السودان، 1922 – 1927م (2 -2) : سير جورج شوستر .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

 

السودان، 1922 – 1927م (2 -2)

The Sudan, 1922 – 1927 (2 -2)
سير جورج شوستر Sir George Schuster
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

تقديم: هذه ترجمة وتلخيص للجزء الثاني والأخير من بعض ما ورد في فصل عن السودان بين عامي 1922 و1927م، ورد في كتاب مذكرات البريطاني سير جورج شوستر المعنون "Private Work and Public Causes. عمل خاص وقضايا عامة" الذي صدر عام 1979م عن دار نشر "دي بروان وأولاده" بكاوبريدج في ويلز.
وعمل سير جورج شوستر (1881 – 1982م) بعد تخرجه من جامعتي أكسفورد وبيرمنجهام في مهن مختلفة شملت القانون والمالية والإدارة في بريطانيا والسودان والهند، ثم دخل عالم السياسة نائبا ليبراليا في مجلس العموم. وبعد تقاعده عام 1962م تفرغ للعمل الطوعي الخيري في الدول النامية.
المترجم
******* ****** ************
حدثت في بعض مدن السودان حالات متفرقة ومتقطعة من الاحتجاجات الفوضوية عقب إكمال عملية إجلاء الجيش المصري وضباطه من البلاد. وظل السير ويسي ايستري، السكرتير القانوني لحكومة السودان (والقائم بأعمال الحاكم العام) يبعث لي، وأنا بالقاهرة، ببرقيات يسألني فيها عن إمكانية القيام بأعمال أكثر حسما لردع تلك الاحتجاجات. وعلى الرغم من خروج كل العاملين بالجيش المصري من السودان، إلا أن "الحكم الثنائي" ظل باقيا كما كان، وعلم مصر الأخضر يرفرف إلى جانب علم بريطانيا على أَسْطُح كل مباني الحكومة. وظل البريطانيون يرددون فيما بينهم بأنهم لن ينعموا بالأمن والأمان والسكينة في السودان ما دام "ذلك العلم الأخضر" يرفرف إلى جانب علم بريطانيا. وأرسل لي السير ويسي ايستري برقية أخيرة يطلب مني أن أضع مقترحه القاضي بإنهاء صيغة "الحكم الثنائي" أمام اللورد اللنبي، المندوب السامي البريطاني في مصر. قرأ اللنبي المقترح، ثم قذف به إلى الأرض في اِمتِعاض، وقال: " ايستري هذا رجعي عنيد. أنا لست كذلك. أخبره بأن عليه أن يستمر هكذا. وإن قامت احتجاجات وحَصَبَه المتظاهرون بالحجارة حتى مات، فسوف نجد لنا رجلا آخر أثخن جلدا يحل محله". ووجدت نفسي متفقا مع اللنبي في رأيه، ولكني بالطبع لم أنقل لإيستري تلك الكلمات القاسية حرفيا، فقد كنت متأكدا من شيئين: الأول هو أن المخاوف المحلية كان مبالغا فيها، وأن تلك الاحتجاجات ستخبو مع مرور الأيام وتنتهي تلقائيا، وثانيها هو أن الحكومة البريطانية لن تتخلي أبدا عن صيغة "الحكم الثنائي" في السودان. وأثبتت الأيام فيما بعد صحة ما كنت أعتقده.
