرصون على إبقائها وراءه. وظل حال التقاطعات على قوة حتى انحساره عبر تطورين سياسيين، هما حل المجلس العسكري وذوبان قليل من أفراده في تيار الحكم العام، وملابسات المفاصلة التي شقت الجسم الانقاذي من منتصفه.
***
لا يمكن رسم لوحة تعبر عن ملامح الواقع الصحفي لتلك الفترة دون وضع الحال السياسي الذي كانت فيه الانقاذ في عشريتها  الأولى، خلفية لها.فالسنوات الممتدة من نوفمبر 89 وحتى  صدور قانون الصحافة 93، سادت الصحافة الحكومية - في شكل الإنقاذ والسودان الحديث- ساحة العمل الصحفي، وعكست بصورة لا تدعو لأي شك، واقعين عايشتهما الانقاذ في العشرية الأولى، أولهما تلك الحالة  النفسية التي وصفناها منذ الحلقة الماضية بتعبير "رهاب الصحافة المستقلة" ، وهي حالة التردد والوجل من إعادة تكرار سيناريو الديمقراطية الثالثة، حيث كانت الصحافة المستقلة فيها عنصراً من عناصر الضعضعة السياسية التي حاقت بالنظام الديمقراطي الثالث. أما الثانية، فهي بعض الوجل من الركون المبكر إلى السفور السياسي الذي وجد الإسلاميون أنفسهم مدفوعين إليه بتداعي الأحداث ومقتضيات التحكم في الدولة. فقد ظل النظام الجديد لمدى شهور عدة يتخير للمواقع التنفيذية من الشخصيات ما يمكنهمن المدافعة بهم بقومية التغيير، والإجابة بالنفي على سؤال تلك الايام الشهير عن هوية الحركة والمتحركين.
ولما كانت الصحافة، ووسائل الإعلام الأخرى- هي المرآة القمينة بكشف  حقائق الانتماء والهوية، فقد اجتهدت الانقاذ ما أمكنت على أن تكون في صحافتها الابتدائية، وفي وسائل إعلامها الأخرى، رسائل وإشارات توحي باتساع المواعين وتمدد مساحات الاستيعاب لغيرهم. فلم يكن مهماً بعد ديْنِ الدولة واستقرار السلطة، إلا أن تتسع مساحات الاستيعاب للغير ما أمكن، أو على الأقل أن يبدو الامر كذلك. ولهذا يمكن تفسير وجود يساري معجوم العود من مثل  محمد سعيد معروف على رأس الصحيفة الثانية، وصحفي يصعب تصنيفه في صف الحركة والمتحركين مثل محمود ابو العزائم على رأس تلفزيون الدولة، بينما أبقيت الصحيفة الثانية والإذاعة تحت قيادة مهنيين- تيتاوي وصالح محمد صالح-  يسهل وصفهم بالمهنية أكثر.
***
ومع عودة دواليب الحياة في البلاد إلى الدوران، انفتحت أبواب الصحيفتين لكتائب الصحفيين الذين ظلوا لأسابيع عدة بلا عمل. وكان واضحاً أن خطة الالتزام بالوجه القومي ستسود طالما كان على رأس الصحيفتين مهنيان كانا في ساحة الممارسة حتى آخر أنفاس النظام االديمقراطي. فقد هاجر إلى صحيفتي الإنقاذ والسودان الحديث، جماعات الصحفيين الذين كانوا ملح العمل الصحفي في أكثر من 40 صحيفة، وهم في غالبهم مهنيون أو أشباههم، لم تجمع، إلا بعضهم، بالحركة الإسلامية التزام تنظيمي.  ولا شك أن وجود معروف وتيتياوي – قبل الانقاذ- في إدارة صحفيتين جل محرريها مهنيون صرف، جعل طبيعاً أن تسود في الصحيفتين الجديدتين، كوادر صحفية من ذات الصحف التي كانا يديرانها، وهي كوادر يمكن تصنيف قليل منها بالالتزام بالحركة الإسلامية والمتحركين.  أما الصحفيون "النواة"core من ملتزمي الجبهة الإسلامية، فقد آثروا التواري لبعض الوقت، تمكيناً لسياسات المواربة حتى تطمئن النفوس. بينما لجأ الذين لم يستطيعوا صبر الابتعاد عن المهنة من تلك الفئة، إلى الكتابة بالمواربة، اسماء مستعارة أو حروفاً  توحي ولا تكشف.
