إبراهيم العبادي: “من أيدي الصناعة يَبْعُــد المِعلاق”!

 


 

 

إبراهيم العبادي (1894-1981) شاعر كبير، وصاحب مكانة سامية في تاريخ الغناء السوداني، فهو الذي نقل الأغنية من مرحلة غناء (الطنبور) الذي كان يعتمد على الشعر الشعبي، إلى مرحلة القصيدة المعروفة الآن بشعر (الحقيبة). وقد أخذ عنه ذلك بقية الشعراء وجاوره فيه حتى استقر على ما هو عليه الآن.
فضلاً عن ذلك إن العبادي اكتشف الفنان المغنى الكبير عميد الغناء السوداني الحديث، الحاج محمد أحمد سرور، وتبناه حيث عملا سويا على نشر وترسيخ النمط الجديد على أساس من أغنية الطنبور الشعبية. ويقال أن سرور كان لا يغني أي قصيدة لشاعر إلا إذا أجازها له العبادي.
وهذا الطنبور الذي انطلقت منه أغنية (الحقيبة)، لا علاقة له بآلة وغناء الطنبور الذي عند البديرية والشايقية في الشمال. وإنما هو نمط من الغناء لا تستعمل فيه أي آلة موسيقية، بل يعتمد على الحنجرة والصفقة والرقيص. هذا، وليس صحيحا ما ظل يردده الكاتبون والمتحدثون عن تاريخ الغناء، من أن الطنباري محمد ود الفكي، القادم من كبوشية بدار الجعليين، هو من أتى بغناء الطنبور إلى أم درمان.
فالطنبور كان موجوداً أصلا عند الجموعية سكان أم درمان الأصليين (الريف الجنوبي والشمالي)، مثلما كان موجوداً بدار الجعليين (كانت تسمى: السافل) ضد الصعيد. كما كان موجودا بمنطقة شمال الجزيرة حيث أتى سرور (قرية ود المقبول). وكان موجودا ولا يزال عند الجوامعة بشمال شرق كردفان ومناطق أخرى. (اكتب بمحرك البحث بالشبكة العنكبوتية: طنبور كردفاني).
وقد وردت الإشارة الى غناء الطنبور هذا، بكتاب طبقات ود ضيف الله حيث ذكره باسمه الثاني (الكَرِيْر)."انظر: كتاب الطبقات، ط4، 1992، جامعة الخرطوم، ص 327". والكَرِيْر من الكَرّ وهو ترجيع الصوت وترديده بغرض التنغيم. يقولون: يطنبر ويكُر بمعنى واحد. مثلما يقال: ينم ويدوبي.
ومن أغاني (الحقيبة) التي كتبها العبادي ونالت شهرة: حفلة بشير ما أعجبها، من فروع الحنة، موفورة النفل، بلابل الدوح، حُسن الطبيعة، برضي ليك المولى الموالي، سايق الفيات، عزة الفراق بي طال وغيرها. إلى جانب ذلك يعد العبادي من رواد المسرح الشعري في السودان، فقد كتب مسرحية (المك نمر) ومسرحية (عائشة بين صديقين). وتقديراً لدوره التأسيسي منحته جامعة الخرطوم درجة الماجستير الفخرية سنة 1969.
ولد إبراهيم العبادي بأم درمان. والعبادي نسبة لقبيلة العبابدة التي مضاربها على نهر عطبرة. وتقع دارهم الأصلية بأقصى الركن الشمالي الشرقي للسودان على تلال البحر الأحمر. ونسبة لهذا الموقع الجغرافي اطلقوا في السودان على "البرق القبلي" اسم "البرق العبادي" أيضاً.

أغنية سايق الفِيّات:
تعد قصيدة (سايق الفيّات) من قصائد العبادي الجياد، وهي من ألحان وغناء سرور، وقيل أنها وجدت رواجا منقطع النظير في ذلك الزمان. ولكن للأسف لا يوجد تسجيل منها بصوت سرور. ومن بعد سرور غناها الثنائي ميرغني المأمون وأحمد حسن جمعة، بأداء لا يختلف عن "ميلودي" أغاني الطنبور.
وفي مرحلة ما بعد الحقيبة، اشتهرت الأغنية بصوت الفنان علي إبراهيم عندما ظهر بها في الستينيات. وقد استمعت في تسجيل إذاعي، إلى علي إبراهيم، يقول فيه أن العبادي أثنى على أسلوبه في أداء القصيدة ثناءً عظيما، وقال له فيما معناه إنه يحس لأول مرة أن القصيدة قد وجدت اللحن والأداء الذي كانت تبحث عنه.
وهذه الأغنية من أحب أغنيات (الحقيبة) إلى نفسي ولا أكاد أمج سماعها باداء علي إابراهيم وربما يعود ذلك إلى أنها تصحي في النفس أشجان وذكريات بعيدة مرتبطة بحياة الريف والبداوة المندثرة.
والقصيدة وليدة تجربة واقعية. فقد كان العبادي وسرور في رحلة بعربة من ماركة الفيّات بين سنار وسنجة، ومما يدل على ذلك أسماء بعض القرى التي ورد ذكرها بالقصيدة. ومن سكان هذه المنطقة قبيلة كنانة. ووقتها كان العبادي كان يعمل بخزان مكوار (سنار)، وسرور كان سائقا ومكانيكيا بشركة الفيّات. يستهل إبراهيم العبادي القصيدة بالقول:

عــُـجْ بي وخــــد سـَــندة بالدرب التّحِت تجـــاه ربوع هِنـــدة
بوصيك قبل تبدأ ســـــــيـــرك، داك طريقك سابق الـــربدة
منك بعيد جبدة حــــي هِندة المرام عُـــج بــــربـــوع عَــبــــدة

عُج فعل أمر بمعنى انعطف ناحية كذا، من عوج يعوج عوجا فهو أعوج وهي عوجاء هكذا في الفصحى والعامية. جاء بمعجم لسان العرب: "العَوَجُ: الانعطاف فيما كان قائماً، فمَالَ كالرُّمْحِ والحائط؛ وكلُّ ما كان قائماً يقال فيه العَوَجُ، بالفتح، ويقال: شجرتك فيها عَوَجٌ شديد.. ومنه الحديث: حتى تُقِيم به المِلَّة العَوْجاء؛ يعني مِلَّة ابراهيم..". انتهى.
و"عَوَج الدرب" تعبير سوداني معروف، فهو اسم مكان، ولقب لشخص جواد فكان من كرمه أن جعل المسافرين يعوجون طريقهم ويعرِّجون على داره للضيافة. وفعل الأمر "عُجْ" الذي استهل به العبادي القصيدة، كان يفتتح به شعر النسيب في الشعر العربي القديم. ومن ذلك قول امرىء القيس:

عوجا على الطلل المحيل لعلنا/ نبكي الديار كما بكى ابن خذام

فهو يرجو من صاحبيه أن يغشيا أطلال ديار المحبوبة ليقفوا عليها ويبكوا ماضي الذكريات. وجريا على هذا التقليد افتتح شاعرنا إبراهيم العبادي قصيدته. وكان أمام العبادي ومرافقيه في تلك الرحلة، دربان يؤديان بهما إلى وجهتهم.
الدرب الأول يمر بالمنطقة المنخفضة (الباطن) المحاذية لنهر النيل وهو الدرب "التِّحِت" أو التحتاني. والثاني الدرب الذي يمر بالمنطقة المرتفعة التي تقع على مبعدة من النهر والتي تعرف بـ"الضهرة"، من الظّهر، والموازية للباطن (التحت).
فيطلب الشاعر من سايق العربة الفيات، أن يسلك الدرب "التحت" الذي يمر عبر ديار "هِندة" و"عبدة" لأنه يرغب في التوقف هناك وأخذ سدنة. والسندة كلمة سودانية عربية وهي في لغة السّواقين ومساعديهم تعني التوقف لبرهة من الوقت أثناء الرحلة للإستراحة والاستجمام وتناول الأكل والمشروبات ومن ثم استئتاف السير.
وكان الشاعر في شوق وتلهف للوصول إلى ربوع هِندة وعبدة قبل الغروب لأنها تقع بعيد جبدة. والجبدة سودانية عربية وهي من ابتداع السواقين أيضا، وهي المسافة التي يجب قطعها سيرا للوصول إلى مكان ما، من جبد يجبد جبداً بمعنى جرَّ وشدَّ. لذلك يحث الشاعر السائق على أن ينطلق بأقصى سرعة ممكنة تضارع سرعة الربدة. والربدة في الفصحى ربداء وهي من ألقاب النعامة والمعروفة بسرعتها الفائقة في الجري, يقول الشاعر العربي:

