الديمقراطية في السودان (2) Democracy in Sudan (2) ليو سيلبرلمان Leo Silberman ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي مقدمة: هذه ترجمة لبعض ما ورد في الجزء الثاني من مقال عن تاريخ كتابة الدستور والانتخابات والديمقراطية بالسودان في السنوات التي سبقت وتلت الحكم العسكري الأول، نشر في عام 1958م بالعدد الثالث من المجلد الثاني عشر لمجلة "الشؤون البرلمانية Parliamentary Affairs" التي تصدر عن دار نشر "أكسفورد أكاديميك". ولقد سبق لنا ترجمة مقالين نشرا في نفس المجلة هما "الانتخابات في السودان خلال عهد النظام العسكري" لأستاذ هندي بجامعة الخرطوم، و"الانتخابات العامة في السودان" للقاضي الهندي سوكومار سن والإداري السوداني مكي عباس. والكاتب ليو سيلبرلمان (1925 – 1960م) هو مؤرخ وعالم اجتماع بريطاني تخرج في جامعة لندن. وكان مهتما بالصراع في القرن الأفريقي، وبتاريخ شرق أفريقيا والسودان، وتحليل مجتمعاتها. وله عدد من الكتب والمقالات أهمها كتابه "أزمة في أفريقيا Crisis in Africa" ومقال طويل عن الصراع في القرن الإفريقي بعنوان: "لماذا تم التنازل عن هاود؟ Why the Haud was ceded". وتم استشارته كعالم اجتماع في إنشاء وتخطيط بعض المدن الأفريقية مثل نيروبي ومومباسا وبورت لويس وموريشيوس. يمكن النظر في مقالات مشابهة لهذا المقال مثل مقال البروفيسور البريطاني بيتر وودويرد المعنون "هل السودان قابل للحكم؟ بعض الأفكار حول تجربتي الديمقراطية الليبرالية والحكم العسكري"، ومقال البروفيسور الأمريكي وليام آدمز "عدم المساواة والديمقراطية في السودان عبر التاريخ". أسدى الكاتب في باب "الشكر والعرفان" الثناء على السيدين كي. جي. كروتكي وعثمان عبد السلام (من قدامى موظفي مصلحة الإحصاء) لتقديمهما له بعض النصائح والمقترحات بخصوص كتابة المقال. وبدوري أشكر الأستاذ صديق محمد عثمان لجلبه لي هذا المقال لترجمة بعض أجزائه. المترجم **** **** **** التحالفات داخل السودان لم تكن مصر ببعيدة عن التدخل في شؤون جارها الجنوبي بسبب مصالحها الحيوية في مياه النيل. وفي هذا الأمر، كانت مصر تختلف عن بريطانيا التي ليست لها مصالح بذات الأهمية والحيوية في السودان. غير أنه يجب الإقرار بأن الصراعات الداخلية بين السودانيين أنفسهم كانت من أهم العوامل التي شجعت مصر على التدخل. وهنا يجب تذكر عدد المرات الكثيرة التي توافدت فيها جماعات الأحزاب المختلفة على القاهرة. فالسوداني الذي يسكن المدينة يشتري البضائع المصرية (وقد يبيع لها بعض بضائعه)، ويتعلم أبنائه على يد أساتذة مصريين، وهو يقرأ الأدب المصري بشغف. والقاهرة، على كل حال، مدينة جاذبة للسواح، وللمرضى الذين ينشدون العلاج – وتعلق الطبقة المتوسطة السودانية أهمية كبيرة على مسألة العلاج بمصر. ولعل علاقة السوداني بمصر أقوى من علاقته برجال قبيلته. غير أن الدستور الانتقالي الذي قدمته حكومة عبد الله خليل كان قد غَبَنَ المدن بعض