ثم عدت للخرطوم بعد ذلك اللقاء الأخير مع اللنبي. وكان علي منذ يوم عودتي الأول العمل على حل المشاكل الاقتصادية التي كانت في انتظاري. فقد كانت الحكومة المصرية في كل السنوات الماضية تتحمل كل نفقات الجيش بالسودان (فيما عدا تلك الكتيبة البريطانية الوحيدة). أما الآن وقد طردنا تلك القوات، وأنشأنا عوضا عنها "قوة دفاع السودان" (الأصغر حجما)، فقد كانا علينا أن ندبر، بطريقة ما، مبلغ 750,000 من الجنيهات الإسترلينية. ولم يكن من الممكن لعائدات حكومة السودان أن تغطي ذلك المبلغ. وكنا نظن بأنه من البدهي أن تتولى الحكومة البريطانية تغطية ذلك المبلغ، لا سيما وأنها هي من أعطتنا الضوء الأخضر لطرد القوات المصرية. غير أننا عندما تقدمنا بطلب لنيل منحة خاصة من بريطانيا، فؤجئنا برفض وزارة المالية البريطانية القاطع لمنحنا أي مبلغ، بل نصحتنا بتقديم طلبنا إلى للحكومة المصرية! أصابنا ذلك الاقتراح في بادئ الأمر بالإذلال. غير أنه كان علينا الانصياع. ولعله من حسن حظي أن كان ممثلي في القاهرة رجل سوري صاحب فطنة فذة وتجربة واسعة اسمه شقير باشا. وكان الرجل يعمل مع البريطانيين والمصريين منذ أيام كتشنر. لذا طلبت من شقير أن يقدم طلب حكومة السودان بالمساعدة المالية لمصر على أساس أنه من مصلحة مصر أن تعطينا تلك المنحة المالية إن أرادوا الاستمرار في الادعاء بأنهم يشاركوننا في مسؤولية الحفاظ على الأمن والنظام في السودان. ونجح شقير بسرعة منقطعة النظير في اقناع الحكومة المصرية بمنحنا سنويا كل المبلغ المطلوب (750,000 من الجنيهات الإسترلينية).
وأستعيد اليوم في بالي قرار الحكومة البريطانية بعدم اعطائنا تلك المنحة المالية، وأرى أنه كان قرار صائبا، ويجب النظر إليه باعتباره جزءً من السياسة الثابتة والصحيحة لبريطانيا حينها. وكان من أهم خطوط موجهات تلك السياسة هو الاعتراف بمصالح مصر الحيوية في السودان (أساسا بسبب اعتمادها على مياه النيل)، والعمل معها بموجب اتفاقية الحكم الثنائي، ما دامت سارية المفعول. وأبعد من ذلك، خلق الظروف المناسبة لجعل السودانيين يتولون مسؤولية إدارة بلادهم، ويقررون بحرية طريقة الاعتراف بمصالح مصر الشرعية في السودان.
وبنظرة استعادية أخرى لأحداث عام 1924م، أرى أن تلك كانت ضربة حظ معجزة بالنسبة لنا أن أحبطت عملية اغتيال السير لي استاك خطط سعد زغلول الدعمة للحركة المضادة للبريطانيين بالسودان. فقد أوضح ذلك الاغتيال للعالم أن سعد زغلول كان على خطأ عظيم بتعضيده لتلك الحركة، ومنحنا مُسَوِّغا قويا للقيام بعمل حاسم ومباشر وسريع قبل أن يتمكن (سعد زغلول) من تنظيم ما كان يفكر فيه من نشر للحركات المعارضة لبريطانيا بالسودان. فلو سُمح لزغلول بالوقت الكافي للتأثير سياسيا على القوات المصرية بالسودان، وعلى الضباط المصريين العاملين في الوحدات السودانية، لكان مستحيلا علينا ترتيب عملية انسحاب منظم لتلك القوات.
لقد كان وصفي السابق لأزمة عام 1924م ضروريا ضمن سرد قصة تاريخي الشخصي. ورغم عسر ما لاقيته في سبيل حل تلك الأزمة، إلا أنها لم تشغلني قط عن عملي العادي كسكرتير مالي لحكومة السودان. فمن حسن الحظ أن تلك الزوبعة السياسية لم تؤثر سلبا على الحياة الاقتصادية بالسودان بصورة ملحوظة، ولم تؤثر كذلك على وضع الحكومة المالي بفضل المنحة المصرية التي تكفلت بكل نفقات ما أقمناه من "قوة دفاع السودان".
