اتفاقية فبراير 1953: إنشاء وزارة الخارجية السودانية
أقرب إلى القلب:
تمهيد:
في الأسطر التالية ، أحدث في ذكرى اتفاقية 12 فبراير 1953 ، عن إنشاء وزارة الخارجية السودانية. لم تكن المشروعات الاقتصادية والتجارية وبناء هياكل الدولة من خدمة مدنية وشبكة مواصلات، هي وحدها التي أنشأه المستعمر البريطاني قبيل رحيله في يناير من عام 1956، بل إن وزارة الخارجية السودانية، هي التي ساعد المستعمر ومهّد إنشائها وفق اتفاقية 1953 للحكم الذاتي..
(1) مكتب "وكالة الشؤؤن الخاصة":
وردتْ الإشارة لأول مرّة إلى ضرورة أن يكون للسودان وزارة تعنى بالشئون الخارجية، في مذكرة قدمها السيد عبد الله خليل سكرتير حزب الأمة الذي يمثل طائفة الأنصار تحت قيادة السيد عبد الرحمن المهدي، إلى الحاكم العام بتاريخ 28 نوفمبر 1950 ، في إطار إشارته إلى ضرورة تشكيل حكومة من السودانيين : "أن يكون لوزارة المالية ووزارة الخارجية، وزراء سودانيون، فقط عندما يتوفر السودانيون المؤهلون علمياً للتعيين .." 8
أقرت اتفاقية الحكم الذاتي وتقرير المصير للسودان، الموقعة في 12 فبراير 1953م ، وفي أحد ملاحقها، محضراً متفقاً عليه بين دولتي الحكم الثنائي، يقضي بإنشاء "مكتب ليكون حلقة وصل بين أول حكومة سودانية وطنية وبين سراي الحاكم العام ليعنى ببعض ما يتعلق بالشؤؤن الخارجية من المهام التي أنيطت أصلاً بالحاكم العام، وأن يسمّى ذلك المكتب "مكتب الشؤؤن الخاصة"، وأن يكون على رأسه وكيل وزارة سوداني، وتكون مهمته الإعداد لتمثيل السودان في المؤتمرات الدولية الفنية فقط، وتوصي الحكومتان الحاكم العام للسودان ومجلس الوزراء بإنشاء هذا المنصب.9
هذا وفي يوليو 1954م، تمّ تعيين د.عقيل أحمد عقيل، خريج الجامعات الفرنسية، ليكون أول وكيل لـ"مكتب الشـــؤؤن الخاصة"، وكان واضحا أن ذلك الاختيار تم بمعايير سياسية، كما جرى تكليف الإداري المهني الكبير في هيئة السكك الحديدية، خليفة عباس العبيد، ليكون نائباً له. لم يستمر عقيل طويلاً في المنصب، إذ جرى تعيين الإداري محمد عثمان يسن، وكيلاً بديلاً عنه، ( وذلك بسبب اختلافه مع حزبه الذي بعدت توجهاته عن الوحدة مع مصر وهو من مؤيديها). .
(2) مؤتمر باندونق 1955: أول ممارسة لدبلوماسية السودان:
تسلم "مكتب الشئون الخاصة" عن طريق مكتب الحاكم العام، دعوة رسمية من السكرتارية المشتركة للدول الآسيوية الخمس، وهي أندونيسيا- الهند- بورما- سيلان- باكستان، الذين تبنوا فكرة ذلك المؤتمر. شكل قيام ذلك المؤتمر نقطة البداية لأول نشاط دبلوماسي وأول فعالية حقيقية لوزارة الخارجية السودانية- تحت التأسيس .
قبيل السفر للمشاركة في المؤتمر، قدم د.عقيل استقالته، معتذراً عنوظيفته كأول وكيلٍ دائم للخارجية السودانية، وتولى الإداري المهني خليفة عباس العبيد، مهمة الوكيل بالإنابة، وشارك بهذه الصفة في الإعداد لمشاركة السودان في ذلك المؤتمر الهام. القيادي الذي شارك بفعالية وأعدّ خطاب السودان، هو القانوني القدير مبارك زروق، والذي تولى لاحقاً حقيبة الخارجية كأول وزير لها في يناير من عام 1956 .
من بين أهم أهداف مؤتمر "باندونق" الالتفات إلى قضايا الشعوب في القارتين، والنظر في قضايا التخلص من الاستعمار, وفيما وصلت الدعوة لحكومة السودان، وهي الحكومة التي شكلها إسماعيل الأزهري وفق اتفاقية الحكم الذاتي لعام 1953م، فقد وافقت دولتا الحكم الثنائي مصر وبريطانيا، على المشاركة في المؤتمر، ورفعت الأمر لحكومة الأزهري.10 أشار خليفة الى أن خطاب السودان تضمن الإشارة بوضوح إلى رغبة السودان في "نيل الحرية الكاملة وإلى الإستقلال التام"، واثار ذلك حساسية لدى الوفد المصري الذي كان يقوده عبدالناصر. نشير إلى أن خطاب السودان قام بصياغته السيد مبارك زروق، والذي بعد أن تولى وزارة المواصلات في حكومة الأزهري الأولى، تحوّل وزيراً للخارجية في حكومة الإستقلال .
(3) من "مكتب للشؤؤن الخاصة" إلى وزارة مستقلة
بعد عودته من "باندونق"، واصل السيد خليفة عباس العبيد العمل في "مكتــب وكالة وزارة الشؤون الخاصة" ، ثم جرى ابتعاثه إلى لندن في أغسطس 1955 ، للتدريب في وزارة الخارجية البريطانية.
بالتنسيق مع السير "وليام لوس"، مستشار الحاكم العام للشؤؤن السياسية والدستورية، تم تحديد مهام الوكالة وحصرها في التالي:
( أ ): العمل الديواني:
1- التنسيق بين الحاكم العام ومجلس الوزراء وتقديم النصح في الشؤؤن الخارجية،
2- يكون المكتب حلقة وصل مع بقية الوزارات في كل ما يتصل بالشؤؤن الخارجية،
3- تنظيم المشاركة في المؤتمرات الخارجية،
4- الإشراف على جوانب المراسم الخاصة بكبار ضيوف البلاد وترتيب برامجهم.
( ب) الإشراف على الممثليات والوكالات الخارجية للسودان:
تشرف "وكالة الشؤؤن الخاصة" على هذه الممثليات والوكالات – عدا الجوانب السياسية- مع تولي مسئولية الإعلام والدعاية ومتابعة الأداء. والممثليات هي :
1- وكالة لندن وكلّف بإدارتها د.علي أورو.
2- وكالة القاهرة وكلف بإدارتها السيد بابكر الديب.
3- قنصلية أسمرا، وكلف بتأسيسها وإدارتها السيد محمد عثمان يسن، ثم صادق أحمد بعده، (بعد أن عين يس وكيلا دائما للخارجية) .
4- قنصلية جدة ، وكلف بإدارتها السيد الحاج أبو شرا، ثم تولاها بعده حامد السيد.
( جـ ) التنسيق مع الممثليات الأجنبية:
كان لدولتي الحكم الثنائي تمثيل استثنائي وغير مسبوق، بحكم ولايتهما على البلاد بموجب اتفاقية الحكم الثنائي لعام 1898، وهكذا كانت لبريطانيا خلال فترة سريان اتفاقية الحكم الذاني ممثلية تجارية يقف عليها مندوب بريطانيا التجاري، سمّي فيما بعد "ضابط اتصال" وجرى تكليفه بالتمهيد لقيام سفارة لبريطانيا في الخرطوم.
أما مصر، فكان لها مستشار إقتصادي في الخرطوم .
بالنسبة للتمثيل الدبلوماسي الأجنبي، فقد احتفظت بعض الدول بممثلين عنها بمُسمّى "ضباط اتصال"، وذلك لكلّ من الولايات المتحدة الأمريكية - ألمانيا- الهند - اليمن - إيطاليا- هولندا . .
أما لبنان فقد اختار مواطناً مقيماً كقنصل فخري له، هو الطبيب المشهور في الخرطوم آنذاك، د. نقولا معلوف.
( د) في جانب التوثيق والمحفوظات :
كلف مكتب وكالة الشؤؤن الخاصة بحفظ قوائم الاتفاقيات الدولية والمعاهدات التي يكون السودان طرفا فيها، أو تقع عليه التزامات بشأنها.
( هـ) في جانب الإعلام الخارجي :
يقوم مكتب الوكالة بالتنسيق مع وزارة الشؤؤن الاجتماعية للإشراف على العمل الإعلامي الخارجي.13
(5) في جانـــب المراســـم :
لعلّ من أشقّ المهام أمام الوزارة الوليدة، هي توليها المهام المراسمية ووضع الأسس والإجراءات المتعلقة بالاعتراف باستقلال البلاد ، وترتيبات اعتماد السفراء وإجراءات تعيين سفراء للبلاد ، وإعداد الردود على رسائل الدول الأجنبية وبقية الشئون المتصلة بمظاهر سيادة الدولة وهيبتها. معروف أن البروتوكول والاتيكيت مسائل تطورت مع تقاليد احترام الرسل وممثلي الدول. من الطبيعي أن يدلف السودان إلى حقبة إستقلاله، وهو لا يملك خبرات في ذلك المجال. غير أن سودانيا وحيداً إسمه أحمد حسن مطر، قدم نفسه بل قدمته خبراته التي اكتسبها في مصر وفي بلدان أمريكا اللاتينية، لعرض خدماته في مجال المراسم.