الشيء. وكان ذلك الدستور قد أقر مبدأ "صوت واحد لكل فرد"، وأصلحت من الفروقات الكبيرة بين الدوائر في الريف وفي الحضر. ففي عام 1953م مثل نائب واحد 43000 نَسَمة في 11 من دوائر المدن، بينما مثل نائب واحد نحو 120000 نَسَمة في 81 من دوائر المناطق الريفية أو شبه الريفية. وكان التحيز للدوائر الانتخابية في المدن واضحا حتى تحت مظلة الدستور الانتقالي، إذ كانت الفروقات بين أعداد الناخبين في دوائر الحضر والريف كبيرا. فقد كانت الدائرة الواحدة في المدن تمثل في المتوسط 53000 نسمة، في مقابل 60000 نسمة لكل دائرة في المناطق الريفية أو شبه الريفية. (للمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع لمقال أ.د/ أحمد إبراهيم أبو شوك المعنون "التجربة الديموقراطية في السودان بين عامي 1953 – 1958م"، والذي نشر في المواقع الاليكترونية يوم 13/6/2016م. المترجم). وألغيت في التوزيع الجديد للدوائر الانتخابية دائرة الخريجين ذلت المقاعد الخمسة، والتي كانت قد أتت (في انتخابات عام 1953م) بثلاثة نواب من الحزب الوطني الاتحادي، ونائب مستقل واحد (انضم لحكومة عبد الله خليل وزيرا للخارجية)، ونائب واحد من الجبهة المعادية للاستعمار. وصار ثلاثة أخماس أعضاء مجلس الشيوخ ينتخبون من قبل كل الذكور الذين بلغوا سن الثلاثين فما فوق، وليس من قبل 5000 نسمة فحسب. ونص على أن يتم تعين الحكومة 20 أعضاء مجلس الشيوخ، من جملة 50 عضوا في ذلك المجلس. غير أن وزن هؤلاء في الجلسات المشتركة لمجلسي النواب والشيوخ قد تناقص كثيرا بسبب الزيادة الكبيرة في عضوية مجلس النواب. وكبحت تلك "الثورة الديمقراطية" من تأثير أبناء المدن، الذين كانوا هم المحرضين على قيامها ابتداءً. وصار أصحاب التأثير الأقوى هم سكان الأرياف (البعيدة) بسبب انتمائهم للطائفتين الدينيتين الكبيرتين: الختمية بقيادة السيد علي الميرغني، والأنصار بقيادة السيد عبد الرحمن المهدي، ولكل منهما أكثر من ثلاثة ملايين من الأتباع. ولد السيد عبد الرحمن بعد وفاة أبيه، وعاش سنوات طفولته وصباه فقيرا معدما. غير أن دخوله عالم زراعة القطن جعلت منه أثرى رجل بالسودان بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وزعيما لطائفة "الأنصار"، وراعيا لحزب الأمة. غير أن الحركة الألفية (chiliastic movement) التي قام بها المهدي لم تعد تهم الطبقة المتوسطة (من التجار وغيرهم) في المدن. بل وعد إسماعيل الأزهري في ديماغوجية لا تشبه السودانيين بتأميم ممتلكات السيد عبد الرحمن المهدي وأراضيه من أجل القضاء على المهدية (لم يورد الكاتب مرجعا لهذا الزعم. المترجم). وورد في صفحتي 234 – 235 من كتاب "الإسلام في السودان" للقس ترينجهام: "كانت المهدية دولة جديدة في هذا العالم. دولة حكم الله في الأرض. كانت دولة ثورية الطابع. لم تكن تدين بالولاء لغير العقيدة ... تلك العقيدة التي تتخطى الروابط القبلية، والصراعات الجهوية، والتي لا تهدف إلا العمل سويا