أضحوكة المحكمة الهجين الأفريقية لـ “دولة” جنوب السودان (1-2)
ushari@outlook.com
أولا،
الاستعمار الأفريقي الجديد
(1)
يتعين على المثقفين في مساحات ما تبقى من دولة جنوب السودان أن يرفضوا الاستعمار الأفريقي الجديد من قِبل مجموعة دول الإيقاد (الهيئة الحكومية المشتركة للتنمية) ومن الاتحاد الأفريقي، الاستعمار المتمثل في "المحكمة الهجين"، هجين بمعنى التعددية في مصادر قانونها وفي تركيبها، وقد قررت تشكيلَها دولُ الإيقاد باتفاقية فض النزاع في جمهورية جنوب السودان، وأوكلت الإيقاد للاتحاد الأفريقي أمر تنفيذ هذه المحكمة مستقلةً عن قضائية الجمهورية، لمحاكمة الأشخاص الذين اقترفوا "جريمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب" من الفترة بعد يوم 15/12/2013 حتى نهاية الفترة الانتقالية [المتوقعة].
وقَّع رياك مشار على هذه الاتفاقية، وقال في بيان سأعرض له في المقال الثاني إنه تم فرض الاتفاقية عليهم فرضا. ثم وقَّع سلفا كير ميارديت وقال إنه يوقع على الاتفاقية لكن لديه "تحفظات" عليها، رفضتها الترويكا الراعية (أمريكا وبريطانيا والنرويج).
(2)
أضافت الإيقاد لاختصاص المحكمة "جرائم أخرى خطيرة تحت القانون الدولي ومتعلقة بقوانين جمهورية جنوب السودان بما في ذلك جرائم العنف الجنسي والجرائم القائمة على أساس الجندر".
فيمكن أن نفهم بـ "الجرائم الأخرى الخطيرة تحت القانون الدولي" أن المحكمة الهجين مختصة أيضا بالنظر في جرائم الفساد في أبعادها عبر الحدودية، كجرائم غسيل الأموال وإخفاء الأرصدة المنهوبة في البنوك الأجنبية، مما كان أصلا أشار إليه سلفا كير في رسالته لكبار المسؤولين.
ويورد النص في الاتفاقية أنه "يجوز للمحكمة الهجين أن تأمر بمصادرة الممتلكات والعائدات والأرصدة المُتَحصَّل عليها بطريقة مخالِفة للقانون أو بالسلوك الفسادي، ثم إعادتها إلى أصحابها الحقيقيين أو إلى دولة جنوب السودان".
(3)
كذلك حددت الاتفاقية فلسلفة المسؤولية الجنائية والإدانة والعقوبة لتكون موجهةً ضد "كل شخصٍ خطَّط أو حرَّضَ أو أمرَ أو اقْتَرفَ أو أعانَ أو حَثَّ ..." بشأن الجرائم العالمية المحددة أعلاه، وكذا مسؤولٌ جنائياً كلُّ شخص "تآمر أو شارك [بالاتفاق الجنائي] في "مخطط إجرامي مشترك" لتنفيذ تلك الجرائم المحددة أو للإعداد لها أو تنفيذها.
ونصت اتفاقية السلام على أن "لا أحد يمكن استثناؤه من المسؤولية الجنائية على أساس وظيفته الرسمية كمسؤولٍ حكوميٍ، أو على أساس أنه موظفٌ منتخبٌ، أو بتقديم دفع على أساس الانصياع للأوامر العليا".
(4)
لابد أن نفهم من أعلاه أن المقصودين بالمحكمة الهجين هم سلفا كير ورياك مشار، بالإضافة إلى عدد مقدر من الوزراء ومن كبار المسؤولين والقادة العسكريين وقادة الحزب الحاكم، بالإضافة إلى المسؤولين القبيليين في المستويات العليا والمتوسطة.
والمقصود كذلك الزَّبانيةُ الذين نفذوا مباشرةً أفعالَ التقتيل والاغتصاب والتعذيبِ وتشويه الأعضاء والتمثيل بالجثث والنهب وتشريد المواطنين من مساكنهم، والذين اقترفوا الأفعال غير الإنسانية من نوع قسر الأفراد من القبيلة الأخرى على امتصاص دم القريب المجرَّح، وعلى أكل اللحوم البشرية المشوية لأولئك الأقارب والأحباء، بالإضافة إلى نبش الجثث من قبورها وإطلاق الرصاص عليها. ولذلك صويحبات في تاريخ العنف الجماعي في السودان القديم ما بعد الحداثة وفي غيره من الدول، فيجب أن لا نستغرب هذه الفظاعات بل أن نتفكر في دلالاتها وفي أسبابها العميقة وفيما يتوجب اتخاذه من تدابير بشأنها.
(5)
وجاء أيضا في الاتفاقية أن الأشخاص الذين سيتم تقديم الاتهام إزاءهم أو تتم إدانتهم بواسطة المحكمة الهجين لن يكونوا مؤهلين للمشاركة في الحكومة الانتقالية للوحدة الوطنية، أو في الحكومات التي تعقبها لفترة يحددها القانون، بل إن من وُجِد مشاركا سيفقد وظيفته.
كذلك نصت الاتفاقية على أن تنفيذ المحكمة الهجين التخويلَ الممنوحَ لها سيترك "إرثا دائما في دولة جنوب السودان". واضح أن هذه اللغة مأخوذة من تجربة محكمة سيراليون الخاصة التي قُصِد بها إحلال ثقافة المحاسبية وتثقيف شعب سيراليون والنظام العدلي في البلاد.
ثانيا،
الوعد الاستعماري الكاذب
(1)
يبدو للوهلة الأولى، من ظاهر النص الواضح في اتفاقية الإيقاد لفض نزاع جنوب السودان، أنا على مشارف حقبة جديدة في مجال حقوق الإنسان والعدالة والمحاسبية، ليس فقط في جمهورية جنوب السودان بل في أفريقيا بطولها وبعرضها. وقد رحب كثيرون بقوة لغة الاتفاقية بشأن المحكمة الهجين وعقدوا عليها الأمل العظيم.
لكني أراه محض خداع وكذب، من قبل الإيقاد ومن قبل الاتحاد الأفريقي. للأسباب في الأجزاء التالية في هذا المقال وفي المقالات التي تأتي.
(2)
ليس مهما الآن أن هذي المحكمة الهجين المقترحة لن تقوم لها قائمة، لأسباب سأعرض لها هنا وفي المقال التالي، موضوعه رياك مشار وسعيه لتدمير فكرة المحكمة الهجين. ولا يهم أنها، كمحكمة محتملة، وحتى كفكرة، تؤرق سلفا كير ورياك مشار المسؤولَيْن الأوَّليْن عن الجرائم العالمية، وهما مسؤولان بسبب قاعدة القانون الجنائي الدولي عن "مسؤولية القيادة"، القاعدة أو هي "العقيدة" المحمولة بافتراض تَحَكُّم القائد العسكري أو السياسي في مرؤوسيه المُنفِّذين المباشرين وغير المباشرين للأفعال الإجرامية، وبأن القائد كان على علم، أو كانت له أسباب ليكون يعلم، أن الأفعال الإجرامية كانت وشيكة الوقوع، أو أنها وقعت فعلا، وأن هذا القائد فشل في اتخاذ التدابير الضرورية والمعقولة لمنع الأفعال الإجرامية، وفشل في معاقبة مقترفيها. وكله من الفقه الثابت المتطور منذ المحكمة الدولية ليوغسلافيا عبر المحكمة الجنائية الدولية وقبلها في فقه المحاكم بعد الحرب العالمية الثانية.
(3)
لقد قرأ كل من سلفا كير ورياك مشار والقادة العسكريون ومديرو المخابرات والأمن والوزراء هذا الفقه عن "عقيدة مسؤولية القيادة"، وقد رأينا وسمعنا وقرأنا كل واحد منهم يقدم رواية معقدة أو غير قابلة للتصديق عن أحداث التطهير العرقي ضد النوير في جوبا بالتقتيل وبالتشريد، أو عن المذابح الإبادية للدينكا بواسطة ميلشيات النوير بما فيها مليشيات الجيش الأبيض. رأيناهم وسمعناهم وقرأناهم في المؤتمرات الصحفية والمقابلات، خاصة المقابلات المسجلة مع لجنة التحقيق من الاتحاد الأفريقي. كان هؤلاء القادة مدركين أن المحاكمات الجنائية تلوح في الأفق. وفيما بعد تحققت مخاوفهم حين قرأوا أن الإيقاد وضعت المحكمة الهجين في قلب الاتفاقية التي وقع عليها سلف ورياك صاغرَين.
