عرض لكتاب البريطانية ماري كينان “تلك الأرض القاسية الحارة .. ترجمة : بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 



عرض لكتاب البريطانية ماري كينان "تلك الأرض القاسية الحارة “That Hard Hot Land
جاك ديفيز Jack Davies
ترجمة : بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذه ترجمة لعرض مختصر لكتاب من تأليف البريطانية ماري كينان عن رحلة علمية قام بها، وبمبادرة فردية، ثلاثة من العلماء البريطانيين في عامي 1933 و1934م إلى السودان (وتحديدا دارفور وجبال النوبة والجنوب)  لجمع عينات من التربة والنباتات وتصنيفها. واستغرق تأليف ذلك الكتاب عقدا كاملا من الزمان. وسنعرض قريبا لمقال بقلم ذات الكتابة عن قيامها بتتبع آثار تلك الرحلة الطويلة التي قام بها ذلك الفريق العملي (وأحد أفراده يمت لها بصلة قرابة) في عام 2007م، أي بعد أكثر سبعين عاما من الرحلة العلمية الأولى. وكان ذلك العمل هو أحد أحلام حياتها، واضطرت كي تحققه لتغيير تخصصها في الجامعة لتدرس علوم الأحياء والبيئة كي تدرك تماما  أبعاد مهمة تلك الرحلة العلمية.
ونشر هذا العرض في العدد الرابع والأربعين المجلة البريطانية "دراسات السودان Sudan Studies"، والصادر عام 2011".
المترجم
*********   **********         ********    **********
 