من أجل رفعة دولة تلك العقيدة. لذا أسموا اتباعهم "الدراويش"، ربما بسبب ارتدائهم "الجبب المرقعة" في دلالة على المساواة بينهم. ثم تم تغيير ذلك الاسم إلى اسم أكثر شرفا وهو "الأنصار"، تيمنا بأنصار النبي في المدينة... ومثل ذلك التغيير في الاسم تغيرا في اتجاه الحركة. لم يكن المهدي يرغب في أن تعد حركته مجرد "طريقة صوفية" جديدة، بل كان يرغب في أن تعد حركته حركة تبادر بالتبشير بنظام عالمي جديد". وتجد في كتاب تشرشل وصفا لمراحل التغير التدريجي في قواعد المساواة في دولة المهدية، والتي يمكن ملاحظتها مع مرور السنوات. ولم يكن من غير المعقول توقع أن يسعى ابن المهدي ليغدو ملكا على السودان، مثلما فعل السنوسي في ليبيا، أو رئيسا لها على الأقل (استخدم الكاتب اسم "السودان" باعتباره مؤنثا؟! المترجم). غير أن الختمية (أو المراغنة) لم يكن يقبلون دعوة المهدية ابتداءً، ودارت بينهما في كسلا معارك دموية، ولم يكن للسيد علي الميرغني أن يقبل بالسيد عبد الرحمن ملكا أو رئيسا للسودان، وذلك لأسباب تاريخية ودينية معروفة. لذا ظل السيد الميرغني يساند قيام مجلس سيادة يحكم السودان، يتكون من عدد من الأشخاص. وبالفعل تكون مجلس للسيادة من خمس شخصيات، ولا زال مستقبل ذلك التدبير (العجيب نوعا ما) يوسع من شقة الخلاف بين زعيمي الطائفتين، حتى بعد اتفقا على خوض معركتهما معا في ساحة الانتخابات والوزارة. وكان لكل من الزعيمين الطائفين تأثيرا قويا (ومتساويا) على أتباعهما. وسجل القس ترينجهام في كتاب "الإسلام في السودان" (صفحتي 234 – 235) ما يلي عن السيد علي الميرغني: " السيد علي الميرغني من السلاسة المباشرة للأب المؤسس للطريقة الختمية (محمد عثمان الميرغني، 1793 – 1853م، المعروف بسر الختم). وهو بهذه الصفة يعد القَيِّمُ على الطريقة والطائفة الدينية، ويمتلك تأثيرا قويا وغامضا على أتباع طريقته، الذين يضفون عليه قداسة مفرطة (في الأصل "شبه إلهية semi - divine ". المترجم)، ويضعون أنفسهم وما كل ما عندهم تحت تصرفه. ويوجد غالب أتباع السيد علي الميرغني في شرق السودان (حيث غالب السكان من الحاميين)، بينما يتركز غالب أنصار السيد عبد الرحمن المهدي في غربه (حيث غالب السكان من الزنوج وأشباه الزنوج). أما في الجانب السياسي، فقد كان السيد علي يميل دوما نحو المصريين (إذ كان قد فر من السودان ولجأ إلى مصر في غضون سنوات حكم المهدية). أما خصمه، السيد عبد الرحمن فقد كان لا يكتم عداوته لمصر. ورغم كل ذلك فقد جمعت بين الزعيمين العلمانية (أو مُضادّة الطائفية) في المدن، ونظرة القلق المشتركة فيما يتعلق بغير المسلمين في الجنوب. فلم يكن سكان المدن وحدهم هم، بل جميع سكان الشمال، يحسون بالقلق من الديمقراطية ويتوجسون منها شَرّاً. وكانت قاعدة "صوت واحد لكل فرد" بالطبع في صالح الجنوبيين الأشد "ريفية / تخلفا" من مسلمي الشمال، والذين لم يمثلوا بالقدر الكافي في انتخابات 1953م (إذ قل تمثيلهم حينها بنحو 22% بالمقارنة مع الشمال). لقد خدع الجنوبيون في الصاغ المصري صلاح سالم، الذي مناهم بـ "الجنوبة" (أي إحلال الجنوبيين محل من كانوا في الوظائف من الأجانب). وأصيب الجنوبيون بعد ذلك بخيبة أمل عظيمة لإخفاق استقلال السودان في تحقيق أي ترقية حقيقة لزعمائهم. وزاد الاستقلال من مشاعر عدائهم للشمال وللتجار الشماليين في الجنوب، الذين كان غالب الجنوبيين يعانون من الديون التي تراكمت عليهم منهم (!؟ المترجم). وكان الجنوبيون يؤمنون بأن رجال الشمال عنصريون، يزدرونهم، وسبق لهم أن استعبدوهم (في سنوات ليست بالبعيدة). وأفضت كل تلك العوامل (وغيرها بالطبع مما كشفته لجنة تقصي الحقائق لاحقا) إلى تمرد الجنود الجنوبيين (بمدينة توريت. المترجم). وعقب إخماد ذلك التمرد تنادى ساسة الجنوب في حزب الأحرار (الجامع لعدد كبير من ساسة الجنوب من مختلفي التوجهات) للدعوة إلى اللامركزية في الحكم، والحكم الذاتي للجنوب. وأشار السير ايفور جينينق عند زيارته للسودان عام 1958م إلى الصعوبات الاقتصادية العملية التي تواجه قيام اتحاد فيدرالي بين شمال السودان وجنوبه. (ايفور جينينق، 1903 – 1965م، أكاديمي ومحامي بريطاني يعد حُجَّة في القانون الدولي، وسبق لنا ترجمة ما سجله في تلك الزيارة بعنوان: " يوميات زيارة السودان". المترجم) ولكن واصل الجنوبيون في مطالبتهم بتلك الفيدرالية، وتصاعدت مخاوفهم واحتجاجاتهم في كل مناطق الجنوب، خاصة تلك التي كانت في الأطراف البعيدة وتعاني من التخلف والإهمال. غير أن نصيحة الغريب قلما تجد لها آذانا صاغية. ومن جهة أخرى، ظل الشمال يردد دوما أنه يدعم الجنوب (في كل مقومات حياته)، ويتهم الجنوبيين بأنهم يوالون الاستعمار، وينتظرون العون دوما من "بني جلدتهم" في أوغندا والكنغو البلجيكي. ولعل السبب في ذلك كان هو مناشدة بعض زعماء التمرد لكينيا بالتدخل العسكري في الجنوب. ويعتقد دينكان بأن جنوب السودان كان سيلقى عونا من أوغندا أو الكنغو إن كانتا دولتين مستقلين في تلك الأيام. قد يغدو جنوب السودان – على المدى الطويل - أغنى منطقة في السودان. ولا غرو، فمعدل الانجاب فيه (59 لكل 1000 نسمة) أعلى مما هو في الشمال (43 لكل 1000 نسمة) بحسب نتائج إحصاء السكان في عام 1956م. وورد في تقرير لجنة الأشراف على ذلك الإحصاء أن هنالك "غزوا" من الجنوبيين قد بدأ نحو الشمال. ففي عام 1956م وجد أن هنالك نحو 311,000 جنوبي في شمال السودان، وأعدادهم في ازدياد. وكان ما جذب الجنوبيين للشمال هو بالطبع الفرص الاقتصادية المتوفرة في مدن الشمال. وهي ذات الفرص التي وجدها النيجيريون وسكان أفريقيا الفرنسية في عمليات لَقَط القطن. ومع التوسع المرتقب في زراعة القطن، من المتوقع ازدياد الطلب على العمالة الأجنبية، وعلى الأرض من رجال الأعمال المصريين الذين يعانون من ضيق الرقعة الزراعية ببلادهم. ويؤمل أن تجمع الأرض – على المدى الطويل – من كل تلك العناصر المتنوعة المختلفة. والمصريون، على وجه العموم، أقل تأبيا على الزواج من فتيات جنوب وغرب السودان من رجال شمال السودان النيلي، الذين تكبلهم قيود وعادات العشيرة الضيقة. ولا يزال ظهور "زنوج غرباء" في أي محطة للسكة حديد في الشمال يثير حفيظة بعض المسافرين الشماليين، وربما يدعوهم للتفوه ببعض العبارات العدائية. واتضح من الإحصاء الذي أجرى استعدادا لانتخابات عام 1958م أن الأجانب بالسودان يبلغون نحو 207,000 نسمة، يعمل معظمهم في مختلف المهن اليدوية، وهم يسيرون في طريقهم من بلادهم في رحلة الحج للأراضي المقدسة، التي تستغرق نحو عقد من الزمان. وهنالك نحو 300,000 من غرب افريقيا يعدون الآن سودانيين. وجميع هؤلاء يتحدثون بمائة وخمسة عشر لغة، ولا يتحدث بالعربية إلا ما يفوق نصفهم بقليل. ورغم ذلك فأن اللغة المستخدمة في المدارس والمحاكم والجيش والانتخابات هي بالطبع العربية. ولا شك أن الحياة العصرية في السودان تتجه للتعريب، رغم أن العرب يشكلون ما نسبته 39% من السكان، بينما يشكل الجنوبيون 30%، وسكان الغرب 13%، والبجا والنوبة والنوبيين 9%، والأجانب 3%. وغالب ما يتم التجنيد للجيش من رجال جنوب النوبة، والمناطق البعيدة الأخرى. ومعلوم أنه يتعذر التواصل بين مناطق السودان المختلفة في موسم الأمطار بسبب رداءة الطرق، رغم أن الطيران (بواسطة الخطوط السودانية) والسكة حديد، خاصة لنيالا قد سهل من بعض تلك الصعاب. وهذا مما من شأنه أن يمهد لتنمية اقتصادية في تلك المناطق، شريطة توفر رأسمال مناسب. غير أنه على المدى القريب (وهذا ما يهم الساسة) فإن تسهيل التواصل والحركة في البلاد بين كل تلك المجموعات البشرية من المحليين والغرباء أمر يبعث على القلق. فالعلاقات بين سكان الشمال بمختلف طوائفهم ومناطقهم وبين سكان الجنوب، وبين سكان وادي النيل وبين الشرق والغرب يمكن أن تثار بسهولة – خاصة عندما ترتفع حدة الخلافات السياسية بينهم، وهم في حالة فقراء مادي، فتدفعهم لصدامات عنيفة. تدهْور وانهيار الديمقراطية في السودان انتخابات 1958م – انتصار ديمقراطي كانت انتخابات فبراير عام 1958م هي ذروة التطور الديمقراطي بالسودان. ولأول مرة أقر قانون الانتخابات الجديد إنشاء مفوضية انتخابات سودانية للأشراف على تلك الانتخابات. وغدا رئيس تلك المفوضية فيما بعد هو الوكيل الدائم لوزارة الداخلية، وهي أعلى وظيفة في السلك الإداري الحكومي. ودل ذلك على التقدير الكبير الذي كانت الحكومة تكنه لمن تولى منصب رئيس مفوضية الانتخابات. واتضح من النظر لتلك الانتخابات أنه لم يكن من نالوا قدرا من التعليم وحدهم هم من كان بإمكانهم التصويت في تلك الانتخابات، بمعرفة تامة بما يفعلونه. ولم يكن مطلوبا من موظفي الانتخابات التحقق من ذلك على كل حال. ولاحظ المراقبون الصفوف الطويلة وهي تنتظر في صبر للإدلاء بصوتها، ولاحظوا أيضا الدقة والحرص التي أبداها كل ناخب وهو يملأ البيانات ثم يدلو بصوته. وشوهد شيخ كبير وهو ينشج باكيا لما أدرك أنه وضع علامة (x) في المكان الخطأ، فأفسد بطاقته الانتخابية. غير أن البطاقات الانتخابية التي استبعدت بسبب مثل تلك الأخطاء كانت قليلة نسبيا. وأثبتت مفوضية تلك الانتخابات في عدد المرات خطل الرأي الذي كان يردده المستعمرون دوما من أن كشف سجل الناخبين هو أكثر الوسائل فعالية لمنع الممارسات الفاسدة في الانتخابات. وقام نواب مديرو المديريات بالأشراف على الانتخابات، وذلك تحت رئاسة مفوضية الانتخابات. واستعانت المفوضية كذلك بـ 591 فردا من بالمدرسين وموظفي الحكومات المحلية وصغار الفنيين للعمل في الدوائر المختلفة. واستخدمت المفوضية أيضا ما مجموعه 574 سيارة لإنجاز أعمالها في كل أرجاء البلاد. وكتب صحافي أمريكي في "مجلة الشرق الأوسط" في خريف 1958م في مقال له عن تلك الانتخابات بأن موظفي تسجيل الانتخابات كان يذهبون للناس في أماكنهم وذلك "اتباعا لممارسة بريطانية عريقة، بعكس الممارسة الأميركية التي لا تتحمس عادة للذهاب للناخبين في أماكنهم". وبدأ تسجيل الناخبين في سبتمبر من عام 1957م، ونشرت كشوفات الناخبين في يوم 22/ 11/1957م، ثم تم بعد ذلك تلقي شكاوى المعترضين على الأسماء في الكشوفات. وأصدرت المفوضية كتيبا مفيدا يتضمن قانون تلك الانتخاب، ولكنها أوصت مسئولي الانتخابات بعدم التشديد في التطبيق الحرفي لدقائق ذلك القانون. فعلى سبيل المثال إن اقتنع موظف الانتخابات تماما بأن من يقف أمامه ليسجل اسمه هو سوداني فعلا، فعليه أن يسجله، وعلى من يشك في "سودانية" الرجل أن يعترض لاحقا بالطريقة المعتادة. وبلغ عدد الاعتراضات على إدراج أسماء بعض المسجلين في تلك الانتخابات 16,004، وكان جلها يدور حول شهادات الجنسية التي منحت للآلاف في الأيام القليلة التي سبقت أيام تسجيل الناخبين. وكان معظم الحاملين لتلك الشهادات من المهاجرين من غرب أفريقيا (خاصة شمال نيجيريا)، والذي بقوا بالسودان لسنوات طويلة (واستحقوا نيل الجنسية السودانية قانونا). وكان كل هؤلاء تقريبا من المؤيدين للطائفة المهدوية (وجناحها السياسي، حزب الأمة) من العاملين بمشروع الجزيرة. وقبلت المفوضية نحو ربع تلك الاعتراضات. ومن جملة 10,2 مليون نسمة تم تسجيل 1,582,909 ناخبا (أي 77% من جملة السكان الذين كان يحق لهم التصويت في الانتخابات). وكانت تلك النسبة أقل مما كان متوقعا. ونشرت في 21 يناير 1958م السجلات النهائية للذين يحق لهم التصويت. وحدد يوم 26 يناير 1958م كآخر يوم لتسجيل المتنافسين في الانتخابات. وسمح للمعترضين بالتقدم باعتراضاتهم على المرشح بدعوى أنه أمي أو غير سوداني. وتحسبا من شطب اسم أحد المرشحين، قد يقوم الحزب بتقديم أكثر من مرشح في الدائرة الواحدة. ففي انتخابات عام 1953م خسرت إحدى الدوائر لأن اسم أحد المرشحين قد شطب بسبب اكتشاف أميته. وقبلت لجنة الاستئنافات في انتخابات عام 1958م اعتراض 18 من المعترضين على بعض المرشحين. وفي يوم التصويت تنافس 648 مرشحا (كانوا في الأصل 828) للفوز بـ 173 مقعدا في مجلس النواب، و146 