وبرغم خبرات مطر الواسعة في مجال المراسم، إلا أن الإشراف على كافة شئون الدولة المراسمية، عهد به إلى شخصٍ مقرّبٍ من رئاسة الحزب الحاكم، هو السيد إبراهيم جبريل، وكان واضحاً هنا، أن معيار الخبرة وحده، لن يكفل للسيد مطر تولي مهمّة إدارة مراسم الدولة. وافق رئيس الحكومة السيد إسماعيل الأزهري أن يتولى السيد أحمد حسن مطر، بعد أن تم تعيينه بوزارة الخارجية، وظيفة مساعد بالمراسم.
لم يكن الرجل راضياً عن التقليل من قيمة خبراته، لكنه بقي في قسم المراسم، والتي آلت رئاسته في وزارة الخارجية إلى الدبلوماسي فخرالدين محمد عبدالباقي، القادم من وزارة المعارف، ضمن عدد من الرعيل الأول الذي اختير لدعم الدبلوماسية السودانية الناشئة، بعد أن نالت البلاد استقلالها. الأرجح أن خلو ملف السيد مطر من شهادات أكاديمية، وهو ما تتطلبه ضوابط التعيين، قد تسبب في عدم اعتماده موظفا مهنياً في قسم المراسم، برغم خبراته الواسعة فيها. شغل أحمد حسن مطر وظيقة استشارية شبه فخرية، حتى وفاته أواخرسبعينات القرن الماضي.
(6) إنشــاء الســفارات السودانية:
لإنشاء الوزارة الوليدة ودعم متطلبات انطلاقها ، جرى النظر في استقدام الخبرات الإدارية السودانية، من مختلف الإدارات والهيئات الحكومية القائمة. لكن كان ملاحظاً أن أغلب المعينين، هم من قطاعات التعليم والشرطة والإدارة المحلية وهيئة السكة حديد على التوالي، يضاف إليهم بعض خريجي الدراسات العليا العائدين من من بعثاتهم الدراسية في الخارج، خاصة من مصر وبريطانيا وفرنسا. جلّ هؤلاء هم من صفوة المتعلمين، أهل الخبرة في الإدارة وأهل المسئولية في الانضباط . لا تغيب عن الملاحظة أن تعيين الكوادر الأولى لوزارة الخارجية، لم يتم بناءاً على معايير المجاملة الأسرية أو المجاملة السياسية أو الاعتبارات الطائفية، وذلك ما حفظ للدبلوماسية الناشئة، لونها الوطني البعيد عن الانحيازات الحزبية أو الطائفية.
كانت للسودان وكالتان بالخارج ، إحداهما في القاهرة، وتولى الإشراف عليها السيد بابكر الديب، والثانية في لندن وتولاها الدكتور علي أورو. في تمثيلٍ أقل، أنشأ السودان عند الاستقلال، قنصليتين أولاهما في أسمرا، وكان يشرف عليها السيد محمد عثمان يسن (وتولى لاحقاً منصب الوكيل الدائم لوزارة الخارجية) ، وخلفه عليها السيد صادق أحمد مصطفى ، والأخير هو الذي شغل منصب قنصل السودان في إيطاليا في وقت لاحق. أما القنصلية الثانية فكانت في جدة وتعاقب عليها حسبما أورد خليفة : الحاج أبو شرا والسيد حامد السيد .
في فجر الإستقلال تولى أمر التمثيل في مصر السيد يوسف التني، وفي البلدان العربية: الشام (تشمل الأردن وسوريا ولبنان) وتركيا السيد جمال محمد أحمد مقيماً في بغداد ، فيما تولى سفارات البلدان الأفريقية مقيماً في أديس أبابا، السيد خليفة عباس العبيد. في لندن تولى السيد عوض ساتي سفارة السودان في لندن فيما تولى د. بشير البكري سفارة السودان في باريس.
تلك لمحات عن ‘نشاء وزارة الخارجية ، حري بنا أن نستذكرها ، وللدبلوماسيين الإلمام بمثل هذه التفاصيل ، عن وزارة لهم شرف الانتماء إليها وممارسة المهلم التي يقومون بها. .
8 فبراير 2018
jamalim1@hotmail.com