لقد كان واجبي الأساس في السودان هو العمل على إنشاء اقتصاد حكومي قوي كُفْؤ يقدم خدمات للشعب، وكذلك تطوير مصادر دخل قطر لا تساهم فيه الضرائب المفروضة سوى بدخل محدود جدا، لصغر حجم القطاع الخاص، وعدم دخوله في أعمال تجلب أرباحا كبيرة تخضع للضرائب. وكان دَّيْدَنُي في العمل هو جعل جميع أعضاء الحكومة يدركون أنهم يعملون سويا جميعا في مسؤولية مشتركة من أجل الحفاظ على اقتصاد قابل للحياة والنمو في البلاد. وكنت خلال سنوات عملي الطويلة أحارب فكرة أن "الشؤون المالية" لغز محير لا يفهمه سوى خبراء المالية والاقتصاد، وأن من تسند إليهم وظائف إدارة المالية والاقتصاد في الوزرات والمؤسسات إنما حصلوا على تلك المواقع بسبب "خبرات" خاصة لا توجد عند غيرهم. (كنت ولا أزال أؤمن بأن من سبقني في منصب "السكرتير المالي للحكومة" كان يشجع ذيوع تلك الفكرة"!). وبذلت جهدا خاصا في السودان لحث كل مديري المصالح على فهم الأوضاع المالية بصورة عامة، والعمل سويا للحصول على إجماع عام على المخصصات المالية (لكل مصلحة) بناءً على نظام أولويات يكون مقبولا منهم جميعا.
وكان من واجباتي أيضا التأكد من وجود الكفاءات الفنية في كل مجالات العمل التي تتطلب خبرة فنية، والسعي للحصول على استشارات وتعاون خارجي إن لزم الأمر، وكان ذلك – لحسن الحظ - متاحا. وهذا مهم بصورة خاصة في مؤسسة صغيرة كالحكومة السودانية. وكمثال على ذلك دعوت السير فيليكس بول (المدير السابق لشركة السكك الحديدية الغربية العظمى) لزيارة السودان ودراسة أوضاع سكك حديد السودان. وأثمرت زيارة ذلك الخبير عن تقرير قيم ضَافٍ تم تبنيه لتمضي سكك حديد السودان على نهج شركة السكك الحديدية الغربية العظمى.
ومن أمثلة الاستعانة بالخبرات الأجنبية أيضا ما قمت به في مشروع ري الجزيرة، ذلك المشروع الضخم الذي كان، وما زال، عصب الاقتصاد السوداني (كتب عن قصته كاملةً السير آرثر قيتاسكيل في كتاب صدر عام 1959م). لقد آمنت حكومة السودان، منذ أول يوم لها في الحكم عام 1898م، أن أكثر وسيلة ناجعة لتطوير وضع السودان الاقتصادي هي الاستفادة من زيادة الإنتاج الزراعي باستخدام مياه النيل في ري الأراضي الزراعية. وأتيحت للحكومة فرصة متفردة لبدء القيام بذلك بتحويل جزء من مياه النيل الأزرق لري المناطق الشاسعة الممتدة بين النيلين الأزرق والأبيض. وقد بدأ التفكير والتخطيط لذلك المشروع قبل بداية الحرب العالمية الأولى، ثم بدأ العمل في إنشاء السد وحفر قنوات الري بعد عام 1918م. وكانت مصر قد وقعت على اتفاقية تجيز للسودان البدء في أول مرحلة من المشروع تروي 300,000 من الأفدنة، تزرع بالتتابع على مدى ثلاثة أعوام: ثلثها يزرع بالقطن، والثلث الثاني بمحاصيل الحبوب، ويترك الثلث الأخير بورا.
وكانت سياسة حكومة السودان حيال هذا المشروع تقوم على أساسين: رعاية مصالح الأهالي، والبدء في إدخال تقنيات وعمليات تجارية تحتاج إلى خبرات أجنبية لا تستطيع حكومة السودان تقديمها بنفسها.
لقد كانت أراضي المشروع تستخدم من قبل سكان المنطقة أنفسهم لزراعة بعض المحاصيل بالري المطري. وكان هذا عرضة للتقلب بحسب وفرة كمية الأمطار التي تهطل كل موسم. وكانت الحكومة تهدف لتسوية مسألة ملكية الأرض مع الذين كانوا يزرعونها سابقا. ولتنفيذ ذلك اجرت الحكومة مسحا مفصلا وشاملا. وأقرت الحكومة في نهاية المطاف خطة تقضي بأن تقسم الأراضي التي ستروى على الأفراد، بحيث يمنح الواحد منهم ثلاثين فدانا من الأراضي التي كان يزرعها في السابق، وفي نفس المكان، بقدر الإمكان. وجعلت الحكومة كذلك المشروع قسمة (ثلاثية) بين المزارعين، والحكومة، وإدارة المشروع. وكان على الحكومة تكلفة شق القنوات الرئيسة. أما إدارة المشروع فعهد إليها بالقيام (تحت إشراف الحكومة) بشق القنوات الفرعية الصغيرة، والإدارة المالية للمشروع (التي تشمل تمويل المزارعين وحلج القطن وتسويقه، الخ). ويقوم الزراع باستئجار الأرض ويحصلون على الماء ومعينات الزراعة المختلفة من عمال وبذور وغير ذلك. ثم تقسم أرباح كل موسم زراعي بنسبة 40 و35 و25 % على المزارعين والحكومة وإدارة المشروع، على التوالي (تم لاحقا زيادة نصيب الحكومة إلى 40% وتقليل نصيب إدارة المشروع إلى 20 %). وكان كل محصول يزرع في المشروع، عدا القطن، يذهب بكامله، ودون ضرائب، ملكا خاصا بالمزارع. ويبدو واضحا في هذا التقسيم حرص الحكومة على مصالح المزارعين الأهالي، واعتبارهم شركاء لا أجَراء، يعملون في مشروع مشترك مع الحكومة والإدارة ويحصلون على نصيب وافر وعادل من حصاد عملهم. ولا شك أن ذلك المثال المبكر في السودان صار يعد في السبعينيات مثالا نموذجيا لمشاريع التنمية الزراعية في العالم الثالث.
وأرتبط العمل في مشروع ري الجزيرة بمشاريع تنموية أخرى مثل مد خطوط السكة حديد، وعمل تحسينات في ميناء بورتسودان، وزراعة القطن في أماكن أخرى بالبلاد غير الجزيرة. وتتطلب إشرافي على كل تلك المشاريع سفري لمناطق متفرقة في البلاد، وأتاحت لي فرصة دراسة الأوضاع بها على الأرض (وليس من خلال التقارير المكتوبة)، وإقامة صداقات مع كثير من مفتشي تلك المناطق.
ولم يكن عملي مقتصرا على السودان فحسب، بل كانت لي أعمال مشتركة تمت مناقشة معظمها في القاهرة ولندن، حيث كان للسودان في العاصمتين مكتبان نشيطان في مجالي المال والأعمال. وكان مكتبنا بالقاهرة على اتصال دائم مع مكتب المندوب السامي البريطاني ومع الحكومة المصرية. لقد كان علينا الاعتراف بمصر كشريك متساوٍ معنا في إدارة السودان بحكم ثنائي، ولذا كان ينبغي علينا إحاطة الحكومة المصرية بكل ما نقوم به في مجال المالية والاقتصاد بالسودان. وكانت اتصالاتنا مع مصر تشمل إجراءات شكلية مملة، وأخرى نقاشات مالية ضرورية ومفيدة. وكان من المفروض علي في كل زيارة رسمية للقاهرة أن أتقدم بطلب رسمي لمقابلة ملك مصر (كان حينها هو الملك فؤاد)، وأن أرتدي سترةً مشقوفة الذيل تصل إلى الركبة، وأن أضع على رأسي طربوشا فاقع الحمرة. وكان تبادل الحديث مع الملك فؤاد أمرا مُحْرِجا ومُرْبِكا بعض الشيء لأن كثيرا من الجُمَل التي كان يبدأها كانت تتوقف فجأة بسبب صوت "نُباح bark” كان يصدر من الملك بسبب إصابته في إيطاليا بطلق ناري في عنقه في أيام شبابه عندما كان مواطنا عاديا. لقد كان رجلا حكيما له القدرة على طرح أسئلة ذكية، غير أنني ما واجهت صعوبة قط في الإجابة على كل أسئلته.
وكانت اتصالاتي بالمندوب السامي البريطاني بالقاهرة أكثر أهمية من كل اتصالات أخرى في مصر. وكما ذكرت آنفا، فقد كانت كل اتصالاتي في أيام أزمة عام 1924م هي مع اللورد اللنبي، والذي كان لا يلقي بالا لتفاصيل الأوضاع بالسودان في الأيام العادية. غير أن السير جورج لويد، الذي خلف اللنبي في منصب المندوب السامي البريطاني بالقاهرة، كان رجلا مختلفا. فقد كان يرى أنه له مسؤولية خاصة ومحددة تجاه شؤون السودان. وسرعان ما نمت بيننا علاقة صداقة شخصية وود حميم. لقد كان شخصية ديناميكية ولكنه كان يخلق لنفسه الكثير من المشاكل (خاصة مع وزارة الخارجية البريطانية) بسبب رغبته في أن يكون الشخصية المركزية والمحورية في كل المشاهد الدرامية.
كذلك أخذت مني زياراتي السنوية للندن الكثير من الوقت لأن السودان لم يكن تحت إدارة وزارة المستعمرات، فكنت دوما أقضي وقتا طويلا في وزارة الخارجية البريطانية، التي لم يكن لديها آليات مناسبة (لإدارة بلد مستعمر) مثلما كان موجودا في وزارة المستعمرات. غير أني كنت أزور وزارة المستعمرات باستمرار لتقديم المشورة والنصح في بعض المواضيع عندما يطلب مني ذلك.
وكنت في غضون سنوات عمري الطويلة قد عملت بين مجتمعات مختلفة عديدة في أرجاء أقطار العالم التي استعمرتها بريطانيا. وكنت كشخص "غريب / أجنبي/ خارجي" الاحظ سلوك وطرق عمل الحكم البريطاني فيها. وأشهد أن الإدارة السياسية / الخدمة السياسية لحكومة السودان (Sudan Political Service) كانت لها شخصية مميزة. وأنا فخور بكوني عضو شرف في تلك الخدمة. ولعل مصدر تميز تلك الخدمة هو أن أعضائها كانوا يختارون اختيارا دقيقا بعد مقابلات شخصية، وليس بمجرد امتحان كتابي. لقد كانوا من شباب خريجي الجامعة الإنجليزية الذين "يتمتعون بصحة ممتازة، وشخصيات عالية، وقدرات مقبولة" (بحسب كلمات اللورد كرومر). ولا غرو إذن أن كانت الخدمة السياسية لحكومة السودان هي أفضل خدمة من نوعها في العالم (للمزيد عن هذه النقطة يمكن النظر في مقال أنتوني كيرك - قرين المترجم بعنوان: "إدارة السودان السياسية بين عامي 1898 و1955م" goo.gl/WUPbr5 . وكتاب دالي وهوقان المعنون " Images of Empire صور الإمبراطورية" الصادر عام 2005م. المترجم).
وعبرت عن إعجابي بتلك الإدارة السياسية المتفردة في خطاب ألقيته أمام أفرادها في حفل أقاموه لتوديعي عام 1927م، حيث استعرت كلمات الأديب والفيلسوف جورج سانتايانا وأنا أقول لهم: (يحمل الرجل الإنجليزي في قلبه طقسه الإنجليزي أينما ذهب، فتغدو الصحراء عنده منطقة باردة لطيفة الهواء. وهو رجل حكيم فطن، ثابت وعاقل أمام كل هذيان البشر وهذرهم. ولم يشهد العالم، منذ أيام بطولات اليونان سيدا عادلا، رقيقا حلوا، و"صبيانيا boyish" مثله. سيكون يوما حالك السواد على جنس البشر إن نجح في إزاحته قراصنة العلم والمتآمرون والمتعصبون والرعاع ".