هذا عمل رائد ينم عن حب فائق من جانب ماري كينان، قامت فيه، وبإخلاص عميق وقدر كبير من العزيمة والاصرار، بتتبع مصادر المعلومات التي شملها الكتاب.
ويبحث هذا المُؤَلَّف في شأن حملة بريطانية لجمع (وتصنيف) النباتات وعينات التربة  قام بها بين عامي 1933 – 1934م فريق بريطاني بقيادة سيسيل جريهام  موريسون (من جامعة أكسفورد) في صحبة دينستات سكيلبيك (من جامعة أكسفورد أيضا) وجيمس إدجار داندي (ابن خالة المؤلفة، والذي غدا فيما بعد مسئولا عن قسم علم النبات بالمتحف البريطاني).
وأفلحت ماري كينيان في الحصول على مذكرات داندي الغزيرة المعلومات، والتي سطرها بخط يده في مئات الصفحات، والتي ضمنها أيضا نحو 350 صورة فتوغرافية التقطتها خلال تلك الحملة العلمية بكاميرا كانت دوما في رفقته حيثما ارتحل. وقامت ماري كينان أيضا بتحرير تلك المذكرات وضمنتها ذلك الكتاب مع غالب الصور التي التقطها داندي.  وبالإضافة لذلك بحثت ماري كينان عن مذكرات سكيلبيك عن تلك الرحلة العلمية، وعثرت عليها وقامت بتحريرها أيضا.
 ويبدو أن سيسيل جريهام  موريسون لم يقم هو شخصيا بكثير من الأعمال الحقلية (شأن كل القياديين! المترجم) بل ذهب مع فريقه لمدة قصيرة، وآب لبريطانيا على عجل تاركا مهمة جمع التربة والنباتات وتصنيفها لزميليه!
واتصفت مذكرات داندي بأنها ركزت على الحقائق المجردة، وما تم إنجازه بالفعل في تلك الحملة. غير أن مذكرات سكيلبيك كانت أكثر استطرادا في جانب الملاحظات العامة والآراء الشخصية عن مصاعب الحياة بالنسبة للمسئولين البريطانيين والسودانيين في ذلك الوقت (ثلاثينيات القرن الماضي). واقتبست المؤلفة عنوان الكتاب من جملة وردت في مذكرات سكيلبيك هي: That Hard Hot Land.
لقد كان سكيلبيك معجبا، على وجه العموم، بما تم إنجازه من عمل بحثي رفيع المستوى. غير أنه أبدى تبرمه وضيقه الشديدين من سلوك بعض الموظفين البريطانيين الأبوي والمتعالي والمتعجرف.  ووبخته ذات مرة الرحالة الرومانية (واسمها الأميرة هنداري) على ما سجله من انتقاد لاذع للموظفين البريطانيين وقالت له: "أنتم يا أيها الإنجليز تبعثون بأفضل ما عندكم من موظفين لبلاد كهذه (وتقصد تحديدا جنوب السودان)، بينما ترسلون أسوأ ما لديكم لأماكن أخرى".
وبدأ الفريق البحثي عمله بعد وصوله للأبيض بالقطار. ومنها ساروا غربا نحو الفاشر عبر طريق بري شديد الوعورة مليء بالقيزان الرملية.  ووصف سكيلبيك ليلة عيد الفصح (الكريسماس) والتي مرت عليهم وهم في "ود بندة" بأنها كانت ليلة "قاسية البرودة". ووصلوا أخيرا إلى "جبل مرة" والتي أعجبوا بها كثيرا، ووصفها سكيلبيك بأنها "منطقة جميلة ومثيرة للانتباه بجبالها، ولا تخلو من بعض توحش". ووجدوا قمة "جبل مرة" منطقة شديدة البرودة يكسو سطحها الصقيع. غير أن ذلك لم يثنهم عن الاستحمام في أحد بحيراتها البركانية. وأورد سكيلبيك في مذكراته أن فراش استراحة كبكابية كان يحمل أربع ميداليات نالها من العمل أولا جنديا في جيش هكس باشا، ثم "حول رحله" وهجر جيش ذلك الجيش وأنضم للمهدي.
وتأمل سكيلبيك في حال التعليم في السودان وتساءَل عن أهدافه ومراميه وغاياته. وكتب في مذكراته ما يلي: "التعليم ... نعم. ولكن كيف ولم؟  لا ريب عندي أن كلية غردون عمل خاطئ. سيصعب جعل الشاب السوداني الذي تثقف / تحضر في مصر، ثم في إنجلترا لاحقا أن يتوافق أو ينسجم (مع مجتمعه السوداني).  لا يوجد لمثل ذلك الشاب مكان في بلده ... يجب أن يأتي التعليم الفني أولا... يجب أن يسبق كل ما عداه".  وتأمل أيضا في أمر "خلق دولة سودانية" وكتب يقول في مذكراته: " ليس في جبل مرة أي نوع من الولاء للأمارة ... و"السودان" هنا لا يعني شيئا".
ثم رجع أعضاء الفريق البحثي إلى الفاشر، ومنها توجهوا إلى جبال النوبة ليكملوا عملهم في وسط البلاد.  ثم استقلوا  بعد ذلك الباخرة من تونجا إلى جوبا ليكملوا أبحاثهم في أكثر المناطق ثراءً بالغابات في السودان، ومنها صوبوا نحو الغرب إلى "ياي".  وشملت جولات تلك البعثة العلمية  منطقة "أبا" في الكنغو البلجيكي لمقابلة بعض العلماء من أصحاب الاهتمامات البحثية المشتركة.   ثم ارتحلوا غربا ووصلوا إلى "يوبو" حيث التقوا هنالك بمسئولين فرنسيين. وبعد ذلك آبوا إلى واو حيث أضطر داندي لترك سكيلبيك في رعاية أحد الأطباء بعد أن ألمت به علة منعته من مواصلة الترحال. ولم يتقابلا بعد ذلك إلا في الخرطوم قبيل موعد عودتهم جميعا إلى أرض الوطن عبر مصر.
لا شك أن سكيلبيك  وداندي كانا  قد لاحظا وبإعجاب كبير  قدرة الموظفين البريطانيين على تحمل شظف العيش وصعوبة الحياة في "تلك الأرض القاسية الحارة"، ونوها بإنجازاتهم فيها. وأشادا كذلك في مذكراتهما بالمضمدين والممرضين في القرى، وبالأطباء السوريين، وبالخدمات الصحية  على وجه العموم. وكانت  تجربة سكيلبيك الشخصية إبان مرضه خير معين له لتقدير الخدمات الصحية بالبلاد.  وكانا معجبان أيضا  بالتجار الإغريق الذين جلبوا تجارتهم لأماكن قصية صعب على غيرهم الوصول إليها، وبدماثة خلق السودانيين وحسن معشرهم ولطفهم وكرمهم الزائد.
إن هذا الكتاب عمل ممتاز وبالغ الفائدة. فبالإضافة لما قامت به ماري كينان من جهد في تحرير مذكرات وإشارات الرجلين الحقلية، فقد قامت أيضا بكتابة سير للأعلام الذين قابلهما العالمين سكيلبيك وداندي خلال تجوالهما بالبلاد، والذين وردت أسمائهم متفرقة في ثنايا الكتاب.
 ولعل الأهم من ذلك كله هو تضمين كتابها لكل الصور الفريدة التي التقطها داندي. ولو قدر لذلك الرجل أن يرى كتاب قريبته هذا، لملأ الفخر جوانحه.    
    
         

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء