البرجوازية الصغيرة: نهج عبد الخالق محجوب (2-3)

 


 

 


لا غلاط أن بلادنا تعيش هرجاً عظيماً من أقصاها إلى أقصاها. وللناس في تفسيره شؤون. ومن رأي الحداثيين أن مرد خيبتنا هو سيادة العقل الرعوي في نهجنا وفكرنا. وقد رددت على هذه الفرية الحداثية في كلمات تتالت هنا. وخلافاً لزعم هؤلاء الحداثيين كان من رأيي أن الآفة التي من وراء هرجنا هي البرجوازية الصغيرة. وقد عَرَّفتها بحسب الماركسية الأوربية بأنها طبقة بينية تحتل موقعاً في عملية الانتاج بين البرجوازية مالكة وسائطه وبين الطبقة العاملة التي تبيع قوة عملها لهؤلاء البرجوازيين. ومع اعتبارنا لهذا التعريف الأصولي للبرجوازية الصغيرة بالطبع إلا أن باب الاجتهاد مفتوح في منزلتها ومالآتها في بلاد مثل بلادنا. بل ربما بلغ بنا هذا الاجتهاد حد نكران وجودها بيننا. وليس هذا علينا بكثير. 
وقلت في هذا السياق إنه إذا أردنا أن نمسك حقاً بسبب الهرج ضارب الأطناب في بلدنا وجب علينا أن ننمي تقليداً نقدياً لفئة البرجوازية الصغيرة المدينية المتعلمة أفضل مما هو متاح لنا. وهذه الفئة مما تعارفنا على تسميته ب "الأفندية" أو "الخريجين" أو باسم الدلع الشهير: "الصفوة". ولنا في أستاذنا عبد الخالق محجوب أسوة حسنة في جعل هذه الفئة موضوعاً نقدياً لم يتزحزح عنه. فقد تحرى فكرها وممارستها في المجتمع والحزب ما ترك لها صغيرة ولا كبيرة. بل تنبأ بدمويتها متى أصبحت في الحكومة. ومات، رحمة الله عليه، على يدها في 1971.
ربما كان من أشرس ما في هذه الفئة الذي يجعلها بلا أخلاق ولا ميثاق هو غربتها عن ثقافة أهلها. وهناك اتفاق على ذلك. ولكنه لم يتفق لنا بعد تحليل أَشَف لماهية تلك الغربة ومداها. فقد ظنها فريق أنها مما يٌدرأ بالعودة للأصول واستئناف تاريخنا كأن الاستعمار لم يكن. وهذه الخطة هي فحوى فكرة التجديد الإسلامي وحركاته. وهناك ظن طال مداه مفاده أنه بوسعنا استثمار هذه الغربة بتخصيب الأصالة بالمعاصرة، أي ثقافتنا بثقافة الغرب. وهذه حيلة قديمة منذ بداية النهضة العربية في نهاية القرن الثامن عشر وحتى يومنا هذا لم يتحقق منها شيء. فظلت كفتا الميزان تتأرجحان لا إلى هذا ولا إلى ذاك لم نبلغ الوسط السعيد المنشود. والكفة الآن في المشاهد راجحة لتقليد الغرب إذا دخلوا جحر ضب حشرنا فيه أنفسنا من بعدهم. وعذرنا هو أن هذا منظق العولمة. يأ أمة ضحكت من سخفها الأمم.  
كانت هذه الغربة وديناميكيتها موضوع علم مدرسة ما بعد الاستعمار الرائجة بفضل كتاب إدورد سعيد "الاستشراق". وقد صدر في ترجمة جديدة للمعرب المشهور الدكتور محمد عناني من دار رؤية بالقاهرة. وهي مدرسة فكرية فاتتنا حوفا. ففكر يسارنا ومحدثينا مائل الآن إلى التعافي مع الاستعمار من فرط خيبتنا كدولة مستقلة ولفظاظة حركات التجديد الديني التي شَوَّقت خصوم استعمار الأمس له فأصبحوا حسارى عليه يذرفون الدمع الثخين على أيامه. ولم يحدثني عن هذه المدرسة الفكرية من أهل الرأي عندنا سوى الاستاذ إسماعيل آدم أبكر (صاحب رواية الرحيل إلى المدن المستحيلة ذائعة الصيت). فسعيت لتزكيته لمعهد من تلك المعاهد مجهولة المنشأ عندنا التي تزعم الولع بالبحث في مسائل أفريقيا. وأضان الحامل طرشاء. وآمل أن يتصل شغل إسماعيل بالمدرسة من موقعه حيث كان فالخير معقود على نواصيها.
من أفضل من نبه إلى غربة البرجوازية الصغيرة المتعلمة عن أهلها المؤرخ باسل ديفدسون الذي ترجم له الأستاذ جمال محمد أحمد في الستين الأولى واحداً من باكورة كتبه عن أفريقيا وهو "أفريقيا تحت اضواء جديدة". سعى ديفدسون في كتابه الجيد "عبء الرجل السود: أفريقيا ولعنة الأمة في دولة" (  1992) إلى تشخيص مأزق أفريقيا ما بعد الاستعمار. ووجد أن صفوتها، أي برجوازيتها الصغيرة، معيبة جداً وعليها وزر محنة أفريقيا. فنبه إلى سوء ظن هذه الفئة المتعلمة تعليماً غربياً بثقافة أهلها حتى قبلت صاغرة أن تخلع نفسها عن تلك الثقافة طمعاً منها في النهضة بالوصفة الغربية حذو النعل بالنعل.  فقد قر في وعيها، بإلحاح استعماري تربوي معروف، أن تقاليد بلدها صنو للجمود. فلكي تصبح في عداد المتحضرين وجب عليها أن أن تكف أن تكون أفريقية. ولضمان أن يخلع أفراد هذه الفئة  أنفسهم من أفريقيتهم حرص الاستعمار أن لا يصبحوا أوربيين أبدا. فهم في المنزلة بين المنزلتين حتى قيام الساعة. فلا هم بقوا على أفريقيتهم ولا هم ترقوا فاصبحوا أوربيين: لا أرضاً قطعوا ولا ظهراً أبقوا. أي أنهم بلسان عربي مبين لم يبلغوا حيث أرادوا ولم يريحوا رواحلهم عن هذا السفر الضال. وتلك حال شبهها علماء ما بعد الاستعمار بحال القرد مع الإنسان. يتشبه به ولن يبلغه حتى بشق الأنفس. وسموها ب "المقردة الاستعمارية"”colonial mimicry 

وقال ديفدسون في شقاء هذه الفئة الأزلي إنه بقي عليهم أن يجوبوا في خلاء خاص بهم حتى يصيح منادي القدر فيشرع لهم أبواب الحضارة على مصراعيها ويأذن لهم بالدخول في وقت لا معين ولا معلوم. وهذا الجهد الضائع النازف قريب من معنى أسطورة إغريقية قديمة أكثر كتابنا في الستينات الإشارة إليها. وهي اسطورة سيزيف. فقد سرق هذا البطل الأغريقي النار من عرين الآلهة وهبط بها للناس على الأرض يستضئون بها ولهم فيها مآرب أخرى. فغضبت عليه الآلهة وحكمت عليه بشغل شاق سرمدي. فقد قضت أن يحمل صخرة من أسفل جبل ما فيصعد بها إلى قمته ثم يرميها إلى السفح مرة ثانية ثم يعود ويحملها إلى القمة وهكذا دواليك حتى قيام الساعة. وصارت عبارة "الجهد السيزيفي" مجازاً في ديمومة الشقاء والإعادة المملة بغير حصائل.   
كان طلاق البرجوازية الصغيرة المتعلمة عن ثقافة أهلها إئيذاناً بتبديدها لإرث لا صلاح للنهضة بدونه. فالإرث الماضي رأسمال رمزي لا يستقيم حوارنا مع المستقبل إلا به. فالماضي إمكانية حتى قال قائل إن الناس حين تنشد المستقبل إنما هي معنية بالماضي قبل كل شيء. فشغف الناس بالمستقبل هو شغف أكثر حذاقة وأرقاً بالماضي. ربما بالغ الرجل. ولكنه نبهنا إلى الكساد الذي ينذر أمة من فئة متنفذة مثل البرجوازية الصغيرة المتعلمة تخوض بهم بحر المستقبل بغير مركب من الماضي.
ومن قرأ لي مؤخراً نقدي ل"شَناف" أهل الرأي عندنا لحركتنا الوطنية في "قبايل" عيد الاستقلال الماضي وإزرائهم برموزها وقف عن كثب على خطر هذه الصفوة على الوطن. فهي تبدد رأس مالنا الرمزي الذي لا مستقبل بدون وحي منه، أو شغف به.
وفي حلقة قادمة نعرض لنظرات عبد الخالق محجوب من البرجوازية الصغيرة ومواقفه منها.
IbrahimA@missouri.edu

 

آراء