مرشحا (كانوا في الأصل 187) للتنافس على الفوز بـ 30 مقعدا في مجلس الشيوخ. ولم يتم التنافس على 10 دوائر في انتخابات 1953م، وعلى دائرتين في انتخابات 1958م. ورغما عن الاتهامات التي صوبت للحكومة عن تحكمها (بسلطة القانون) في تحديد الحدود الجغرافية لبعض الدوائر، وتلاعبها (jerrymandering) في حدود ثلاث دوائر انتخابية لمصلحة مرشحي حزبها، إلا أن من فازوا لاحقا في تلك الدوائر كانوا من معارضي الحكومة. وكان خير دليل على نزاهة تلك الانتخابات هو سقوط وزير الداخلية في دائرة الخرطوم بحري، وهو أمر غير معتاد في دول الشرق الأوسط (كان ذلك الوزير هو علي عبد الرحمن الضرير. المترجم). ويستحق الشعب السوداني وأحزابه كل التهنئة بنجاح تلك الانتخابات من دون عنف أو تخويف أو تهديد. فقد قبلت نتائج الانتخابات بكل هدوء، وقدم الفائزون للعاصمة من الأرياف بأرتال من الحافلات (اللواري) ليشهدوا الليالي السياسة والاحتفالات بالنصر. ومنعت مفوضية الانتخابات استخدام الإذاعة للدعاية الانتخابية لأي من الأحزاب أو المرشحين. وقيل إن المفوضية ندمت على ذلك المنع لاحقا. ولم تستخدم الملصقات في تلك الانتخابات إلا قليلا. ولكن شهدت الانتخابات قبل وبعد اعلان النتائج مظاهر ابتهاج عظيمة، عندما كان المؤيدون لمرشح ما يودعون رجلهم بمواكب فرسان ومسيرات حاشدة وهم يحملون الرايات ويهتفون ويسابقون القطار الذي يحمل مرشحهم للخرطوم. وشهدت الليالي السياسية مظاهر مختلفة. ففي الشرق كان الهدندوة يبدؤون ليلتهم بإلقاء قصائد حماسية، بينما يبدأها جمهور دارفور بصلاة وأدعية. وكان السيد عبد الرحمن قد أشترى طائرة صغيرة (تسع ستة راكب فقط) ليطوف بها من تجمع لأنصاره إلى آخر، وهو في ملابسه الأنيقة، وبهدوئه ووقاره وهيبته (في الأصل godlike. المترجم). وكان لمنظر الطائرة وهي تطير وسط السحاب وتشق عباب السماء بالغ الأثر على أنصاره وجماهير حزب الأمة في الأقاليم البعيدة. وكان التنقل بين مناطق السودان البعيدة عسيرا جدا، ووضح أن التغلب على تلك المعضلة للوصول إلى الناخبين هو مفتاح النصر في الانتخابات. وسرت بين الناس اتهامات للحزبين الكبيرين بتلقي أموال من مصر والسعودية. وكان الحزب الوطني الاتحادي يشتكي دوما من الفقر، ويزعم أنه "حزب الفقراء" ويحتاج للعون المادي. وكانت الخيارات قليلة جدا أمام الناخبين والمرشحين في المناطق المتخلفة التي تحتاج لتنمية. فالجميع - رغم اختلاف التوجه السياسي –كان يساند التوسع في التعليم، والخدمات البيطرية، والتنمية الاقتصادية. لذا كانت المثالب الأخلاقية للزعماء والمرشحين الآخرين هي الموضوع المفضل للخطباء في الليالي السياسية وغيرها. وكان الولاء للمكان والقبيلة يفوق أحيانا الولاء السياسي. وما يزال كتاب وينجت "المهدية في السودان المصري" هو المصدر الرئيس لكيفية الانتخاب. فالأصوات تذهب للمرشح بحسب موقف والداه من المهدية. فالمرء يولد في حزب معين ويظل فيه، وليس هنالك من أصوات غير