أخبار الوزارات : مزاجية وفوضى
أقرب إلى القلب :
Jamalim1@hotmail.com
(1)
من ينظر بعين فاحصة لبعض جوانب الأداء الحكومي في السودان ، يرى مدى الاستهانة بمؤسسية الأداء الإعلامي ، فيرى الركون إلى نوع من المزاجية والفوضى، في الإخبار عن أداء الوزارات والهيئات الحكومية . وإن كنت لا أجرؤ على التعميم ، دونما مسوغات، ولكن مثل هذه السلوكيات – وللأسف- آخذة في التصاعد والانتشار، والأمثلة كثيرة ولا تحصى بيسر.
آخر ما سمعت وقرأت، قراراً يصدر من مكتب وزاري بالتعليم العالي، يستثني شخصاً ما، لا يحمل درجة البكالوريوس، وهي الدرجة الجامعية الأساسية ، فيسمح له بموجب ذلك القرار الوزاري، أن يشغل وظيفة محاضرٍ بإحدى الجامعات الولائية. وأول سؤال يتبادر إلى الذهن هو : هل للوزراء صلاحيات تتجاوز صلاحيات وزاراتهم واختصاصاتها الإدارية التي يسندها القانون وتنظمها اللوائح ..؟ وهل يعلم كل وزير وقف على رأس وزارته ، تلك النقطة التي تبدأ منها وتلك التي تنتهي عندها صلاحيات وزارته، وفق ما حددته نصوص الدستور الساري، وهو الوثيقة الأساسية التي تحكم أداء الدولة، أو القوانين واللوائح الملزمة؟ لا يتعلق الأمر عندي بضوابط الجودة وتحسين الأداء، بل هو يتصل بأبجديات الأداء نفسه، ومدى الالتزام بلوائح العمل الأساسية، والتنسيق المأمول بين دواوين الحكم..
(2)
ثمّة مثال آخر لفت نظري ، عن خبرٍ نشرته الصحف المحلية، وبثته القنوات الفضائية ، وبصيغة واحدة تقريباً، ومفاده أن وزارة الصحة الاتحادية، "منعت" السفارات السودانية من منح الموافقة على عمليات التبرع ونقل الكلى بالخارج، إلا بعد الرجوع سلطات وزارة الصحة. الذي نعلمه أن سفارات السودان بالخارج تتبع لوزارة الخارجية ، وهي الوزارة المعنية بشئون السودان في الخارج. أما وزارة الصحة الاتحادية ، فمبلغ علمنا وعلم الجميع، أنها معنية بشئون الصحة في داخل البلاد، أمّا ما يتصل بالخارج من شئون الوزارات، فهو أمر يقع ضمن اختصاص وزارة الخارجية ، وهي الجهة التي تملك صلاحية توجيه يعثاتها الدبلوماسية بالخارج في كل ما يتعلق بعلاقاتنا الخارجية. . الأوجب إذن، وحسب توصيف صلاحيات الوزارات المضمنة في الدستور الانتقالي الساري، هو أن ترجع وزارة الصحة الاتحادية للتنسيق مع وزارة الخارجية حول إخراج القرارات المتصلة بالعلاج قي الخارج، وعلى سفارات السودان التأكد من أن التوجيهات ترد إليها من رئاسة وزارة الخارجية..
المدهش في الأمر، أن وزارة الخارجية لم تأخذها الغيرة على اختصاصها الأصيل في توجيه سفاراتها بالخارج ، إذ ليس لوزارة الصحة الاتحادية هذا الحق، فتعامت عن الإشارة لهذا التغوّل، وكأنها رأته أمراً لا يستحق الإلتفات إليه. كدتُ من عجبٍ أن أردّد مع المغنّي : " أغالط نفسي في إصرار وأقول يمكن أنا الما جيت"..!