وبعد عدة أشهر من حركة الانقاذ، كان الواقع الصحفي المجسد في صحافة الإنقاذ، يكاد يتطابق مع شكل الصحافة تحت النظام المايوي. فعلى صعيد النظامين، كانت هناك صحيفتان رسميتان، وصحيفة عسكرية سياسية، يعمل في جميعها مهنيون بالممارسة، وآخرون بالتأهيل الأكاديمي، ويغيب عن معظمهم وصفهم بتعبير كوادر صحفية ذات "التزام بالنظام السياسي". فالنظام المايوي، كانت تعمل في صحيفتيه كوادر من الصحفيين الذين امتهنوا الصحافة عملا وعلما، ولكنهم لم يكن لهم كثير انتماء بالاتحاد الاشتراكي. وصدق نفس هذا الواقع على الصحفيين العاملين في صحافة الانقاذ الأولى. فقد امتلأت الصحيفتان بكواردر صحفية دنيا ووسيطة لم تعرف الانتماء لحزب، ولم تنشغل القيادات الصحفية للدارين  بالبحث في أمر الانتماء السياسي للمنضمين إليها. 
وبمثل ذلك، وافق الواقع التطلعات، إذ تحقق للانقاذ بسط الوجه القومي عبر مؤسساتها الصحفية دون أن يكون ذلك نتاج خطة وضعت بليل.
ورغم قيام صحيفتين يتيمتين، حاولت الانقاذ أن ترسم شكلاً من أشكال التعددية في محتوى وتناول الصحيفتين. فلم يكن خافياً أن اختيار محمد سعيد معروف، ثم اختيار اسم "السودان الجديد" (قبل أن يعترض على الاسم أصحابه)، لم يكن ضربة لازب. فما من شك أن وجود اسم محمد سعيد معروف، بامتداد علاقاته بين الصحفيين والسياسيين والكتاب من كافة ألوان الطيف، يفتح الأبواب لكل المتحسسين من الكتابة في صحافة الإسلاميين، ليقترب من صحيفة يتصدرها اسمه بكل تاريخه الصحفي والسياسي. وهذه الحقيقة مجربة وموثقة، فكثير من الكتاب أصحاب المواقف السياسية المناهضة لحزب ما، يحبذون  الكتابة في صحف يعمل فيها صحفيون يقاربونهم في المواقف، حتى ولو كانت الكتابة رداً على مواضيع أثيرت في صحف لا يميلون نحوها.
رغم غياب الخط التحريري الواضح، لم يكن صعباً ملاحظة الفروق بين الانقاذ والسودان الحديث:  السودان الحديث برئاسة بعيدة عن الالتزام العقائدي، جرت إليها صفاً من الصحفيين الذين يمكن وصفهم بالمحترفين غير المسيسين، من مثل فتح الرحمن النحاس و النجيب قمرالدين.وانفتحت صفحاتها لعدد من الكتاب غير المعروف عنهم انحيازٌ أو منافحةٌ عن الحركة الإسلامية. أما الانقاذ فقد برزت في قيادتها التحريرية شخصيات يسهل ربطها بالإسلاميين، من مثل عبد الرحمن إبراهيم والنور أحمد النور ومحمد طه محمد أحمد، فصارت الصحيفة موطناً لعدد من الإسلاميين الذين أقبلوا بالوضوح نحو التبشير في حال، والدفاع عن مواقف الإسلاميين في حال آخر. وبذلك حاولت الانقاذ أن تفتح مسلكاً للتعددية في محتوى الصحافة، تجاوز به شك الأحادية التي كانت تميز صحافة مايو، والتي خنقها مبدأ " التبشير بمبادئ الثورة"ومنعها من أن تفتح أبوابها للرأي المخالف.
***
بعد أشهر قليلة من قيامها، وقعت الانقاذ على فكرة جهنمية أخرى لطرح وجهها القومي مقابل انحيازها السياسي الذي كانت ملامحه قد بدأت في التكشف. إذ صارت "مؤتمرات الحوار" هو سبيلها لطرح وجه جديد، ينم عن رغبة في توسيع مواعين التشاور –إن لم يكن التشارك. وقد جاءت تلك المؤتمرات لتكون، حسب وصف واحد من كاتبي المرحلة الملتزمين "أكبر حملة علاقات عامة للإنقاذ". فقد اتسع صدر الإنقاذ في تلك الحوارات حتى انفتح للأعداء التاريخيين للحركة الإسلامية من بعثيين وناصرين وشيوعيين.بل وكان بعض اليساريين والشيوعيين ذوي الشهرة هم اصحاب الصولة والجولة في تلك المنتديات، لعل أقربهم إلى الذاكرة عبد الله على إبراهيم، الذي ظل هو والإسلاميين على مواقف متعارضة منذ سنواته الطالبية. لقد انعقدت المؤترات تحت مسمى الحوار، وبدأت بمؤتمر الحوار الشامل حول قضايا السلام، وامتدت حتى مؤتمر "الحوار حول قضايا الإعلام". وكان مستوى الحوار في كل المؤتمرات بمستوى عالٍ من الصراحة، وصل إلى حد المجابهة في حالات كثيرة. فقد بدت حركة الحوار تلك وكانها مبشرات بفرجة في الحريات توشك أن تعم ، بها تتحول الانقاذ إلى شكل من أشكال الإنقاذ الحقيقي بعد سقطة اللبرالية المدوية خلال السنوات الثلاثة الماضية. 
ولما جاء مؤتمر الحوار حول قضايا الإعلام،ارتفعت أصوات كثيرة تطالب بما كانت تتحسب منه الانقاذ وتتحاشى الإشارة إليه، وهو عودة الصحافة المستقلة. وكانت أعلى الأصوات المطالبة بالعودة لمبدأ التعددية الصحفية،ورفع الهيمنة الحكومية من الصحافة، هي أصوات الإسلاميين، وخاصة الصحفيين والإعلاميين منهم. ولعل الصوتان الأكثر علواً في هذا الصدد كان الصحفيان محجوب عروة وحسين خوجلي. وهما المالكان لصحيفتين رأيناهما في الديمقراطية الثالثة قمرين من أقمار الجبهة الإسلامية. وينبغي إثبات القول هنا بأن محجوباً وحسين لم يكونا وحدهما، فقد شهدت جلسات المؤتمر أصواتاً عالية من  صحفيين مستقلين وغير متحيزين، مناداة بإقرار الحريات العامة ومن بينها حرية النشر والتملك.
كان مؤتمر الحوار حول الإعلام، واحداً من المعينات التي رسمت الرؤية الإنقاذية طويلة المدى لمستقبل ومكانة الصحافة في النظام المنتظر. ولعل اللذين شاركوا في المؤتمر يذكرون ارتفاع درجات الحرارة  في كثير من جلساته،  بفعل تباين مشارب المشاركين الفكرية، ومراجعهم السياسية، حتى بدت جلسات المؤتمر، وكأنها من بقايا مناظرات السياسة والفكر في أركان جامعة الخرطوم في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. 
إن الشاهد في ذلك المؤتمر، هو أنه فتح العيون– لمن آلت إليهم فيما بعد رسم استراتيجيات السياسات الإعلامية للحكم الجديد- على الواقع الذي ستكون عليه الصحافة في حال تبني التعددية الصحفية، من حيث علو الصوت، وقوة الطرح وإمكانات التأثير. ولعل المؤتمر قد دق – في ذات الوقت- ناقوس الخطر وأعاد لأذهان الراسمين استراتيجيات الانقاذ، دور صحافة الإسلاميين –في  تقويض أركان النظام الديمقراطي.  ولأنه لم يكن ممكناً لمن في يدهم رسم الاستراتيجيات، الإشاحة بكامل الوجه عن الصحافة المستقلة والتنكر لها ، إذ كانت تلك موعودات قالت بها قيادة التغيير، كما الزمت بها المنظومة الدولية، بعد أن أخذت منذ بداية الثمانينيات في تقطيب جبينها ضد كل واقعة استيلاءٍ على السلطة بليل، وكل كبح لصوت الصحافة.
لم تجد الانقاذ بداً إذن من أن تتسلك طريق وسطاً، يقربها من التعددية الصحفية الموعودة ما أمكن،  ولكنه يضع في يدها من الكوابح ما يقيها شروراً كانت هي أدرى بنواتجها ومالاتها.
