“ترامْب”: النّظرُ إلى الدّبلومَاسـيّةِ في غَضـَب
أقرب إلى القلب:
Jamalim1@hotmail.com
(1)
سنوات ما بين الحربين العالميتين الأولى ( 1915م-1918م) والثانية (1938م-1945 م)، شهدت تطوراً نوعيا في الممارسات الدبلوماسية ، انتقلت فيه العلاقات بين الدول من طابعها الثنائي التقليدي، إلى طابعٍ جماعيٍّ مستحدث. مهدت "عصبة الأمم" التي نشأت بعد الحرب الأولى، إلى مرحلة استوجبت تعاونا أوثق بين الدول ، فشكلت تلك المنظمة الدولية، منذ عام 1920م، بداية تعاون دولي إيجابي ، مهّد إلى الانتقال بالدبلوماسية من طابعها الثنائي إلى طابعها الجماعي .
بعد الحرب العالمية الثانية، خرجت للوجود في الساحة الدولية منظمة جديدة، هي "منظمة الأمم المتحدة" وتوافقت الدول وقتها على ميثاق محكم يضبط علاقات التعاون الدولي، وفق مرئيات تحفظ الأمن والسلم الدوليين. شهدت السنوات الوسيطة من القرن العشرين، تنامي هذه الدبلوماسية التي عرفت بعد ذاك، بأنها "دبلوماسية جماعية"، أو هي "الدبلوماسية المتعدّدة الأطراف"، ساحاتها المؤتمرات الدولية والاقليمية ، وأسلوبها التفاوض والحوار المُفضي لتوافقات، رسّختْ مفاهيم التعاون في مختلف المجالات ، الإقتصادية والتجارية والإجتماعية والثقافية والإنسانية والأمنية..
(2)
في سنوات النصف الثاني من القرن العشرين، برزتْ مجالات عديدة للتعاون، حازتْ على اهتمام البلدان، كبيرها وصغيرها. التفتت الحكومات إلى قضايا دولية مثل الإتفجار السكاني ، وقضايا الغذاء وتحديات التنمية المستدامة والحدّ من التسلح، ومعالجة أزمة الطاقة وبقية الموارد المتناقصة. في العقود الأخيرة من القرن العشرين، اتسعت دوائر الاهتمام، فطالت "الدبلوماسية المتعددة الأطراف"، جوانب قضايا حقوق الانسان: المرأة والطفل، قضايا المياه والبحار والتغيّر المناخي والتحوّلات البيئية، واحتواء أسلحةاج الدمار الشامل.. ولقد أبرمت اتفاقيات دولية بعد جهود مضنية من التفاوض، قصد التوصل إلى ضبط معالجات مرضية وعادلة، لمختلف الدول التي ارتضتْ أن يكون ميثاق الأمم المتحدة وكافة الاتفاقيات المنبثقة عنه، ما قد يفضي إلى مجتمعٍ دوليّ سليم ومُعافى. ولكن برغم توافق المجتمع الدولي للإرتقاء بأحوال شعوبه وحكوماته ، إلا أنّ التنافس المحموم بين جميع القوى ، كبيرها وصغيرها، حول الموارد، وحول مناطق النفوذ ، أضعف من فرص التعاون المُعافى، فلم يسلم العالم من النزاعات والحروبات والفتن.
(3)
لعلّ هذه المقدمة لازمة لفهم نظرتنا لتصرفات الإدارة الأمريكية الحالية تحت قيادة "دونالد ترامب". في نظرة عجلى على عناوين هذه التصرفات ، لن يفوت علينا إدراك ما ترمي إليه السياسة التي تتبعها إدارة "ترامب"، ليسَ استهانة منها بالمؤسسية الراسخة في النظام السياسي للولايات المتحدة الأمريكية فحسب، بل بتعمّدها استغلال أقصى الصلاحيات المتاحة للرئيس القابع في "البيت الأبيض"، حماية للمصالح الأمريكية التي جعلها شعاراً أوحد لرئاسته.
(4)
بعد إكماله عاماً في المكتب البيضاوي الشهير في "البيت الأبيض"، دعني أحدثك للذي أراه من استهانة إدارة الرئيس الأمريكي الحالي بالالتزامات الدولية الجماعية، ويكفي مثلاً ما رأيناه من تجاهل لآليات التعاون الدولي في الساحة الدولية، وتجاوزه لمنظمات إقليمية مثل الجامعة العربية أو الاتحاد الأفريقي، أو مجموعة "الآسيان" في القارة الآسيوية. بعد أقل من شهرين، جاء "ترامب" إلى السعودية ليخاطب ملوك وأمراء ورؤساء الأفارقة والعرب، وقد رتبت إدارته لقاءاً للرئيس الأمريكي معهم، ليلقي عليهم مُحاضرة بمطلوباته منهم، ويكلفهم باعتماد مكافحة الإرهاب الدولي، معياراً رئيساً لسياسة التعاون الأمريكي معهم. .
دعني أحدثك ثانية، عن تراجع إدارة "ترامب" من دعم منظمة "اليونسكو" وقد تراجع الدور الأمريكي بما أضعف تلك المنظمة الدولية الفاعلة..
وأحدثك ثالثاً، عن قرار "ترامب: الانسحاب من اتفاقية المناخ التي لم ير فيها مصلحة للولايات المتحدة التي رفع شعاراً جاء من لسانه: "أمريكا أولاً..!" حمل ذلك الانسحاب، استهانة باتفاق دولي التزمت كلّ الإدارات الأمريكية السابقة به. .
أحدثك رابعاً، عن تنصّل الإدارة الأمريكية حول المسئوليات الأخلاقية قبل القانونية ، تجاه ظاهرة اللجوء والهجرة .. وهي السياسة التي أثارت امتعاضاً داخل الولايات المتحدة وأيضا عند حلفاء محتملين للإدارة الأمريكية في أوروبا.. إنه تنصل من التزامات جماعية رسختها القوانين والأعراف الدولية. .
أحدثك خامساً، عن محاولاته التنصّل من الاتفاق النووي مع إيران ، ليس من سببٍ، إلا لأنه يعدّ انجازا لغرمائه في الحزب الديمقراطي الذين أنجزوا تلك الاتفاقية خلال إدارة الرئيس الديمقراطي "اوباما"، التي احترمت الدبلوماسية وتقاليدها. .
أحدثك سادساً ، عن زيارة "ترامب" إلى بلدان آسيا ، فيردّد أمام قادة مجموعة "الآسيان" ، أن "أمريكا أولا" وأنه ليس مع الاتفاقيات الجماعية ، بل مع المصلحة الأمريكية أولا وأخيراً، ومع كل دولة على حدة. .
(5)
ثم إني لا أحتاج أن أذكّر القاريء الحصيف، بالتنصّل الكبير، بل وبالاستهانة الكبرى بالقرارات الدولية، وعدم احترام المواثيق والتعهّدات والالتزامات واجبة النفاذ، لدولة كبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية، لها تاريخ في مجهودات التوصل إلى تسوية مرضية للنزاع التاريخي في منطقة الشرق الأوسط. إن قرار الإدارة الأمريكية الإعتراف الرسمي بأن مدينة "القدس" عاصمة للدولة الإسرائيلية، يستهين بقرارات الشرعية الدولية ، ويستعدي الشعوب العربية، قبل الحكومات الكرتونية في المنطقة . ليس في استهانته ما يدعو للدهشة، إذا ما رأينا "ترامب" وقبل نحو ستة أشهر، يلقي درساً عن الإرهاب الدولي في العاصمة السعودية، على رؤساء وملوك وأمراء عرب وأفارقة ، ثم يعود إلى واشنطن يبشّر مواطنيه بالمليارات التي نالها بعد تلك الزيارة، والتي كللتها العنجهية والاستهانة..
للمرء أن يتساءل : أليس في قرار "ترامب" اعتماد مدينة "القدس" عاصمة لإسرائيل، من استهانة، حتى بالمؤسسة المعنية فنيا وسياسيا بالأمر، وهي وزارة الخارجية الأمريكية، التي كان عليه أن يصغي لاستشاراتها، أم أن مشاوراته مع أنسبائه والمقرّبين منه في ""البيت الأبيض"، تكفيه لإخراج قراراته الحمقاء؟ أكثر المراقبين يرون في قراره المتسرّع، هدفاً غير خافٍ يتمثل في شغل الساحة الداخلية بما يصرفها عن ملاحقة فضيحة تداعيات التدخّل الروسي في الانتخابات التي جاءت به رئيساً قليل الخبرة في العلاقات الدولية، لأكبر وأقوى دولة في الأرض...؟
(6)
لنا أن نخلص إلى نتيجة لا تحتاج لكثير استدلال : إن الإدارة التي تصرخ ليل نهار، أن "أمريكا أولاً..!" ، هي إدارة تستبطن استهانة بمواثيق ومعاهدات التعاون الدولي ، وتتنكر لمنظومة الدبلوماسية الجماعية والمتعدّدة الأطراف، بل وتهيل عليها تراب الغطرسة والعنجهية. إن في ذلك السلوك، تراجع عن طبائع المسيرة القاصدة نحو التعاون الايجابي المثمر بين الشعوب والحكومات. إنه الإنكفاء "الأمريكي" المخزي على الذات، في زمن تلاقت فيه الشعوب، واتسعت فيه مجالات الشراكات الدولية، بعد ثورة الاتصالات والمعلوماتية، لبناء مجتمع إنساني يستحق ساكنوه الحياة والعيش بكرامة . لعلّ أبشع مثال وقد جاء في واحدة من سياسات "ترامب" الخرقاء، هو التزامه ببناء جدارٍ عازل في الحدود مع المكسيك، لايقاف الهجرة غير الشرعية وزحف الجريمة إلى الولايات المتحدة. . ! يبدو أن لا نهاية قريبة لمهازل الرجل. .
(7)
باختصار، فإنّ الرّجل- وذلك أمرٌ مؤسفٌ ونظرٌ بائس- لا يعترف بالاتفاقات الجماعية، ولا يرى من شرعية لقرارات المجتمع الدولي، وأنه لا يرغب أن ينظر إلى ماهو أبعد ممّا تحت قدميه. لتذهب "الدبلوماسية الجماعية"، بل و"الأمم المتحدة"، هيئاتها ووكالاتها المتخصصة، من "اليونسكو" إلى "مفوضية اللاجئين"، إلى الجحيم.. كي تبقى "أمريكا.. أولاً..! "
بعد قرار "القدس"، فقد أكمل الرجل الجملة الناقصة : "إسرائيل ثانياً..!"
الخرطوم – 12 ديسمبر 2017