لكني، كما أسلفت، أطمئن هؤلاء القادة أن المحكمة الهجين لن تقوم لها قائمة. وإنما أهل جنوب السودان هم الذين سيخضعون هؤلاء القادة للمحاكمة، يوما، طال الزمن أم قصر. لأن العالم تغير، ويظل يتغير، ولم يعد بالإمكان التحجج بخصوصية ثقافية، أو بسياقية أفريقية مثل التي يروج لها البروفيسور محمود مامداني، أحد أعضاء لجنة التحقيق. ولنا في ملاحقة النازيين حتى بعد أن تجاوزت أعمارهم التسعين عبرة. لأن العالم يتغير.
(4)
إن الأمر الجوهري المهم عندي هنا هو الطبيعة الاستعمارية للمحكمة الهجين، ولاتفاقية السلام ذاتها، ولتقرير خبراء المفوضية الأفريقية عن أحداث جنوب السودان، والتقرير في الرأي المنفصل الذي كتبه عضو اللجنة محمود مامداني، وافتقار دول الإيقاد والاتحاد الأفريقي لأية مشروعية أخلاقية يُعتد بها ليقترحوا شيئا لشعب جنوب السودان، أو لنصدق أقوالهم ذات الهول في النص المتعلق بالمحكمة الهجين في الاتفاقية.
(5)
ما صدَّق أهلُ جنوب السودان أنهم بالانفصال تخلصوا من الاستعمار العربي الإسلامي بعنصريته ومذابحه واستعباده، إلا ووجدوا أنفسهم أمام حقيقة عصابات محلية متنفذة تكالبت على نهب أموال البترول، باعتراف سلفا كير وبشكواه العلنية ومطالبته الوزراء السَّرَقة أن يعيدوا بلايين دولارات المال العام التي استولوا عليها بالاحتيال، وكذا وجد أهل جنوب السودان أنفسهم عراة حفاة بدون تعليم أو صحة، أو أمن غذائي، وبدون حريات أو مشاركة ذات معنى في اتخاذ القرار.
وفي الرأي المنفصل عن تقرير تحقيق لجنة مفوضية الاتحاد الأفريقي ما يشير إلى أن سلفا كير ذاته فاسد له شركات وتعاملات نهبية (الفقرة 117). تَعلَّم من عمر البشير.
باختصار، وجد أهل جنوب السودان أنفسهم تحت نير استعمار داخلي ظل يُثَبِّت أركانه تحت ستار الادعاء باستحقاق للصفوة التي اختارت نفسها واستمدت شرعية صفويتها من تاريخية بطولة الحركة الشعبية والجيش الشعبي في نيل الاستقلال.
وما المذابح القبيلية، والبشاعات الوحشية، وتشريد أكثر من مليوني مواطن، وتقويض مقومات الحياة ذاتها إلا النتاج الحتمي للصراع بين العصابات لأغراض الاستحواذ الكامل على جهاز الدولة كالوسيلة "القانونية" المعتمدة في أفريقيا لنهب الموارد، هنا عائدات البترول وخمش الأراضي والتمكين للأقارب والمحاسيب بالوظائف الحكومية ليس مهما أن يؤدوا أي عمل.
(6)
فالفساد عصب مشكلة جنوب السودان. وينبغي أن يكون العامل الأساس في كل تكييف أو مقترح أو توصية لحل المشكلة، ولحل كل مشكلة. بل لا يوجد حل لمشكلة جنوب السودان إلا بحل مشكلة الفساد أولا ودائما، والفساد شخصيا هو الذي قتلَ وذبحَ وبشَّعَ وعذَّبَ وحرقَ واغتصبَ ونهبَ وشرَّد.
ما أن يتم استيعاب هذه الحقيقة البسيطة عن أن الفساد يقتل إلا ويبدو كل أمر واضحا مقدورا عليه، بل إن المشكلات ستكون تقنية وخاضعة للبرمجة وللمحاجة العقلانية. أما بعدم فهم قدرة الفساد على التقتيل، وبدون تقديم موضوع الفساد على رأس القائمة ليكون الفساد هو الهم القومي الأساس، لن تتغير أوضاع جنوب السودان. لأن الرؤية لن تكون واضحة، وسيكون كل خطاب من كل طرف مبهما مغلفا فيه تدليس وخداع وكثير هراء. مثلا، لا قيمة لأي خطاب عن حل المشكلة يقدمه وزير فاسد، لأن دماغه سيكون مشغولا بالخوف من نزع الأرصدة التي كان نهبها، ومشغول كذلك بالفرص المتاحة لمزيد نهب. فانظر وتفكر في خطاب كل من تم اتهامه بأنه فاسد. تجده إما يتصنع الهدوء، أو هو ينفعل، لكنه لا ينتج غير الهراء عن حل مشكلة جنوب السودان.
(7)
تستخدم كل عصابة لتحقيق أغراضها الفسادية ما تجده في محيطها من أدوات. كانت القبيلية، والعنصرية، والتقتيل مع ضمان الإفلات من العقوبة، هي الأدوات المتاحة في كل مكان في مساحات الجمهورية الجديدة. وجد المتصارعون ولديهم القبيلة ذات الموارد الرمزية ومعرفة تكنولوجيا العنف الجماعي وذاكرة الانتقام أن كل ما عليهم فعله هو أن يغترفوا من المخزون العام للأدوات المتاحة، فملأ كل منهم قِدْرَ شرِّه ونفَّذ العمليات الإجرامية وغير الأخلاقية الضرورية التي أسهمت بصورة مباشرة أو غير مباشرة في مقاربة تحقق الهدف الأكبر، هدف الاستحواذ على أجهزة الدولة، فقط لأن هذه الأجهزة هي الوسيلة الوحيدة المتاحة للوصول إلى عائدات البترول.
ويظل ذات التفكير الإجرامي قائما اليوم، لأنه لم يتغير باتفاقية الإيقاد شيء في جنوب السودان. فقط هي هدنة لترتيبات التغطية على الجرائم العالمية، وفرصة إضافية للبدء من جديد، من الأول، في عملية النهب، هذه المرة بصورة أكثر ذكاء.
(8)
فالآن، بنهاية مشروع جون قرنق وتمزيق هذا المشروع في محرقة انهيار دولة جنوب السودان، وتناثر الجثث المُمَثَّل بها في فضاءات الأرض المحررة من المجاهدين، جاء دور صقور الأجياف (جميع جيفة)، الصقور دول الإيقاد الفاشلة، من نوع السودان، والصومال، وإرتريا، وكينيا، وجيبوتي، وحتى يوغندا وأثيوبيا، سبعتُها قررت أن تجرب حظَّها في فرض استعمار جديد على مواطني جنوب السودان. بالاتفاقية ذات المكونات بدون شرعية، أهمها ما أركز عليه في هذا المقال، المحكمة الهجين التي لن تكون.
ثالثا،
المحكمة الهجين المقررة من دول الإيقاد
(1)
لا يمكن أن نقرأ النصَّ في اتفاقية الإيقاد عن المحكمة الهجين إلا في سياقه. ويتعلق هذا السياق في جزء مهم منه، فله عدة مكونات أخرى دولية ومحلية، بطبيعة دول الإيقاد. إذ ليست لهذي دول الإيقاد السبعة منفردة أو مجتمعة أية مشروعية أخلاقية لإنشاء هذه المحكمة الهجين، أو أي حق في فرضها على شعب جنوب السودان، رغم أن حكومة جنوب السودان هي العضو الثامن في الإيقاد.
وأقصدُ فرضَ المحكمة الهجين بحجة محاكمة الجرائم العالمية الثلاثة، وجرائم العنف الجنسي، بالإضافة إلى حجة الإيقاد الخبيثة عن همها باسترداد الأرصدة المالية المنهوبة من جنوب السودان، خاصة وأن بعض قادة دول الإيقاد سَرَقةٌ للمال العام معروفون في بلادهم، ومنهم من مارس النهب عبر الحدود الدولية.
(2)
فأتركُ أمرَ دولة السودان الأمرها معروف في الجرائم العالمية، بما فيها جرائم الفساد. رئيسها وكبار قادتها هاربون من العدالة في المحكمة الجنائية الدولية متهمون بمثل ذات أفعال سلفا كير ورياك مشار وقيادات الحركة الشعبية لتحرير السودان. وقد نهب المثقفون الإسلاميون المتحالفون مع العسكر الموارد المالية وخزنوها في ماليزيا والصين والإمارات وفرنسا وفي غيرها من دول ذات بنوك فاسدة.
