الشفاء للموسيقار: عُمر الشاعر

 


 

 


(1)
ليس من باب الوفاء وحده ، ولكن كثير من مواضي أيامنا الزاهرات بدت للعيان ،ومضة حياة أسهم في إنبات زهرها الفنان والموسيقار " عمر الشاعر " . تجمّلتْ عاصمة السودان الوطنية بمقدم "عمر الشاعر" من كوستي ، تماماً كمقدم " ود الفكي " من كبوشية للعاصمة مطلع القرن العشرين ، ونقل جديد الأغنية . كان "ود الفكي " يجلس وسط " العنقريب " وله عصاة يغرزها في الأرض وأخرى صغيرة ، هي كل الإيقاع في مطلع القرن العشرين .
أعدت ما كُتب عن أن " عمر الشاعر " يخوض معركة الجسد حين تُلم به المِحن ، فيضحى مرض " السُكري "من مرض صديق، ويتحول إلى عدو.
(2)
قمت من النوم فزعاً . وفي الخاطر ما ذكّرنا به الشاعر "الحلنقي " في بعض نثره عن " عمرالشاعر " . فحاجة جسد الموسيقار للاستشفاء صارت من تجربة يمر بها الإنسان عادة، إلى عصف يريد أن يقهر الجسد والروح . تعلقت قلوبنا بالأقربين إلى نفوسنا وهم لا يعلمون قدر أنفسهم في صُنع أساس حياتنا الحاضرة . يأتي "الزمن الجميل " ويطرُق بابنا من جديد على غير ما يشهي من لا يحبوننا ولا يحبون الجمال . نبيل هو " عمر الشاعر ". جمّل أيام عمرنا كلها ، فأزهر الوجدان ، يعرف طعم النغم الذي يُلامس القلوب . يحس الشِعر ويعيد تركيب المواضع اللينة من أحرُف المد ، ليصنع منها لحناً شعبياً يلُهم نفوسنا الحيرى . والقلوب كما قال أكرم الأكرمين "إن كلَّتْ عَميتْ " . كان الموسيقار هو الصانع الماهر الذي يمحو الكلال ، ويُجدد النفوس . بل أن مضخة الدم " القلب " ، كما كان يصفها الأقدمون ، لها قدر كبير في التفكير ، أثبتته العلوم المتلاحقة .
قامت نبتة المحبة ، وأزهرت في زهو الشباب . كانت ألحان " عمر الشاعر " مزرعة خصبة ، تستمع إليها النفوس الكبار ، فتورق ، ثم تُزهر.
(3)
آخر مرة التقيته عند مقابر " حمد النيل " بأم درمان في أواسط الثمانينات ،ونحن نودِّع الصديق الموسيقار " جمعة جابر " . بادي الحُزن عليه ، وكان " عُمر " في لباس سلاح الموسيقى العسكري ، فارع القوام نبيله . وكانت هول صدمة رحيل الموسيقار " جمعة جابر " ترن أبداً في الخاطر ، فقد كنا نشترك سوياً صداقته :
هذه الدنيا سماء كان فيها القمر " كما أشعر الهادي آدم " . حنوناً كان رفيقاً وكان ناقداً . وعلى نهجه كان " عمر الشاعر " . درس الموسيقى وتخرج عام 1974 من معهد الموسيقى ، ومن كسلا سابقاً كان قمره الفني ساطعاً .
فهو غني عن كل تعريف ، عملاق بقدرته الولوج لوجداننا بتعقيداته ، وننال الفرح كله أو أغلبه .
(4)

أ يُصلِح العطَّار ما أفسده الدهر ؟

أيعيدنا العطَّار للزمن الجميل . يخسف العُمر الذي صرنا فيه ، ويعيده لنضاره وللقلوب اليانعة ألقها وللنفوس صفائها ؟ .
كان الرائع "زيدان إبراهيم" فنان شباب السبعينات . اجتمع مع شاعر كوستي "التجاني الحاج موسى "والرائع الموسيقار " عُمر الشاعر" حتى أطلت علينا :