(3)
ربّما يقول قائل إن نشر خبر وزارة الصحة الاتحادية على هذا النحو، جاء من صحفيٍّ قليل الإلمام بصلاحيات الوزارات الاتحادية، وتفاصيل اختصاصاتها. لكن صيغة تصريح وزارة الصحة الإتحادية بمنع السفارات السودانية من اعتماد عمليات نقل كلى بالخارج، والذي نشرته معظم الصحف الورقية وكذلك القنوات الفضائية ، يفيد بكل وضوح أنّ المصدر واحد، وهو وزارة الصحة الاتحادية، وما من إشارة إلى وزارة الخارجية.
خلاصة الأمر، أننا أمام ظاهرة تتصل بتخليط، إما عن جهل أغلب الظنّ أنه غير متعمّد من طرف إعلام وزارة الصحة الإتحادية ، وإمّا عن قلة خبرة من طرف صحفيين أو محررين، في الصحافة المقروءة أو الصحافة المسموعة والمشاهدة، فبثوا الخبر دون تمحيص ومراجعة. من المؤسف أن مثل التخليط وإن بدا طفيفاً، يعكس أمرين . الأمر الأول يتصل بوزارات لا تدرك مدى صلاحيات نشاطاتها ، والثاني يتصل بصحافة لا تهتم بتحرير وتمحيص موادها الخبرية.
(4)
مفتاح الحلّ في كلا الأمرين، يتلخص في ضرورة أن يوكل الموضوع يرمته لمتحدث رسمي بإسم كلّ وزارة ، يكون ملماً بأوضاع الوزارة التي ينطق بإسمها ، مدركاً لاختصاصاتها وصلاحياتها. إن كان لوزارة الصحة من ينطق بإسمها ، فعلى تلك الوزارة أن تختار من بين العاملين فيها، من يمتلك قدرات إعلامية فوق تخصّصه في مجال الطب . وإني لعليم أن من الأطباء المختصين في تلك الوزارة من يملك القدرة والمزاج الإعلاميين، فيقوم بتلك المهمّة، فيجنب وزارته التصريحات العشوائية التي تخسر معها احترام المواطن لوزارة، لا تعرف حدود صلاحياتها ومسئولياتها . .
أما المحررون الصحفيون، فمنهم من ينبغي أن تُصقل قدرات التحرير لديهم، وتجوَّد معرفتهم بالمعلومات الأساسية عن نظام الدولة والحكم، واختصاصات الوزارات، وذلك قبل صقل قدراتهم اللغوية والتحريرية التي تعينهم في صياغة الأخبار .
(5)
أكثر ما نخشاه أن نرى نقص التأهيل ، ليس عند الطلبة الدارسين فحسب ، بل عند معلميهم من أساتذة ومحاضرين. في بعض المؤسّسات التعليمية الأكاديمية، نجد من يتعامل مع معايير تعيين الأساتذة والمحاضرين باستهانةٍ، يتجاوز بها المعايير المطلوبة في المعلم الجامعي، بمثلما أشرنا في المثل الأول الذي أوردناه أول المقال ، إن صدق نبأ تعيين محاضر بإحدى الجامعات، لا يملك شهادة الجامعة الأساسية . إن كان الحال كذلك، فإن على وزارة التعليم العالي أن تدافع عن معاييرها في اعتماد معلمي الجامعات ، وأن نسمع من ناطق رسمي عنها بذلك. غير أننا نرى في سلوكيات بعض الوزارات، أنها تتصرّف وكأنها جزر معزولة لا تنسيق بينها. يصرّح من موظفي الوزارات والمؤسّسات الحكومية، من يصرّح كيفما اتفق، ويكتب محررو الصحف من ناشئة الصحفيين، ما يروق لهم، دونما التفات لوثوقٍ من معلومة، أو اهتمام بمصداقية . . ذلك ملمح جدّ خطير، ويعكس فوضى في التصرّف، وضعفاً في الأداء المؤسّسي في أجهزة الدولة، يستوجب تقويماً لضبط المؤسسية، وتقييماً لتحسين الأداء. .