ودعك من الصومال لا معنى لذكرها أصلا فهي ليست بدولة من أي نوع وليس لها من قرار وطني. ومن كينيا بأهورو كينياتا المسؤول عن قتل أكثر من ألف مدني من معارضيه، نجا من المحكمة الدولية لأسباب سياسية. ودع عنك هوس أسياس أفورقي الطاغية معذب شباب إريتريا. وتَذكَّرْ أمرَ الدولتين المتنطعتين، أثيوبيا التي يضطهد قادتها الأورومو المسلمين يقتلونهم وينهبون أراضيهم، ويوغندا تحت حكم الديكتاتور موسيفيني الحاكم على مدى ثلاثين عاما، أطول من فترة عمر البشير ذاته المرعوب من فطومة، نهب جيشُ يوغندا موارد الكونغو، وظل موسيفيني يضطهد الأشولي في شمال يوغندا، لا فضل له إلا برنامجه الناجع لمكافحة مرض الإيدز بين الشباب، حسنته الوحيدة لابد من أن نذكرها. ودونك أطماع هذي دول الإيقاد في صناعة الفساد بالجمهورية البترولية.
(3)
باختصار، لا شرعية أخلاقية لأية واحدة من دول الإيقاد لتقترح على شعب جنوب السودان أمرا في مجال حقوق الإنسان أو بشأن العدالة أو المحاسبية على الجرائم بما فيها جرائم الفساد، سعيها مشكور بالمبادرة للتوسط بين قادة الدينكا والنوير ممثلي العضو الثامن في الإيقاد، وقد خففت الاتفاقيةُ المُوقَّع عليها من حدة النزاع. الآن ينبغي لكل واحدة من هذي دول الإيقاد أن تنظر في مرآتها لتتعرف مجددا على اهترائها الأخلاقي. ثم أن تتوقف عند حدها وأن تنصرف عن تَصَنُّعِ هَمٍ بتنفيذِ بنود هذه الاتفاقية الاستعمارية بشأن محكمة هجين للجرائم العالمية. ولا قيمة للقول المرسل عن المداولات والمشاورات أو مشاركة مجتمع مدني، أو عضوية الجمهورية في الإيقاد.
فحجتي أخلاقية، ومتعلقةٌ بوقائع السياق. حتى لا ننخدع باللغة في الاتفاقية. ما أن نتذكر أن عمر البشير يقف بقوة وراء النص في الاتفاقية عن محكمة هجين تحتكم للقانون الجنائي الدولي، حتى نعرف أن الأمر خدعة.
رابعا،
المحكمة في سياق الاتحاد الأفريقي
جاء تحشر الاتحاد الأفريقي في أحداث جمهورية جنوب السودان حين قرر الرؤساء الأفارقة المجتمعون في دويلة غامبيا إنشاء لجنة لتقصي الحقائق في جمهورية جنوب السودان، مما يُحمد لهم مبدئيا.
(1)
لكن، فلنتذكر دائما "الاتحاد الأفريقي" الذي قيل في الاتفاقية إن المحكمة الهجين ستنشأ في سياقه وبإدارته. فهو اتحاد حكام أفريقيا الطغاة الفاسدين أمرهم معروف. وبمقاييس حكم القانون والديمقراطية والتاريخ القريب الحاضر في الجرائم ضد الشعوب، خذ أية واحدة من دول أفريقيا الأخرى غير السبعة أو الثمانية في الإيقاد، الكبرى أو الصغرى، وتأمل: نيجيريا، مصر، غانا، جنوب أفريقيا، غامبيا، مالي، تشاد، الكونغو، ليبيا، الجزائر، زمبابوي، وغيرها من الخمسين باستثناءات قليلة لا يتذكرها أحد إن طُلب منه أن يتذكرها (ربما بتسوانا وزامبيا).
فلا تجد في أغلبية الدول الأفريقية غير العصابات الإجرامية الحاكمة تضطهد شعوبها، وتستحوذ بالكامل على الثروات، وتكبل الحريات، هواية قادتها من الحكام الطغاة تغيير الدستور ليتاح لهم ولعصبتهم الاستمرار في صناعة الفساد الإجرامي.
(2)
فلمزيد إثبات خدعة الاتحاد الأفريقي، وخدعة دوله، ونحن بصدد المحكمة الهجين للجرائم العالمية، يمكن لنا أن ننظر في الموقف من المحكمة الجنائية الدولية، تحديدا بشأن عمر البشير عضو الإيقاد الثابت أن قواته العسكرية اقترفت جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب في دارفور، والنيل الأزرق، وجبال النوبة. وقد تم توجيه الاتهام له ولكبار مساعديه بشأن دارفور، وأرسلت المحكمة الجنائية الدولية أوامر القبض عليه إلى الدول الأفريقية أعضاء الاتحاد الافريقي والأعضاء في اتفاقية روما القائمة عليها المحكمة الجنائية.
نتذكر كيف سهلت هذه الدول الأفريقية لعمر البشير الإفلات من العقوبة على الجرائم العالمية الخطيرة. دولة الكونغو، حين جاء عمر البشير لحضور اجتماع الكوميسا في كينشاسا؛ وقبلها سوابق من تشاد وجيبوتي وكينيا ونيجيريا زارها عمر البشير بسلام وخرج منها بسلام رغم تنبيه المحكمة الجنائية الدولية لها أن تلقي القبض عليه. فاستخدمت جمهورية الكونغو الديمقراطية السوابق الأفريقية تكأة لتفعل مثلما فعلت سابقاتها. وانتهى الأمر إلى جنوب أفريقيا ذاتها، مما كان فرصة ليعرف أهل أفريقيا إن الدولة التي تحررت من التمييز العنصري وهمٌ كبير، حكومتها فاسدة واحتيالية تحمي الجريمة العالمية.
فهل نتوقع أن تلقي دولة أفريقية القبض على سلفا كير إذا أدانته هذي المحكمة الهجين، على افتراض أنها ستكون؟
فالأمر كله متمحور في قاعدة "حصانة الرؤساء". مما فهمه عمر البشير وتشبث بالسلطة محتمِيا بالقانون الدولي ذاته. وهو ما سيفعله سلفا كيير أيضا، سيشبث بالسلطة حماية لنفسه من أية ملاحقة جنائية. وكذا رياك مشار يريد الرئاسة، هذه المرة، فقط ليحمي نفسه من الملاحقة الجنائية. كلاهما سيستميت في أن يكون الرئيس. لأن في ذلك الضمانة الأفريقية أن الطغمة التي يرأسها لن تتجرأ على مجرد التفكير في تسليمه للمحكمة الهجين. وسيدعمه الاتحاد الأفريقي فلن يخضع لأية ملاحقة قضائية مهما كانت فظاعة جرائمه.
ستجعل المحكمة الهجين، والاتفاقية، والتقرير من الاتحاد الأفريقي، ومجمل السياق، كلها ستجعل القادةَ في جنوب السودان يُسَعِّرون صراعهم للسيطرة على جهاز الدولة، ليس فقط لأجل النهب، بل كذلك أيضا لحماية أنفسهم من الملاحقة الجنائية بمحكمة أفريقية صفيقة.
(3)
لا يعني أي من ذلك أعلاه أن المشكلة في جنوب السودان بسيطة فداخلية، لكني أرى أن حلها لن يكون عبر بوابة الاستعمار الأفريقي الجديد كما تمارسه "دول" مثل السودان والصومال وإرتريا ومن لف لفها ليس من بينها من له شرعية من أي نوع لاقتراح أمر في مجال العدالة أو احترام القانون أو مكافحة الفساد.
أو، كما الاستعمار الأفريقي الجديد يمارسه طغاة أفريقيا في تحالفهم مع الامبريالية، نعم ذاتها "الامبريالية" المعروفة مند الستينات لم يتغير منها شيء غير الآليات الأكثر نعومة أو خشونة، وغير بروز المنظمات الطوعية العالمية، ومنظمات الأمم المتحدة، والجمعيات المسيحية، ومؤسسات الدعوة الإسلامية، وبيوت الخبرة الأجنبية كأدوات مستحدثة للاستعمار الجديد. مما ينقلني إلى لجنة التحقيق المُشَكَّلةِ من قبل الاتحاد الأفريقي.