***
آخذاً تلك المحاذير، ومدفوعاً بواقع دولي ضاغط، جاء قانون الصحافة والمطبوعات 1993، وهو يبشر في بند، ويحذر في آخر...
فالقانون ألزم بألا تكون الصحافة ملكاً لفرد، واشترط شركات عامة لذلك. 
والقانون ألزم تأميناً مالياً عظيماً –بقياس قوة شراء وقته-
والقانون قدم لائحة من الممنوعات والمحظورات،  أهمها وأعلاها مسائل الامن القومي، وقضايا الحرب ومسالك الجيش..
ثم وضع القانون جسماً تنظيمياً وعقابيا، أسماه مجلس الصحافة والمطبوعات، حارساً للبوابة- بوابة الولوج إلى المهنة-، ورقيباً على الممارسة والممارسين.
ثم فصل في لائحة العقاب على الأفراد وعلى المؤسسات: من النصيحة ولفت النظر، حتى الإيقاف وسحب الترخيص..
رغم الكوابح في متن القانون، استبشرت أمة الصحافة خيراً بالاتجاه الجديد، وارتفع سقف تطلعاتها وهي ترى في نفسها ما يمكن أن يشكل مستقبلاً لعمل صحفي مقتدر. 
وبالرغم من الملامح المايوية لتجربة القانون والدارين الصحفيتين الرسميتين، إلا أن فروقاً مهمة جعلت من تجربة الانقاذ الصحفية أقرب إلى حالة الانفتاح اللبرالي الأوسع..
أول تلك الفروق، أن القانون الصحفي الوليد (93) رفع  الصحافة عن الملكية العامة، وحفلت مواده بعبارات تتمثل الحرية وتؤمّن حقوق المعرفة والحصول على المعلومات 
وثانيها، أن الدارين – الإنقاذ والسودان الحديث- لم تكونا تحت سيطرة حكومية  تكبلها بالبيروقراطية التنفيذية المعتادة.
وثالثها، أنه جلس على قيادة الدارين والصحيفتين أشخاص كانوا بالفكر السياسي أقرب ما يكونون إلى الانفتاح واللبرالية، وأبعد ما يكونون عن لجم الألسنة وحجر الرأي.
بمثل تلك البيئة الإيجابية، بدا قانون 93 وكأنه على وشك أن يبشر بتجربة صحفية قد لا تكون شبيهة بأي من سابقاتها، لا تلك التي في سنين الديمقراطيات اللبرالية  الثلاثة، ولا في سنين العسكريتين، الصرفة الأولى، والثانية الخليط.
وبالرغم من الروح الإيجابية التي سرت في ساحة العمل الصحفي يومها، فإن الساحة  انفجرت بصحافة رياضية واجتماعية، بينما تثاقلت خطى الصحف السياسية التي آثرت، فيما يبدو، أن تتريث وتختبر "المياه الجديدة" التي ستسبح فيها.. فقد بلغت الصحافة الرياضية والاجتماعية اثنتى عشرة صحيفة ، بينما  بقيت الصحف السياسية الجديدة في ثلاث: "السوداني" و"ألوان" و"أخبار اليوم".
ومع البدايات، كانت الطموحات قد تطاولت، فظهرت بعض المقالات الناقدة، خجولة مواربة أول الأمر، ثم أطلت أقلام صمتت لبعض الوقت، وصرَّت على بعض الصحف أقلام "متمردة".
ورويداً رويداً بدت ساحة الصحافة السياسية وكأنها على وشك العودة إلى ما كان عليه الحال.. 
حتى كان يوم العاصفة..
***
عاصفة هوجاء هبت على نبتة الصحافة المستقلة الغضة، والتي بدت وكأنها على ابواب أن يقوى عودها، فاقتلعتها من الجذور..
ففي ليلة العاصفة تلك، ابتلعت الانقاذ قانونها، وخلعت عنها الرصانة، واستلت كافة الخناجر والمعاول..
في ليلة العاصفة،انقضت الانقاذ على صحيفة اعتبرها الجميع قمرا أصيلاً من أقمار الإسلاميين، رضعت من "ثدي" الحركة الحلوب حتى بشمت، وكانت أول الصحف الثلاثة الخاصة التي بادرت بشجاعة إلى خوض تجربة الصدور في بيئة محفوفة بالشك والريبة.  