أسدٌ عليّ وفي الحروب نعامةٌ / ربداء تجفل من صفير الصافرِ

و"هِنْدة" بالكسر هي الاسم هِند نفسه، غير أن القافية اقتضت من الشاعر أن يلحق به تاء التأنيث. ويجوز أن تكون تاء التأنيث قد أضيفت للاسم لأغراض التدليل. وقد لفت نظرنا أن بعض المغنيين ينطقونها "هُندة" بالضم وهذا غلط. وأغلب الظن أن هِند وعبدة أسماء غير حقيقية في القصيدة.
وعبدة اسم قصيدة لشاعر الغزل العربي، عمر بن أبي ربيعة، فتن بها شاعر الحقيبة الكبير خليل فرح وكان كثيرا ما يترنم بها حتى أنه سجلها انشادا بصوته وهذا التسجيل لا يزال محفوظا لمن أراد الاستماع. يقول مطلع القصيدة:

أعبدة ما ينسى مودتك القلبُ/ ولا هو يسلِّيه رخاءٌ ولا كَرَبُ

وقد استجاب سائق الفيات لرغبة الشاعر وقاد العربة بأقصى سرعة فصور الشاعر ذلك بقوله في المقطع الثاني من القصيدة:

شـــــــوف ســـــــايق الفـــيات الليلــة كيفــــــن هـــــــاش
والشجــــــــر الكبـــــار بقــــي شــوفنا ليـــــه طشــــــــاش
قول لي دحين وين ماش فارقت الطريق اتيامن الرماش

انطلق السايق هاشا باشا منشرح الصدر لهذه الرحلة فانعكس ذلك في سلاسة قيادته للسيارة والتي كان من شدة سرعتها أن تحولت الأشجار ومعالم الطريق الأخرى إلى مجرد أشباح لا يتبينها الرائي الراكب، وهذا أمر مألوف. والطشاش في اللهجة السودانية كما هو معروف ضعف رؤية الأشياء.
ولكن مع هذه السرعة الفائقة كاد السائق أن يضل الطريق، فيخبره الشاعر أنه يسير في الاتجاه الخطأ وعليه أن يتيامن الرَّماش. والرماش من قرى تلك المنطقة التي يمر بها الطريق. وتيامن من اليمين فصيحة. و"اتيامن الرماش" بمعنى أجعلها على يمينك. ثم يستمر الشاعر في تصوير مهارة السايق وسرعة العربة بالقول:

شــقَّ حشا الطريق واتيمم الحلال/ زفنه الكلاب ما نالن إلا عـَـــــلال
بــاقيــات ثـــــوانـــي قـــلال بـينـــــك/ والغــــروب داك مُشْــــــرَع الشّـــــــلال

قوله: "شق حشا الطريق" فيه استعارة بليغة. واتيمم بمعنى قصد وهي فصيحة. يقال: يمّمَ شطر كذا أو جهة كذا، قصد. والحلّال جمع حِلَّة وهي فصيحة. وكان عند مرور العربة بحلة أو قرية أو فريق، تطاردها كلابها في محاولة للحاق بها ولكن دون جدوى ولم تظفر الكلاب من ذلك سوى بالعَلال، وهذا منظر مألوف في القرى والبوادي. والعَلال بالفتح وهو الغبار الذي تثيره العربة أو الدابة وتخلفه وراءها أثناء سيرها. والكلمة من علا يعلو، ومنها كلمة العَلالي، ومفردها عِلِّية. يقولون: من عِلية القوم.
ولا ينفك الشاعر حاثا السايق على ضرورة الوصول إلى والجهة المقصودة قبل مغيب الشمس، قائلا: "بـاقيات ثــواني قلال بـينــك والغـروب، داك مُشْــرَع الشـلال". الشّلال اسم قرية والمُشْرع بالضم في اللهجة السودانية هو المدخل على منهل الماء. وأصله من الشروع أي أول الدخول في الشيء والفعل شرع ويشرع شروعا. وتنطق الكلمة في الفصحى مِشرع بكسر الميم بذات المعنى. ولا تزال كلمة مُشْرع مستخدمة في الريف والبوادي. ويواصل الشاعر مخاطبا السايق:

أطـــــوي الأرض وأضـــــرع من أفكارنا سيرك يا الفيات أسرع
ميــّـل علـــى المُشْــــــرع لا تـــــريع القطيـــع ,,, بتــجـــــفـل الأدرع