باب الريدة وانسدَّ
أقول يا ربي أيه جَدَّ
أهي الأيام بتتعدى
ونَقعُد نَحسِب في المُدة
. . . . . . . .
وَحات عُمراً قضيتو معَاك
مُحال عن ريدَك ارتدَّ
ولمَّا العين تلاقي العين
. . . . . . . . .
(5)

كُنا نتتبَّع سيرتهم في حي العباسية ، قُرب" زُقاق المَدق" .في الصفحة الغربية من الحي . لأهل الحي طعم ونكهة خاصة . تآخت قبائل وأعراق وسكن الود بينهم منذ أكثر من قرن من الزمان . الطُرفة صناعة هينة في ذلك الزمان .تهتز الأرض طرباً من تحتكَ وأنت تستمع . أمسيات نادي العباسية بغناها: رياضة وثقافة وفنون متنوعة و ترفيه . يدعونا صديق العُمر" الشيخ محمود "في يوم من أيام الخميس لحفلٍ بدأ بندوة ثم الغناء والطرب إلى منتصف الليل . تشهد اللغة العاشقة وقد وُلدت هناك . بدأ الفرح في النادي واختتمناه في دار قريبة دعانا لزيارتها :
(6)
طرق محمود الباب ، ثم دخل بعد دعوته .

ـ أهلاً .. ما تعَرَّفنَا ؟

ـ عبد الله

ـ كُلنَا عَبيد .. يا جَماعة الأسامِي دي
بتجِيبُوها من وين ؟

ـ يا زُوزو دَه صَاحبِي .. جَابو الهوا الطَاير ..
بِريدكُم في الله .

ويضحك محمود .

ـ سَنَة ! .. الحِلُو بالخُشَاف ؟

ـ الله ..... يا جَماعة ما تبهَلُوها . الضيف قريب
مِن الحَي الجَنبَنَا و صاحبي .

ـ أهلاً بالحَبيب .. شَرَّفتَ . إحنَا نِظامنَا بِنخُش طَوالي.
ضحك الجميع . وبدأت الحكاية . هَمسٌ هنا ودوزنة لآلة العود ، ثم :


في الليلة ديك لا هان علي
أرضى وأسامحِك و لا هَان علي
أعتُب عليك
شِلتَ الجراح والابتسامة
وكل أحزان اليتامى ..

*

ـ الله يا عزمي أحمد خليل .. وينَكْ ؟

ـ هيجتَ القُلوب ..

- كُلو زول مَشغُول بزولو .
عيون لعيون مُحاربَة
شِفاه لشِفاه مُقاربة

ـ خليهُم يقولو ازي ما الناس يقولوا.

ويصرخ الفنان الرائع :

ـ كَشَفتَ حالنا يا الكَاشِف...
(7)

لك أيها الموسيقار الفنان دعواتنا الصادقة لك بالشفاء ، ودعوات كل من تذوَّق حلاوة المحبة الإنسانية ولم يستطع الكتابة . وقد كُنت من صُنّاع تلك المحبة ، بما يسره المولى لك من موهبة غزيرة ، ازدانت بالعلم . فلا تبتئس ، لم نكُن نعرِف .
*
وأقطف من إقرارات بالامتنان كتبها صديقنا الراحل المُثقف العضوي : إبراهيم آل عكود، عندما كتب تقديماً في سِفره " المدارات والمعابر" ، راغبين أن نسير سيرته :

{ أنشر باقات وردٍ نديّة لكل من ثبط همَّتي أو عتّم على الجُهد بوعي أو بلا وعي . لقد شجعوني بمواقفهم السالبة ومنْ عرِف كل الناس ، عذر كل الناس }

عبد الله الشقليني
1 أغسطس 2016

alshiglini@gmail.com

 

آراء