خامسا،
لجنة التحقيق التي شكلها الاتحاد الأفريقي
(1)
جاءت لجنة التحقيق وتقريرها معبران عن طبيعة الاتحاد الأفريقي، كاتحاد حكام طغاة فاسدين. من حيث عضوية اللجنة، والاعتبارات السياسية غير الأخلاقية التي شكَّلَت رؤيتها التي رسمتها رئيسة المفوضية الدكتورة نْكوسازانا دْلاميني زُوما، ومن حيث المغالطات والتدليس في تقريرها الأساس. لكن أفضل انعكاس لطبيعة الاتحاد الأفريقي تتمثل بصورة معقدة في الرأي المنفصل المخالف الذي كتبه أحد أعضاء اللجنة الأستاذ الجامعي اليوغندي-الأمريكي محمود مامداني، تُحبُّه مفوضية الاتحاد الأفريقي أيما حب، يعجبها خطابُه المغلف بفكرته عن "سياقية أفريقيا"، وأن الحل "حل أفريقي" دائما، وأن الغرب امبريالي، وأن المحكمة الجنائية الدولية غير مقبولة لا شرعية لها، وأن التاريخ والثقافة المحلية مهمان.
ولك أن تفهم من ذلك سبب العقود تنهال على مامداني من الاتحاد الأفريقي كلما ظهرت في أفريقيا أزمة جديدة ذات أبعاد عالمية.
(2)
لنتذكر أيضا السلوكيات غير الأخلاقية لدى رئيسة مفوضية الاتحاد الأفريقي التي أخفت التقرير أرادت التدليس عليه، وهو تقرير متعلق بالشأن العام كان يجب أن يكون علنيا فور صدوره في أكتوبر 2014، لا مدسوسا في درج، أخفته الدكتورة زوما في درجها على مدى عام كامل لم تنشره إلا بعد فوات الأوان فلم تعد له قيمة تُذكر. وحتى الإيقاد لم تكترث له أو لتوصياته حين ركبت الاتفاقية لفض النزاع.
ما استحق هذا التقرير الالتفاتَ إليه إلا لأن المثقفين من جنوب السودان تقاعسوا ولم يحققوا بأنفسهم في الجرائم في بلادهم، ولم يكتبوا التقارير أو ينشروها، ولم يتقدموا بمظان لاتجاهات حل المشكلة. وهي مهام لا تزال ضرورية تنتظرهم.
وهذا درس لم نتعلمه بعد، في جنوب السودان وفي السودان، نظل ننتظر المنظمات الأجنبية والخبراء الدوليين يأتون يركِّبون المعاني والوقائع يُثَبِّتونها بخطاب غرضي يؤطرون به الرؤى الوطنية المحلية ذاتها، فهؤلاء الخبراء الأجانب، بالرغم من "أفريقية" بعضهم، شكْلٌ من أشكال الاستعمار الجديد، من آلياته تدخلاتُ بعض المنظمات الطوعية، ومنظمات الأمم المتحدة، ووكالات الدول الغربية وسفاراتها. وظل جنوبُ السودان مرتعا خصبا لهذي أشكال الاستعمار الجديد، مما يتطلب الدراسة والتوقف عنده. وقد تناول البروفيسور مامداني هذا الجانب في إشارات خافتة لليونيسف.
(3)
ليست الأجهزة المحلية أو الوطنية مبرأة من العيوب والضعف أو الغرض. فلنا في عجز حركات دارفور، وفي كذب راديو دبنقا عبرة، حين تمت فبركة رواية اغتصاب نساء طابت، ولم نر أي تقرير وطني عن الموضوع من حركات دارفور المسلحة، ولا من محاميي دارفور الذين كانوا وعدوا بالتحقيق وهم حققوا فلم يجدوا شيئا يستحق الذكر فسكتوا. وحتى تقرير هيومان رايتس ووتش عن أحداث طابت كان مفبركا دبَّجَه أحد الدعوجية الأمريكان في منظمة طوعية تعمل في تسويق قضية دارفور بأمريكا وهي قضية لا تحتاج لتسويق. وقصدت منظمة هيومان رايتس ووتش في التقرير المطبوع إلى إخفاء هوية هذا الباحث الدعوجي فلم تبين خلفيته في حركة أنقذوا دارفور. وهو لا يعرف اللغة العربية أصلا ليحقق بصورة ناجعة في مثل موضوع كالاغتصاب، وكان يعمل بواسطة مترجمين. تقريره مشحون بمغالطات وبلغو متكثر بدون أساس. نَفَّذ تحقيقه بالهاتف من تشاد وقدم نتفا من أقوال نسبها إلى 15 امرأة قلن إنه تم اغتصابهن. واستقى المعلومات من أشخاص لم يكونوا شهودا، ومن مقابلات مع ثلاث منظمات كانت كذلك مصادر راديو دبنقا.
...
نقطتي هنا هي أن كثير مجالات حقوق الإنسان أصبحت مسكونة بالغش والخداع والاستراتيجيات السياسية الغرضية لا علاقة لها بحقيقة. وتقرير لجنة المفوضين بالتحقيق في أحداث جنوب السودان داخَلَه الغشُّ والسياسةُ أيضا، مما سأعرض إلى بعض جوانب له ويمكن للقارئ أن يطالع التقرير المنشور في الأنترنيت بنفسه، ومعه الرأي المخالف المنفصل للأستاذ مامداني، والملخص، ومقارنة ذلك كله بنص الاتفاقية من الإيقاد.
سادسا،
امتثال لجنة التحقيق للتوجيهات من المفوضية
(1)
تم تشكيل لجنة التحقيق من أربعة اشخاص رئيسهم أوباسانجو المعروف وكأن افريقيا تظل عاقرا. بعضوية السيدة سوفيا أكوفو القاضية من غانا، الدولة ذات القضائية الفاسدة بصورة منتظمة في محاكمها الدنيا حتى درجة المحكمة العليا. لا يعني ذلك أن هذه القاضية المحددة مرشحةَ قضائية غانا فاسدة، لكن شبهة فساد قضائية غانا تلاحق كل قاض من غانا أينما ذهب في أية لجنة يشارك فيها، خاصة إذا كان مرشحا من حكومته الفاسدة، فكل قاض كذلك من قضائية السودان فاسد إلى أن يثبت العكس، وذلك حال أغلبية قضائيات أفريقيا المصبوغة بالفساد. ولا نعرف للمحكمة الأفريقية ذاتها، حيث القاضية الغانية قاضية، إرثا ولا فقها في القانون ولا مردودا يؤبه له في تحقيق عدالة في أفريقيا.
وكذا في عضوية لجنة التحقيق السيدة بينيتا ديوف السنغالية المتحدثةُ باسم المرأة لدى الاتحاد الأفريقي. أضافت هذه العضوة الهم بجرائم العنف الجنسي والعنف القائم على أساس الجندر. وهنالك البروفيسور مامداني من جامعتي كولومبيا وماكيريري. بالإضافة إلى باسيفيك مانيراكيزا من دولة بوروندي، أستاذ القانون في جامعة أوتاوا الكندية موظف أيضا في الاتحاد الأفريقي.
(2)
ثابت من التقرير الصادر امتثال أستاذ القانون البوروندي للتوجيهات السياسية من المفوضية الأفريقية. التوجيهات بأن تَتَصنع لجنة التحقيق أنها لا تعرف أن الفقه القانوني الوحيد الجدير بالاعتبار في مثل الحالة قيد النظر هو فقه "القانون الجنائي الدولي" كما وصل أعلى درجات تطوره في فقه المحكمة الجنائية الدولية التي يكرهها قادة الاتحاد الأفريقي، يكرهونها بسبب خوفهم من أن يجدوا أنفسهم يلقون لديها الحساب على جرائمهم العالمية يقترفونها في بلادهم.
تسرب هذا الموقف السياسي المخجل الذي يعتمده الاتحاد الأفريقي إزاء المحكمة الجنائية الدولية إلى تركيب فلسفة تقرير لجنة التحقيق المفترض أنها "مستقلة" تنهل من أية معرفة معتمدة في مجالها. قرر المفوضون في اللجنة بقيادة الأستاذ البوروندي وموافقة الأعضاء الآخرين عدم استخدام فقه "القانون الجنائي الدولي" كالإطار المفاهيمي الصحيح للتحقيق. بسبب ذلك الموقف السياسي لدى الاتحاد الأفريقي من المحكمة الجنائية الدولية.
(3)
اعتمدت لجنة التحقيق، وفق انصياع الخبير البوروندي للتوجيهات السياسية، إطارا مفاهيميا للقانون في غاية سخف الاحتيال الفكري. حيث تركت اللجنة فقه "القانون الجنائي الدولي" المتطور، وسعت باجتهاد ساذج لاستعصار مَدَدٍ من اتفاقيات جنيف القديمة التي لا تفهم طبيعة الحرب الأهلية الحديثة، وخاضت اللجنة في تقريرها في متاهات طبيعة النزاع عالمي أم محلي، ومضت في سياحة لا معنى لها في "القانون الإنساني الدولي" عبر تلك اتفاقيات جنيف، ولوت عنق مواد "القانون الدولي لحقوق الإنسان" لوياً ليكون هذا القانون غير الملائم عديم الأسنان وهو لا يحاكم أحدا هو الأساس المفاهيمي لتكييف الجرائم في جمهورية جنوب السودان.
(4)
باختصار، سعت لجنة التحقيق، بسبب امتثال القانوني البوروندي لتوجيهات السيدة زوما وربما لتوجيهات آخرين في الاتحاد الأفريقي أو توجيهات الشرطي الداخلي في الدماغ يعرف مصلحته، سعت اللجنة إلى الابتعاد بألف ميل عن مجرد ذكر فقه "المحكمة الجنائية الدولية"، ومن "القانون الجنائي الدولي" المعرَّف بفقهه في التعامل مع جرائم أهمها هذي الجرائم العالمية الثلاثة في جنوب السودان، الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب. وهي الجرائم التي حددتها لاحقا، بعد التقرير، اتفاقية السلام من الإيقاد التي لابد تحت ضغط الترويكا (أمريكا والنرويج وانجلترا) استخدمت لغة القانون الجنائي الدولي ووصفت الجرائم بأسمائها الصحيحة كجرائم عالمية، لا باعتبارها مجرد "انتهاكات" لحقوق الإنسان كما كان جاء في تقرير اللجنة للتحقيق من الاتحاد الأفريقي.
(5)
لكن الاحتيال وأمور السياسة أوقعت أعضاء اللجنة أصحاب التقرير الأساس المختارين بعناية لمثل هذه اللجان السياسية أوقعتهم في تناقضات مضحكة غصبا عنهم. فقد اكتشف أعضاء اللجنة، غصبا عنهم، أنه لا يمكنهم، رغم المحاولات الدؤوبة، تجنب فقه "المحكمة الجنائية الدولية" المكروهة من قبل الحكام طغاة الاتحاد الأفريقي، فاضطر أعضاء اللجنة إلى تثبيت مقترحات مجتزئة مسروقة من فقه هذه المحكمة الجنائية الدولية دون ذكر المصدر المكروه، وبالتعتيم غير الأخلاقي على المصدر الأساس، خوفا من السيدة زوما.
(6)
ظهر التناقض واضحا بين تقرير اللجنة من جهة والجزء الخامس في اتفاقية الإيقاد عن المحكمة الهجين، من جهة أخرى. حيث رفضت الإيقاد الأطر القانونية التي كان قدمتها لجنة التحقيق، واعتمدت لغة "القانون الجنائي الدولي" كما هو مطور في فقه المحكمة الجنائية الدولية. من حيث الاختصاص بالجرائم العالمية الثلاثة (الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب).
واعتمدت الإيقاد في الاتفاقية القواعد الفقهية المستخدمة في المحكمة الجنائية الدولية والمحاكم الجنائية الدولية قبلها وبعدها، مثل "قاعدة المسؤولية الجنائية" التي تطال كل شخص مهما كان موقعه أو مكانته، و"عقيدة المخطط الإجرامي المشترك" التي تنظر في الاتفاقيات الجنائية لارتكاب الجرائم العالمية، و"عقيدة مسؤولية القيادة" التي لا تعفي القائد من المسؤولية عن جرائم مرؤوسيه، وعقيدة عدم قبول الدفع بالامتثال للأوامر العليا، فلا يمكن للعساكر الذين قتلوا النوير في جوبا الدفع بأنهم كانوا تلقوا أوامر التقتيل من قادتهم.
كذلك استلفت الإيقاد لتركيبة المحكمة الهجين المكونات الأربعة المعروف أنها من نتاج فقه "القانون الجنائي الدولي" لمثل هذه المحاكم، وهي القضاة، والمدعي العام، والمراقب، وهيئة الدفاع المستحدثة.
(7)
لقد ثبَّتت لجنةُ التحقيق، بالاحتيال الفكري، أطرا قانونيةً غير مجدية ولا ضرورية، مثل "القانون الدولي لحقوق الإنسان" و"القانون الإنساني الدولي"، وكيَّفت الجرائم بلغة وصفتها فيها بأنها "انتهاكات"، ودخلت في ربكة لغوية ومفاهيمية وقانونية بسبب عدم الأمانة العلمية.
وليس أدل على ذلك من أن الإيجاد قذفت في سلة المهملات بذلك التكييف القانوني للجرائم مما كان ورد في تقرير اللجنة. واعتمدت الإطار الصحيح، فقه "القانون الجنائي الدولي" كما هو مطور في قانون روما، وفي سوابق المحكمة الجنائية الدولية، وفيما أنتجته المحاكم الجنائية الدولية من فهم أعمق للعقائد القانونية التي تحكم إجرام القادة العسكريين والسياسيين وأعوانهم في اقتراف جرائم عالمية.
ثم اضطرت لجنة التحقيق، في نهاية الأمر، على استحياء، بسبب إجرامية نزاع الدينكا والنوير وبشاعته، اضطرت اضطرارا إلى استخدام عبارات قليلة ونادرة من لغة "القانون الجنائي الدولي" حشرتها في نهاية النص عن الإطار المفاهيمي القانوني، ثم اعتذرت عنها وقالت إنها تستخدمها فقط للتحليل!
هذا النوع من الاحتيال الفكري من قبل أعضاء لجنة التحقيق لا مستقبل له بالطبع. ودائما يُدخِل القائمَ به في دورة التناقضات والوقوع في أخطاء ويترك آثار الكتابة الاحتيالية في النص، بالرغم عن أنف الكاتب.
(8)
ومع ذلك، فقد كنت بيَّنتُ أن الإيقاد، بسبب تكوينها وطبيعة الدول الأعضاء فيها، لا يمكن أن تكون جادة فيما أقرته بشأن المحكمة الهجين، مهما كانت نجاعة النصوص في الاتفاقية أو قوتها. بل بسبب ذلك. ومن ثم، فالإيقاد باتفاقيتها ولجنة التحقيق الأفريقية بتقريرها سيان. رغم الاختلافات الجذرية في التصورات واللغة.
قد يستغرب القارئ استخدام دول الإيقاد اللغة التي تثير أعصاب عمر البشير أحد رؤساء الإيقاد، ولابد تثير أعصاب بقية الرؤساء الستة فيما عدا رئيس دولة جيبوتي. لغة الجرائم العالمية الثلاثة: الإبادة الجماعية، الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب. بالإضافة إلى الموضوع الحساس عن الجريمة العالمية المتعلقة بنهب الأرصدة ولزوم استعادتها.
لكني أرى أن تفسير غرابة قوة اختصاص المحكمة الهجين يكمن في أن دول الإيقاد السبعة تعرف أنها تحتال، وأنها ليست جادة أصلا في إنشاء "المحكمة الهجين". وهي استخدمت لغة التهديدات الفشنك لتخويف سلفا كير ورياك مشار المرعوبين أصلا من شبح المحاكمة، وهذه لعبة غير أخلاقية نجحت. جربتها الإيقاد أيضا حين أثارت الموضوع في مجلس الأمن فقط للتهديد والتخويف، وهي غير راغبة بالطبع في أي كلام مع مجلس الأمن تكرهه جميع الدول الأفريقية، لأنه أحيانا يعمل حاجات ما كويسة معاهم، ويتحشر في تجنيد الأطفال وحماية المرأة في سياق النزاعات المسلحة. وقد أنشأ الاتحاد الأفريقي كيانات مشابهة لكيانات الأمم المتحدة لمنع أي تدخل خارجي غير مضمون العواقب. زيتنا في بيتنا.
وسنرى في مستقبل الأيام إن كانت الإيقاد ستُلح على مفوضية الاتحاد الأفريقي أن تسرع خطاها بتشكيل هذه المحكمة الهجين اللعينة.
سابعا،
البروفيسور محمود مامداني واستثنائية أفريقيا
(1)
لابد أن أذكر هنا عضو لجنة التحقيق الأستاذ الجامعي اليوغندي الأمريكي محمود مامداني. فقد أدرك مامداني سخف رئيسة مفوضية الاتحاد الأفريقي، السيدة زوما الوزيرة السابقة في حكومة جنوب أفريقيا. وفهم مامداني أن ممالأته للاتحاد الأفريقي، كاتحاد حكامٍ طغاةٍ فاسدين، وهو الأكاديمي المثقف، تتطلب الموازنة، وإلا فقد مامداني ما تبقى من مصداقية له في سياق تتعرض فيه كتاباته عن أفريقيا إلى الانتقاد الحاد وإلى اتهامه صراحة أنه عميل الدول الأفريقية الإجرامية مثل السودان (بعد كتابه عن دارفور مثلا).
عبَّر مامداني بطريقة دبلوماسية عن اختلافه الفكري والمفاهيمي مع أعضاء اللجنة الآخرين موظفي الاتحاد الأفريقي المرعوبين من رئيسة المفوضية صديقة موقابي تحتفي بصورتها مع موقابي في الموقع الشبكي لأنه كان أيد انتخابها للوظيفة.
فكتب مامداني رأيا منفصلا في ستين صفحة في وثيقة منفصلة عن التقرير الأساس للجنة التحقيق، ضمَّنه لغته الخاصة كأكاديمي في توصيف وقائع لا يجرؤ الموظفون أعضاء اللجنة ومنهم أستاذ القانون البوروندي كذلك هو من موظفي الاتحاد الأفريقي على مجرد التفوه بها. تقرير مامداني المنفصل في ستين صفحة أفضل مائة مرة من تقرير اللجنة في أكثر من ثلاثمائة صفحة. لكني أنصح الجميع بقراءة التقريرين. لأنهما يبينان هذا البعد الاحتيالي في التقارير المصيرية التي تخلق معاني سياسية جديدة ذات أجندة وتثبتُها بقوة المؤسسات وبالسماح للحصول على المعلومات وبالعلاقات في دهاليز السلطة.
(2)
من أقوى مكونات تقرير مامداني توصيفه دولة جنوب السودان على أنها وهمٌ، جيشُها عبارة عن مليشيات، وزراؤها سَرَقةٌ، ليس لها قضائية ولا مؤسسات ولا حزب يعتد به.
أوافقُه في كل ذلك. لكني لا أتفق معه في فلسفته التحتية للمقترحات التي أوردها. فالمقترحات والتوصيات لابد أن تتحدر بصورة منطقية، لا سياسية، من الوقائع التي أثبتها الكاتب الخبير. لأن الخبيرَ خبيرٌ بعلمه، تُعتبرُ توصياتُه مجرد توصيات يمكن للساسة الأخذ بها أو رفضها. هنا عليه الأمانة العلمية الصارمة في تحديد التوصيات الصحيحة المنطقية الصادرة من المعرفة التي كان ثبتها في الجزء عن "الوقائع"، حتى إذا كان واثقا أنه سيتم رفض هذي توصياته. فقد تتغير الأحوال يوما وتُبيِّن أن المقترح الصحيح المرفوض في السابق كان هو الحل السليم الجدير بالاعتماد من قبل السياسيين، فيتم اعتماده حينئذ في لحظة اكتشاف صحته لاحقا.
(3)
لكن محمود مامداني أخطأ حين انشغل بالسياسة في تحديد التوصيات. خذ خلاصة مامداني أنه لا يوجد جيش شعبي للتحرير بمعنى جيش بل نجد مليشيات إجرامية. هنا تصبح التوصية الصحيحة الوحيدة هي حل هذا الجيش المكون من مليشيات. لكن مامداني لا يريد أن يفكر بهذه الطريقة، لأسباب سياسية، وبسبب إطاره الفكري عن استثنائية أفريقيا من العقلانية العالمية. إنه يذكُر الوقائع ثم يأتي بتوصيات سياسية خارج الموضوع، ثم يبررها بسياقية أفريقيا وبتاريخ أفريقيا والظروف المحلية التي يعتقد أنه الوحيد الذي يفهمها.
(4)
كذلك، أيضا وفق الوقائع التي وردت في رأي مامداني، كان لابد له من أن يخلص إلى تكييف القبيلة ككيان إجرامي، قبيلة الدينكا وقبيلة النوير. فهو يخطئ حين يقبل بصورة نصية وآلية الرواية عن أن النزاع بدأ "سياسيا" في اجتماع الحزب في جوبا، ثم تحول إلى ثكنات الجيش، ثم بعدها تحول إلى نزاع "قبلي" بين الدينكا والنوير. مما يجعل مامداني يجد عذرا للتقتيل من قبل القبيلة، على أساس أنه عنف قبيلي عفوي فعاطفي، "للانتقام" على التطهير العرقي والتقتيل الأولاني، وعليه مجاله لجان الحقيقة والصلح، بعيدا عن المحاكمات الجنائية التي يجب تخصيصها للسياسيين الذين خططوا للتطهير العرقي وأعدوا له ونفذوه.
لكن التحليل الصحيح هو أن النزاع كان أصلا من البداية وقبلها قبيليا بصورة دينامية. في تركيبة الحزب، وفي تركيبة الجيش، وفي تركيبة الدولة الجنوبية بأكملها. وذلك هو سبب فشل دولة جنوب السودان. لمناقضتها فكرة جون قرنق في "السودان الجديد"، ذلك الذي لا يعترف بالقبيلة أو باللغة أو بالدين إلا كمكونات يمكن تعبئتها إيجابا، لا لغرض الإفساد أو التمييز أو المحاباة أو الاستئثار بموارد الدولة وبالوظائف، أو للانتقام.
(5)
في نهاية الأمر، تفجرت التناقضات داخل جنوب السودان في أحداث المذابح والبشاعات المعروفة بين قبيلتي الدينكا والنوير تحديدا لأن التركيبة الاجتماعية السياسية القانونية كانت أصلا مصوغة بالعرقية والقبلية، ولم تظهر القبلية فقط بصورة لاحقة بعد تفجرٍ صراعيٍ سياسيٍ أولي في الحزب، بل تَفجرَ الوضعُ المصوغُ أصلا بالعرقية والقبلية والعنصرية ليُظهِر إلى السطح التناقضات المريعة في جنوب السودان. وهي تناقضات تعود جذورها إلى ما قبل الغزوات العربية الإسلامية للقنص البشري وللنهب والاسترقاق والاستعمار الاستيطاني المؤقت في الزرائب والديوم والمحطات العسكرية في طول جنوب السودان وعرضه في منتصف القرن التاسع عشر قبل أكثر من مائة وستين عاما.
إن القبيلة كانت أصلا مدرجة بصورة قوية في جميع مكونات الدولة وفي حركياتها وفي قرارات حكومة الدولة الجديدة. وفي التقرير المنفصل الذي كتبه مامداني عدة أمثلة لهذه الوضعية. لكن مامداني قرر أن يقرأها خطأ، فقط ليعزز فكرته عن سياقية النزاع، وكأن السياق أمر جامد حتمي لا يمكن تجاوزه بالمداولة حول ما هو أفضل وفق المبادئ الأخلاقية العامة.
فلا يصبح سائغا ولا مقبولا بأي معيار معقول أن يدفع عضو كبير في الحزب بأن من استحقاقاته أن ينهب وأن يخمش الأراضي وأن يوظف أقاربه فقط لأنه كان حارب في الجيش الشعبي لتحرير السودان. أو لأن النهب والخمش من الثقافة السائدة في جنوب السودان. لكن مامداني سيجد لهذا الموظف الفاسد، في إجرام، تفسيرا في "السياق الأفريقي"، وسيجد للفساد تخريجات تكوينية "سياسية".
(6)
يميز مامداني في رأيه المنفصل بصورة غير صحيحة بين ما يسميه "العنف الإجرامي" و"العنف السياسي"، وأن العنف السياسي له تكوين سياسي. والواقع أن التمييز زائف. ويفضى إلى الاعتذار عن العنف الإجرامي لأغراض سياسية. وهي ثنائية مامداني المعروفة أنه إما الملاحقة الجنائية وإما الحل السياقي. بينما لا تغيب أصلا عن ذهن المطالبين بالملاحقة القضائية المسائلُ المتعلقةُ بالسياق.
(7)
ركز مامداني في رأيه المخالف على ما أسمته الترويكا "المعضِلة المركزية"، أن الدينكا لن يفاضوا بدون سلفا ولا النوير سيفاوضون بدون مشار، وهو جهل وسوء تقدير وإدراك ضعيف من قبل ممثلي إنجلترا وأمريكا والنرويج. يسبغون خصائص ثابتة على أمر في جوهره اجتماعي فمتغير وقابل للتغيير، وكأنه لا دور للحجة في الموضوع، الحجة بدليلها. فالثابت أن سلفا كير نفذ سياسة التطهير العرقي ضد النوير وأن مشار نفذ سياسة تقتيل المدنيين الدينكا، كلاهما فعل ما فعل لأسباب عقلانية تتعلق بالسيطرة على جهاز الدولة لتسهيل نهب موارد البترول. فكان يمكن المحاجة على أساس الانطلاق من هذه المنصة. وهي متعلقة بالوقائع التي يمكن إثباتها أو دحضها بالأدلة بأنواعها. فما أن يثبت الأمر، وليس ذلك بمستحيل، تصبح الحاجة العقلانية ممكنة.
(8)
كيَّف مامداني بالخطأ أن سفراء الترويكا (أمريكا وانجلترا والنرويج) اقتربوا بتلك فتواهم من "حل افريقي" للمشكلة وفق تعريف "سياقي" من النوع الذي يفضله مامداني. أي إن "الأفارقة"، في تقدير مامداني، لهم مثل هذه الحلول بسبب تعريفهم للمشكلة وفق "السياق" لا وفق عقلانية تجريدية كما يفعل الأوربيون والأمريكان. ثم مضى مامداني يقرظ سفراء الثلاثية الترويكا لأنهم غيروا موقفهم الأول عن أهمية إقصاء سلفا كير ورياك مشار إلى موقف جديد بلزوم إشراكهما. وقال مامداني إن هذا دليل على "تعلُّم" سفراء الترويكا، لأنهم الآن بتغيير رأيهم قاربوا "التعريف السياقي" للمشكلة، بالطبع يقصد تعريفه هو مامداني، وقال إن السفراء أصبحوا أكثر انفتاحا لحل أفريقي للمشكلة، دائما حلُّه هو مامداني، يقدمه على أنه حقيقة سرمدية مستقلة عنه (الفقرة 168).
(9)
ثم سجل مامداني في تقريره المنفصل عنوانا أسماه "الحل الموجه بأفريقيا ولأفريقيا Africa-oriented solution ". لكن هذه الفكرة مجرد تركيب ذاتي غير صحيح أتي به مامداني بدون أساس. حيث لا وجود شرعي أو عقلاني لمثل هذا النوع مما يسميه "الحلول الأفريقية"، وما "الأفريقية"، في سياق الاتحاد الأفريقي، إلا دعوى باطلة لتغييب العلاقات الاحتيالية من حكام وموظفين بيروقراطيين طغاة بمنأى عن أية احتمالية لمحاسبية وفق معيار عالمي قائم على العقل والحجة. وكأن أفريقيا هي "الاتحاد الأفريقي" الذي يعمل لديه مامداني مستشارا.
هنا، يرسم مامداني صورة كاريكاتيرية من خياله للمحاسبية الجنائية، فيقول إن الداعين إليها يفكرون أنها الإطار الوحيد لا غيره لكل المشكلات، ويذهب مامداني دون أساس إلى القول إن المهمومين بالمحاسبية مهمومون بها فقط بسبب استحواذهم بفكرة العقاب (الفقرات 169-173).
باختصار، يريد مامداني بهذه الحجة الكاريكاتيرية التي ركبها من خياله أن يقول إن أفريقيا مختلفة، فيمكن لهؤلاء القادة مثل سلفا كير ورياك مشار أن يقتلوا المواطنين، فلا محاسبية، لأن المحاسبية ستقود إلى مزيد نزاع. وقد حاجَّ مامداني ضد المحكمة الجنائية لعمر البشير في إطار هذي فكرة استثنائية أفريقيا وسياقيتها.
(10)
يعتمد مامداني أن نظرية المحاسبية الجنائية لا تنظر في "السياق"، ثم يخلق معادلة وهمية أن "السياق" بوقائعه التاريخية المادية هو النقيض لما هو كوني مجرد، أي القانون الجنائي الدولي مثلا. بينما لم يقل بذلك أحد غير مامداني نفسه. لأن المعروف أن تطبيق المبادئ الكونية المجردة إنما يتم في سياق. وبالطبع لكل جريمة سياق مختلف أصلا، والسياق يُنظَرُ فيه حتى كواحد من العوامل التي قد تخفف العقوبة مثلا، لكنه لا يَجُبُّ المحاسبيةَ القضائية على أساس القانون الجنائي الدولي بكونيته وبتجريده أو القانون الجنائي الوطني الوضعي. لكن مامداني يريد بمفهومه لـ "السياق" اختزال الجرائم في هذا "السياق" معزولا عن لزوم العقوبة للذين سببوا الضرر للآخرين.
ثم يخلق مامداني من خياله ترتيبا أنه لابد أولا من "عدالة سياسية" في جنوب السودان، ثم بعدها تأتي "عدالة جنائية". وهو يبتدع تمييزا بين عنف "منظم" من قبل الدينكا مثلا (أحداث التطهير العرقي في جوبا) وعنف آخر خليط له مستوى "عفوي" مهم في تقديره، هو "العنف الانتقامي" من قِبل النوير. الأول للمحاكمات الجنائية، والثاني لِلِجان الحقيقة والمصالحة. في رأي مامداني. وهو سخف في القول لا يعتد به من قبل المرأة التي اغتصبها فلان المعروف أمام زوجها ثم قتل زوجها ونهب ممتلكات الأسرة وأحرق بيتها.
(11)
كانت واحدة من أقوى ملاحظات مامداني الذكية عن المنظمات، مثل منظمة اليونيسف. حين قال إن المنظمات الدولية مثل اليونيسف سعت ببرامج لتطوير كفاءات المجتمع والدولة، لأن تطوير الكفاءة أو بنائها من الشعارات الرنانة لجلب الموارد المالية من المانحين للمنظمة، ثم أصبحت هذه المنظمة والمنظمات المتحالفة معها هي التي تحصل على الموارد المخصصة بالمقاولة لتنفذ ذات تلك مشروعات بناء الكفاءة. إن الأمر كله استراتيجية لاستدرار الموارد للمنظمة.
فيتعين على المثقفين في جنوب السودان أن يستمروا في إمعان النظر والتفكر في دور المنظمات الأجنبية التي كالوا اللوم إليها بالقول إنها كانت تعمل جنبا إلى جنب مع الحكومة وتدافع عن الحكومة، وكانت تشهد كل شيء، ثم نأت بنفسها حين حلت الكارثة وكأنها غير مسؤولة. وكذا اتهموها بأنها تتحشر في شئونهم. هنا ينبغي أن نعرف أية شئون يقصدون، فهنالك شئون يجوز بل يلزم التحشر فيها بطريقة مبدئية لا احتيالية، على أن يكون التحشر من جهة لها مشروعية أخلاقية.
(12)
خصصت هذا الاهتمام للرأي المنفصل في ستين صفحة من قبل مامداني بسبب فكرته عن استثنائية أفريقيا وما يسميه سياقية الحل الأفريقي. وهي فكرة خطيرة لأنها تأتي مدعومة لا بحجتها وهي حجة ضعيفة، وإنما هي خطيرة لأنها تأتي مدعومة بالقوة المؤسسية الخارجية، من الاتحاد الأفريقي هنا، فتصبح لها تبعات على أرض الواقع ذات أثر.
ثامنا،
دور المثقفين الجنوبيين
(1)
أخلص إلى أنه يتعين على المثقفين في جمهورية جنوب السودان أن ينكبوا على دراسة تقرير لجنة التحقيق من مفوضية الاتحاد الأفريقي ونصوص اتفاقية الإيقاد، خاصة الجزء المتعلق بالمحكمة الهجين. وأن يرفضوا الاستعمار الأفريقي الجديد. لا بأن يأتوا باستعمار غربي بديل هو جزء مكون داخل ذات الاستعمار الأفريقي يقف وراءه ويدعمه ماليا وباللغة وبالأفكار وبالحفز ويلوي يد هذا الاستعمار الأفريقي الذي أصبح له دور مقدر في تنفيذ الأجندة الأوروبية والأمريكية في أفريقيا وخارج أفريقيا، انظر قوات المرتزقة السودانية في اليمن، مبتعثة من أفريقيا إلى قارة آسيا لتنفيذ حرب لا يؤيدها شعب السودان.