نزلت الإنقاذ بالقاضية على "السوداني"، أول الألسنة الإسلامية التي نزلت الساحة بالمواربة منذ سنوات ثمانينيات النميري، ولم يشفع للسوداني أنها كانت الرائد الإسلامي الذي غامر بالعلن، وأنها كانت المختبر الذي تلمست به الحركة الإسلامية الأجواء والظروف..
وحين نزلت عليها، لم يكن للنازلة على السوداني أي شبيه نزل على الصحافة السودانية، إلا نازلة التأميم والمصادرة المايوية في أول عقد السبعيينات. فلم تمنع الانقاذ صحيفة السوداني من نشر المقالات ، كما درج عليه الحال، ولا أوقفت طباعتها، ولا منعت توزيعها..
بل قضت عليها قضاء مبرماً.. فصادرت دارها، ومطابعها، وأجهزتها
ثم جرت صاحبها إلى المحابس، فعرضته لمهانة الاستجواب على شاشات التلفاز متهماً بالتخابر..
ومهما كانت حدة المقال الذي أغضب القابضين على زمام البلاد يومها، فإن الشاهد في  ردود فعلهم عليه، هو أن الإنقاذ طوت خطواتها المتقدمة على طريق فتح النوافذ، وعادت القهقرى.
ففي الوقت الذي استبشر من استبشر بالقانون الأول، رغم كل المآخذ المشهودة، فإن الفعل أكد موقف الذين وقفوا حذرين من تجربة نظام يعطي نصف الحرية ويقبض في خناق نصفها الآخر.. 
***
ما الذي أزعج الانقاذ من مثل مقال  سطره قلم إسلامي آثر التكني في بداياته، وقال فيه ما قال وعارض فيه ما عارض؟ 
في التقدير إن الذي حدث هو سيطرة حالة "رهاب الصحافة المستقلة" التي وصفناها في حلقة سابقة، وهي الحالة التي ميزت تردد الانقاذ في أسابيعها الأولى تجاه السماح بعودة الصحف كما كانت قبل الثلاثين من يونيو.  إذ كانت الصحافة المستقلة هي نافذة المنقلبين على النظام الديمقراطي للولوج إلى المزاج الوطني وتحييده ضد النظام الديمقراطي عبر تصوير الحكم، والحكومة الحاكمة وقتها، بأكثر التصاوير سلبية وعجزا. ففي الوقت الذي بشرت الظروف السياسية التي صار إليها واقع الحكم عبر سنوات الانقاذ الثلاثة (89-93) بإمكان ابحار السفينة على بحر من السكينة السياسية، فإن بدايات التحول المتدرج من "التوالي" إلى التحزب الصراح، بدت وكأنها تبشر بانطلاقة على ساحة الحريات، تأخذ الصحافة نحو الآفاق المرجوة من الصعود إلى مصاف النضج.
بيد أن بعض مظاهر النقد الذي أخذت في التواتر، هنا وهناك، أيقظت في نفوس البعض الشكّاك اتجاه المآلات المحتمل لو تركت الأمور على ما هي عليه. فعلى صفحات "النصر" العسكرية بدأت بعض الاقلام في توجيه السهام الناقدة لمؤسسات وأفراد تقاربت المسافات بينهم وبين القمم السياسية، وهو أمر ذكرنا في الحلقة السابقة أنه جر للنصر لقب "صحيفة المعارضة" عند بعض الانقاذيين، وقادها بعد عام ونيف إلى التواري خلف أسوار القيادة العامة.  
ولكن يبدو أن مقالات "السوداني" هي التي مست عصباً حساساً وأيقظت مخاوف كامنة، وساقت النظام إلى حالة "انتكاسة" أعادت الرهاب ليسيطر على واقع العلاقة بين الانقاذ والصحافة..
وهو رهاب ظل، وما زال، يشكل كل ردود الأفعال التي تشهدها ساحة العلاقة بين الصحافة والدولة .. تستبدل القوانين بقوانين جديدة، ويظل الواقع يشير بقوة إلى الشكوك والريب التي تلون المواقف والقرارات.


mahmoudgalander@yahoo.com
///////////////

 

آراء