محددة، قد تذهب إلى هذا الحزب أو ذاك (floating votes). ولا تزال "معركة كرري" تدخل في أحاديث الناس اليومية، كما كان الناس يتحدثون في بريطانيا في عهدها الفيكتوري عن "معركة والترلو"! وتكثر في أيام الانتخابات الوعود. فقد وعد الحزب الوطني الاتحادي مزارعي مشروع الجزيرة بزيادة نصيبهم في أرباح المشروع بما قدره 12%، فردت الحكومة بوعد مختلف بـ "النظر في أمر زيادة نصيب المزارعين". وسارع سياسي من شباب الختمية بتأييد ذلك الوعد. وتحالف في تلك الانتخابات حزب الشعب الديمقراطي (وراعيه السيد علي الميرغني) مع حزب الأمة، ولم يتنافسا في أي دائرة سوى في دائرة واحدة. غير أن حزب الأمة أدرك لاحقا (ومتأخرا) عدم جدوى التحالف مع حزب مستمسك بتوجهاته الموالية لمصر، رغم أن مصر ما انفكت تتدخل في الشأن السوداني. وأخفقت "الجبهة المعادية للاستعمار" في تلك الانتخابات في الفوز بأي مقعد في المجلسين. فقد تقدمت بـ 15 مرشحا لم يفز منهم أي واحد في أي دائرة. بل نال أحد مرشحيهم في دائرة بالخرطوم بحري (وغالب سكانها من العمال) 300 صوتا فقط، وانتزعها منهم (ومن حزب الشعب الديمقراطي) مرشح الحزب الوطني الاتحادي، رغم أنه كان قد خرج من السجن لتوه بعد ادانته بتهمة التحريض. وفقد مرشح "جبهة التحرير" التي أنشأها أحد أفراد عائلة الخليفة مبلغ التأمين الذي وضعه عند ترشحه. وفاز في دائرة شمال كبويتا رجل شرطة سابق بـ 169 صوتا، في مقابل 131 نالها خصمه. غير أنه يجب القول بأن نسبة التصويت في الشمال في انتخابات عام 1953م (69.9%) كانت أعلى من نسبتها في انتخابات 1958م. غير أن نسبة التصويت في كثير من المناطق الحضرية بلغت نحو 95%، مقارنة مع نسبتها في انتخابات 1953م، حيث لم تتجاوز النسبة 50%، حتى في العاصمة. وشارك في اليوم الأول للانتخابات 3,633 موظفا، استيقظوا منذ الرابعة صباحا وظلوا في مواقع عملهم حتى وقت متأخر من الليل. ومدت فترة التصويت لعشرة أيام في المناطق البعيدة المترامية الأطراف. ووضع تحت تصرف مفوضية الانتخابات اسطول مكون من 1,313 سيارة. ونال الترحيل نصيب الأسد من الميزانية الكلية التي خصصت للانتخابات وقدرها 440,000 من الجنيهات السودانية. وجريا على عادة السودانيين، انتقدت مفوضية الانتخابات نفسها في تقريرها الختامي لعدم توقعها ما أحدثه تأخير وصول حبر نترات الفضة الذي كان من المفروض أن يمسح به أصبع كل ناخب منعا للتزوير وانتحال شخصية الغير (استبعد ذلك الحبر فيما بعد). وكان انتحال شخص لشخصية شخص آخر في تلك الانتخابات ضعيفا جدا على كل حال بسبب معرفة كل ناخب أن عيون العالم كانت في أيام الانتخابات تلك مصوبة على السودان، تراقبه. (؟! المترجم). ولم تسجل غير 200 حالة انتحال شخصية في كل أنحاء السودان. ولعل مرد قلة تلك الحالات هو العامل الثقافي الخاص بالسودان، وربما لا ينطبق ذلك على غيره من شعوب الديمقراطيات الجديدة. ولكن يجب أن أضف هنا أن هؤلاء الشعوب الأخرى لا يجاورون المصريين!