بل يتعين على هؤلاء المثقفين الوطنيين المحليين فيما تبقى من مساحات للتفكير والتقدير والتكييف في جنوب السودان، أن يُمسكوا بناصية الأمر، وأن يحققوا بأنفسهم، وأن يقاوموا، لأجل إجبار سلفا كير ورياك مشار ومعاونيهم جميعهم على التنحي، دون أية صفقات معهم بشأن مصيرهم المرتقب، فلابد من تقديمهم للمحاكمة في الوقت المناسب، ولابد من استرداد الأرصدة التي نهبوها، وإلا كان الأمر لعبة وسيظل لعبة. وليس الوقت مهما. فهذا مشروع طويل الأمد، بل هو مشروع حياة كاملة. فطغاة أفريقيا لا يموتون.
وكذا لابد للمثقفين من التفكر في مشروعات لتفكيك البنيات الإجرامية القبيلية مثل الجيش الأبيض لدى قبيلة النوير، ومثل المليشيات الإجرامية في قوات جيش تحرير السودان. وليتذكروا أن الجيش الشعبي لتحرير السودان، وهو تحالف مليشيات، استخدم الدبابات في الهجوم على المنازل للتطهير العرقي ضد النوير. فما قيمة جيش كهذا؟ وما تفعل به غير أن تبتدع برنامجا لإنهاء وجوده ككيان قادر على تسبيب الضرر.
(2)
وكذا يتعين على المثقفين في جنوب السودان أن يبدأوا في تشريح مجتمعاتهم ذات الخمسين قبيلة ويزيد، وأن لا يتركوا أية مقدسات دون إخضاعها للدراسة العقلانية، بما في ذلك تلك مليشيات الجيش الشعبي، والحزب، وسرمدية قيادات الحركة الشعبية، وعليهم التفكر في اقتراح الحلول البديلة غير المكبلة بالأوهام أو بالقبلية أو الولاءات أو بأشباح الماضي.
وأن يتم التفكر في مثل دعاوى مامداني عن الحلول الأفريقية، وعن "سياقية أفريقيا" المدعاة يتم إزلاقها في التقارير لترتيب أوضاع جنوب السودان. وإخضاع هذه الأفكار والادعاءات الاستعمارية الجديدة للانتقاد. خاصة هذه الفكرة السياقية أن الأمر في أفريقيا "مختلف"، وأنه لا يمكن أن نطبق على دولة جنوب السودان، وهي في إفريقيا، الأحكام الكونية المجردة دون سياق. خاصة القانون الدولي، بما فيه القانون الجنائي الدولي. وأن أحادية الملاحقة الجنائية بالفكرة العقابية غير صحيحة. حيث لم يقل أصلا أحد غير مامداني بهذه الحجة البائسة عن أحادية الملاحقة الجنائية، يخترع أصناما من ورق ليسهل عليه حرقها بمحاجة متذاكية، ثم يمضي لتسريب فكرته عن أن أفريقيا حاجة تانية، عندها معيار تاني، أصلها كدة، براها بتقدر تحل مشاكلها، بواسطة الحكام الطغاة الفاسدين في الاتحاد الأفريقي وفي دول الإيقاد.
والسياق الذي يدعو إليه مامداني مهم بالطبع. لكن السياق لا تتحدر منه مثل دعاوى مامداني أنه لا محاسبية بالقانون الجنائي. فهو يفضل هزل "لجان الحقيقة والمصالحة" المنفذة من قبل الشيخ القسيس الضحوك في جنوب أفريقيا، استبانت في النهاية أن هذي "لجان الحقيقة والمصالحة" كانت في مجملها محض هراء. وأن المجرمين الماكرين استغلوها للإفلات من العقوبة، ولم يتغير حال الأفارقة في جنوب أفريقيا، باستثناء بروز سرقة جدد، قيادات الحزب الذي خاض حرب التحرير ضد دولة الأبارتايد ليُرَكِّب فوق أنقاضها دولة أبارتايد جديدة.
إن السياقية "المبدئية" هي المنهاج الصحيح، لا سياقية مامداني "الأفريقية" ضربٌ من ضروب محاجة استعمارية جديدة.
تاسعا،
فكرة السودان الجديد تظل حية وملهمة
(1)
أثبتت الأحداث في جنوب السودان أن الجيش الشعبي الذي طرد المستعمر العربي الإسلامي انتهي أمره إلى هذي المليشيات القبيلية الإجرامية. وأن أغلبية قيادات حزب الحركة الشعبية حكمت على نفسها بنفسها أنها عصابات من المتعلمين نهبت بلايين الدولارات في فترة وجيزة بينما ظل شعب جنوب السودان يعيش بالحالة المعروفة لا تحتاج لتفصيل، جوعى عراة.
(2)
فلا تبق اليوم لجنوب السودان من إرثه القديم إلا "فكرة السودان الجديد"، فكرة الزعيم جون قرنق وإسهامه الفكري السياسي الأساس في تاريخ السودان. وهي فكرة غير مكتملة أصلا ولم يتم استنطاق كافة مضمونها أو برمجتها. قال جون قرنق لنا في لقاء معه في أديس أبابا في العام 1987 مع الواثق كمير وبيتر نيوت كوك والصحفية في سودان تايمز ليلى عبد الرحيم (اليوم أستاذة الأنثروبولوجيا في كندا) إن "السودان الجديد" لن نعرِفه أو نتعرف على ملامحه إلا حين نجده يتخلق بين أيدينا. أرى أنه قصد إلى أهمية الإبداع الخلاق لتركيب الحياة الجديدة بدون التقيد بأوهام الماضي وأشباحه.
(3)
لم تفشل تلك فكرة جون قرنق الملهِمة، وهي تبقى فكرة حية وملهمة تستدعي مزيد استنطاق وتطوير في معية أطر فكرية إضافية. لكن سياسة جون قرنق، وتقديراته، والتدابير التي اتخذها، والترِكة التي وَرَّثَها أهل جنوب السودان كلها استبان الآن خرابها وفشلها. من هنا لزوم الانتقاد من قِبل المثقفين في جنوب السودان. أن يبدأوا بجون قرنق. خاصة وأن الحرس القديم سيحاول استخدام "الزعيم" وأقواله وسياساته كما يستخدم الإسلاميون محمدا وأحاديثه وممارساته لتبرير استحواذهم بالسلطة.
(4)
فالذي حدث في جنوب السودان لم يكن مرسلا من ربٍّ للعالمين كما كان سيقول قرنق نفسه، ولا بسبب "السياق الأفريقي" كما سيدعي مامداني مرتديا قبعة ضابط العلاقات العامة للاتحاد الأفريقي. بل خَطَّطَ للأحداث الإجرامية المأساوية وأعد لها ونفذها أشخاص عقلانيون محددون، زعماء الجيش الشعبي والحركة الشعبية لتحرير السودان، منهم سلفا كير ورياك مشار، ومنهم مجموع الذين نهبوا موارد البترول بحجة أنهم ناضلوا فيستحقون رغد الحياة لهم ولأبنائهم، ومنهم الجنود وأعضاء القبيلة الذين اقترفوا بأيديهم الجرائم المباشرة، يعرفون أن القادة لن يخضعوهم للتحقيق، بل سيكافئونهم، وأن القبيلة ذاتها تظل تدعمهم، وهي فخورة بإنجازاتهم في التقتيل والتعذيب والحرق والنهب والاغتصاب ضد الآخر المركب عدوا في الدماغ.
باختصار، أوضحت الأحداث المأساوية مظان الرؤية الصحيحة ومظان اتجاهات الحل. فقد تبينت جمهورية جنوب السودان دولةً إجراميةً فاشلة يجب أن تذهب، بركامها، وفق برنامج مرسوم يتم تنفيذه على مدى العشرين عاما القادمة. ولن يعجز مثقفو جنوب السودان وشبابه، في معية أصدقائهم في جميع أرجاء العالم، عن تصميم برامج وطنية لتركيب حياة المستقبل.
...
أما هذي المحكمة الأفريقية الهجين، فأضحوكة استعمارية. مما أبين مزيد دليله في المقال التالي عن موقف رياك مشار إزاءها.
...
عشاري أحمد محمود خليل
ushari@outlook.com
28/12/2016 سياتيل أمريكا