غير أني أكتب اليوم، وكلي ثقة وإدراك بأن كل شيء لم يكن مثاليا تماما (كما توهمت قبل عقود)، وأن هنالك الكثير من المثالب والمَطَاعِن وأوجه النقد لحكمنا، بعضه يقوم على أساس صحيح، وبعضه متحامل، وصادر عن نفوس مؤججي الفتن والإِحَنَ من الساسة المصريين. لذا فإن إعجابي بالقسم السياسي لحكومة السودان ما زال، على وجه العموم، كبيرا. واستشهد هنا بما كتبته السيدة مارجري بيرهام، التي زارت السودان عام 1936م، وسجلت في مذكراتها إعجابها الشديد بأصالة الإدارة السياسية لحكومة السودان، وبالعلاقة البناءة الطيبة بين المسؤولين البريطانيين وعامة أفراد الشعب السوداني، التي لم تشهدها في أي قطر آخر زارته.
وأعتقد جازما بأن سبب ما لاحظه غالب السكان والزوار للسودان هو أن حكومة السودان كانت تعمل بروح جماعية، وبإحساس قوي بالمجتمع، وبإخلاص وتقديس للعمل، ورغبة صادقة في الحصول على نتائج عملية دون الالتفات للشكليات أو الكرامة الشخصية، وبالتعاون المثمر (وليس التنافس المضر) بين مختلف الأقسام، وأخيرا وليس آخرا، بسبب روح المرح والدعابة التي كانت سائدة بين العاملين. وباختصار، كان مجتمع الإدارة السياسية لحكومة السودان مجتمعا سعيدا مُكَرَّسٌا لِخِدْمَةِ الناس.
ولا أزال أذكر الكثير من طرائف الإداريين البريطانيين بالسودان. فعلى سبيل المثال أرسل لي صديقي العزيز روبن بيلي مدير مديرية كسلا وهو يناقش معي تقديرات ميزانية مديريته السنوية برقية يقول فيها: "يريد مني السكرتير القضائي أن أعين قاضيا آخر في كسلا، ولكني أفضل أن أحصل على لوري". وعلق أحد كبار موظفي المالية على خطة مالية قدمها أحد صغار موظفينا من ذوي الخيال الواسع، وكتب ساخرا تحت الخطة: "حاول أليس في بلاد العجائب ذلك من قبل، ولكنه لم يفلح".
لقد كنت أدرك أن السودان- بسبب ظروفه المناخية المعروفة - لن يجذب أبدا أي فرد أو جماعة بريطانية لتستوطن فيه، أو تستثمر في زراعته. ورغم ذلك كانت تخطر لي أحيانا فكرة إقامة شكل من أشكال التعاون العرقي بين الشعبين يكون له أثر مستدام، ويغدو مثالا يحتذى في سائر الدول الإفريقية. وأذكر أني تحدثت في ذلك عام 1926م مع الحاكم العام الجديد سير جون مافي. استمع لي الرجل بصبر، ورد علي مستندا على تجربته الطويلة في إدارة الهند بالقول: " ... صدقني. سيأتي اليوم الذي يطالبوننا فيه بأن ندعهم وشأنهم ونرحل". وأثبتت الأيام صدق نبوءة الرجل. غير أني لا أزال أؤمن بأن سياسة وممارسة حكومة السودان، وروح الصداقة التي أقامتها مع السودانيين تركت أثرا حميدا في نفوسهم. فقد قبلوا جميعا في الأول من يناير 1956م بسلطة "حكومة" (وطنية جديدة)، ولكن بقيت روح الصداقة بين الشعبين حيةً، بدليل أنه لا يوجد مكان الآن في أفريقيا السوداء يجد فيه البريطاني ترحيبا صادقا مثل الذي يلقاه في الخرطوم.



alibadreldin@hotmail.com

 

آراء