كلمة "أضرع" أصلها في الفصحى أذرع بالذال، يقال: يذرع المكان جيئة وذهاباً. ويضرع ويتضرع في كلامنا يتبختر تهياً في مشيته وهو المعنى المقصود هنا. و"أسد الله البضرع"، مدحة مشهورة لأولاد حاج الماحي. وفي هذا البيت يشبه الشاعر سرعة العربة بحركة جولان الفكر في الذهن. وهذا من التشبيهات الطارفة والمبتكرة. والتقليد المتبع في البلاغة العربية أن يُشبّه المعنوي بالحسي وليس العكس. أما تشبيه الحسي بالمعنوى فمن الأساليب التي أدخلها الشعراء المولِدون المحدثون في الشعر العربي من أمثال أبي نواس وأبي تمام.
وعندما تلحق العربية بسرب من الفتيات الواردات يطلب الشاعر من السائق أن يهدىء السرعة حتى لا يروع (قطيع) الحسان فيجفلن.
وقد تعلق نظر الشاعر من ذلك السرب بالأدرع. والأدرع من البهائم في اللهجة السودانية، الماعز والبقرة بخاصة، ذلك الذي يجمع بين اللونين الأبيض والأسود إذ تكون الرقبة والكتفان حتى الزور بيضاء، وأما سائر الجسم فيكسوه اللون الأسود. يقال ثور أدرع وعنزاية/غنماية درعا(ء).
والأدرع من الدرع الذي يلبس وأصل الدرع القميص. ويبدو أن تلك الفتاة كانت تلبس طرحة (وشاح) أبيض وقميص أسود. وتشبيه النساء بالمعيز والمها والظباء معروف في الشعر العربي. وهنا يطلب الشاعر من مرافقيه التأمل في جمال الطبيعة مخاطبا أياهم بقوله:

يا زين الشباب يا طيب الأخلاق/ يا أمين الصديق والناس على الإطلاق
مــــن أيدي الصناعة يبعد المِعلاق/ انـــظـــــــر للطــبيعـــــــة ومـــجــّــــد الخـــــلاق

إذا أخذنا بظاهر سياق الكلام في البيت الأول هنا، نفهم أن كلمات: زين وصديق وأمين هي أوصاف أصبغها الشاعر على رفيق دربه سرور، ونجد أن معنى الكلام مكتمل دون الاستعانة بمعلومة من خارج النص. غير أن هناك إجماع بين الباحثين أن العبادي وسرور لم يكونا وحدهما في تلك الرحلة، بل كان في معيتهم بعض الأصدقاء.
ونكتفي هنا بالرواية التي أوردها، مبارك المغربي، حيث يقول أبطال القصة: "الشاعر وأصدقاؤه: سرور وكان السايق، والإداريان أمين نابري وزين العابدين كوكو. بدأوا رحلتهم من سنار إلى سنجة في عربة خاصة، مارين بالرماش مسرعين للقاء الأحبة قبل حلول المغيب". – رواد شعراء الأغنية السودانية ص75.
وإذا كان ذلك كذلك، فالشاعر يكون بذلك قد استخدم التورية في صياغة هذا البيت. وبذا تصبح كلمة (زين) في قوله: "يا زين الشباب" ذات معنيين: الأول قريب هو زين بمعنى حسن أي يا أحسن من في الشباب، والثاني بعيد وهو المراد ويقصد به شخص (زين) العابدين كوكو. ونفس الشيء ينطبق على كلمة "أمين" في قوله: "يا أمين الصديق"، فهي تنطوي أيضاً على معنيين: قريب وهو ما يعطيه ظاهر اللغة، ومعنى بعيد يقصد به أمين نابري.
وأما البيت الثاني في هذا المقطع والذي يقول في صدره: "مــن أيدي الصناعة يبعد المِعلاق"، فقد تحير الرواة والباحثون في معناه، إذ لم نعثر حتى الآن على أي مقاربة أو محاولة لفهمه وشرحه.
ونحن نرى أن الشاعر أراد أن يعلن لمرافقيه بل وللناس (على الإطلاق) عن موقفه المنحاز للطبيعة ضد الصناعة. وذلك بدلالة قوله في عجز البيت: "انــظــر للطــبيعـة ومـجــّد الخلاق". والمِعلاق كل ما يعلق به الشيء. وأراد به الشاعر هنا القلب والفؤاد. وهو مِن عَلِق يَعْلق. يقال: عَلِق بحبها وعلِقت بحبه.
وجمع مِعلاق في هذا المعنى: مَعالِق، وهي القلب والكبد والرئة في جوف الإنسان. وهذا هو المعنى الذي قصده شاعر (الحقيبة) الكبير محمد ود الرضي في رميته المشهورة: "طابق البوخة" حيث يقول: "في مَعالِق الجوف موسُه مجلوخة".
والمُعلاق بالضم في اللهجة السودانية ويسمى "المشلعيب" أيضاً، هو شبك أشبه في صورته بشكل الدلو يضفر من الزعف/السعف ويوضع عليه الأكل وما شابه في ماعون ويعلق في أعلى "التُّكُل" أي المبطخ وذلك لحفظه بعيدا عن متناول القطط والكلاب والآفات. ولكن ليس هذا هو المعلاق الذي عناه الشاعر.
زبدة الكلام أن معنى قول الشاعر: "من أيدي الصناعة يبعد المِعلاق"، هو أن قلبه ينفر من كل ما دخلت فيه يد الإنسان (الصناعة) ويهيم حباً وتعلقاً بالطبيعة الخام كما أبدعتها يد الخالق. وهذا التنازع هو ما يعبر عنه في الأنثروبولوجيا بثنائية: الطبيعة والثقافة (الحضارة). ويتضح لنا معنى قول الشاعر أكثر في الأبيات التاليات:

انزل يا صديق وشوف يد القدرة وشوف حسن البداوة الما لمس بُدرة
وراد النهـــــر أردوني، مـــــــا بـــدرى الكاتِل الصّفار أم نضرة الخضرة

الشاعر متيم بجمال البدويات والقرويات الفطري الذي يستغنين به عن المساحيق والمكياج (البدرة). وتعلق الشعراء والفنانين والفلاسفة بالجمال الطبيعي غير المصنوع قديم. فهذا هو المتنبي يقول في نفس المعنى:

حســـنُ الحضارةِ مجـــلوبٌ بتطريةٍ/ وفي البداوةِ حسنٌ غيرُ مجلوبِ
أفدي ظباءَ فلاةٍ مـــا عـــــرفن بها/ مضغَ الكلامِ ولا صبغَ الحواجيبِ

وقد شاهد شاعرنا إبراهيم العبادي هذا الجمال الفطري عندما توقفت العربة عند "المُّشرع" حيث وجدوا الفتيات القرويات يردن الماء. و"وراد" النهر جمع وارد، من الورود ويقصد الفتيات اللالىء يجلبن ماء الشرب للبيوت من بحر النيل، أما بحمل الجرار على رؤسهن أو بحمل القِرَب على الدواب.
و"أردوني" من الردى، وهو الموت. والمعنى أن أولئك الفتيات الحِسان قد اصبن قلبه بسهام الحب فاردينه قتيلا، لكنه لا يدري أيهن فعلت ذلك: أهي الصفراء اللون أم الخضراء (السمراء) اللون؟: "الكاتِل الصفار أم نضرة الخضرة". الكاتل/القاتل أي "الكاتلني" أو الذي قتلني، هل هو الصفار أم (الخُدرة)؟ ثم يستمر الشاعر في وصف معالم الطبيعة:

شوف النهر مار بخشوع تقول/ هجسان أو مرّ المنام بمقلة النعسان
جلت قدرته ما أكفر الإنسان/ كم ينسى الجميل كم يجحد الإحسان

النيل في هذه المنطقة يمر بكل هدوء وسلاسة حتى لا تكاد تحس انسياب مياهه، فيشبّه الشاعر ذلك بتسلل النعاس والنوم إلى عيني النائم. وكلمة تقول في قوله: "تقول هجسان" تعني زي بمعنى مثل، وهي تقوم مقام الكاف في التشبيه في الفصحى. والهجسان النائم من هجس يهجس إذا غفا. وهي معروفة في اللهجة السودانية. ثم يقول الشاعر:

ما نفـرنْ تقـــول ســابق الكلام إلفــة عشطان قلت ليهن وصَحتْ البلفة
مافيش كاس قريب قالن دون كُلفة تشــــــرب بكفـــــوفنا حتــــــى تتكفـــــــى

قوله: "ما نفرن" يعود على قوله السابق: "وراد النهر أردوني" أي الفتيات الواردات إلى النهر اللالىء أرديهن قتيلا بسبب تعلقه بهن. وكان من حسن حظه أن أولئك الفتيات استقبلنه بكل البشر والترحاب كعادة أهل البادية مع الضيف والغريب، وكأنما بينه وبينهن ود (إلفة) ومعرفة سابقة.
وهذا ما شجع الشاعر على ممازحتهن والتودد إليهن بالكلام. فأراد أن يمتحن رباطة جأشهن. فقال لهن: إنهم عطشى وليس لديهم إناء للشرب من النهر. فرددن عليه بكل أريحية: ليس هناك مشكلة، سنسقيكم بأكفنا حتى ترتووا جميعاً. والبَلْفَة في اللهجة السودانية: الكذبة البيضاء، تطلق لحمل الإنسان على فعل شيىء. يقولون: بَلفَهُ إذا استغفله وكذب عليه. وقد جازت "بلفة" الشاعر على الفتيات وأدت غرضها.

عبد المنعم عجب الفَيا
27 سبتمبر 2021

 

آراء