النّزوْل مِنَ الجانِبِ الآخَرِ مِنَ الجَبَل: حيدر إبراهيم في سيرته الذاتية (2). بقلم: جمال محمّد إبراهيم

 


 

 

 

أقرب إلى القلب: 

خواطر عن المرأة. . .

Jamalim1@hotmail.com

(1)

     وصلا لاستعراضنا  لبعض محتويات  كتاب "أزمنة الريح والقلق والحرية" لصديقنا د.حيدر إبراهيم .. أقول إن بين الخاص والعام، بين الشخصي والمجتمعي ، يقف الرجل في ساحة المواجهة ، لا يحمل سكيناً صدئاً ولا سيفاً أجوفا.  لا ! بل حمل حيدر سيفاً بتاراً مجلوّاً بعمق التجربة ، مصقولاً بنبل التفاعل مع واقع  محفوف بالتحديات العظام، والمواجهات المثمرة . . كانت تنشئته مراوحة بين ريف ومدن. بين سكون وحراك.  بين نسائم رقيقة ورياح كاسحة.        قدم حيدر شهادته ، بعد أن وطأت قدماه جمراً حارقاً ، فكانت  مرافعته شفافة كما الكريستال، فاقعة اللون لم يقربها حياد الرماد، ولا غشيتها إسقاطاته الداكنة . صادقة  صدق جرحٍ طازج الدماء . إن كان في السياسة  استثناءاً، وموقفاً متفرّداً، فهو الاستثنائي في علاقته بالمرأة . تلك التي عرفها صبية، خارجة من مهدها ، أو تلك التي اقترب من أنوثتها،  فصرعته لمراحل في سنوات صباه، ثم صرعها في مراحل أخرى، أوتلك التي عرفها بعد أن استكهل أو كاد. عرفها أنثى سلطوية  جديرة بالاحترام،  جديرة  بالاقتداء بحكم التجريب الممعن في الصدقية ، بلا تزويق يعطل ألق التقاليد العتيقة، بلا مكياج يُجمّل عادات يراها كثيرون بالية ومهترئة. ليس بعيداً عن رسوخ التقاليد، ثمة  "كنداكة" خارجة من زوايا التاريخ، برغم  تناغمها مع القطيع، لكنها قادرة- وهي والدة وأم وجدة-  على استشفاف  خاصية التمرّد  عند النابه في بيئته ، حيدر ابراهيم..

(2)       تعرف الأمّ خواص جينات التمرّد ومفارقة المعتاد عند وليدها ، منذ نعومة أسنانه وعند التقام حلمة يرتضع منها، فلا ينفطم إلا وقد صار الصبي نصيراً للمرأة، منذ أن ادرك حجم أثرها في الأسرة الممتدة التي رعت طفولته وصباه، فكبرَ سادناً مكيناً من سدنة المجتمع المدني . ذلكم هو حيدر. لم يكتسب  مناعة الجسد فحسب، بل أيضاً تقوّت عنده مناعة الفكرة،  واستوى عنده رجحان العقل، قبل أن يحبو في رملٍ خرجتْ منه نخلات شكّل تمرها  لون حياته ، ورسمت تلك الأشجار الكريمة- ببركاويها وقنديلها- تلك البصمة التي رسَخَتْ في  وجدانه الناشيء، رسوخ الوشمِ في باطن اليد . .        يقدّم حيدر في ثنايا سيرته الذاتية ، شهادة متقدمة عن المرأة بجرأة ، صاغها  بلغة  دقيقة وحذرة ، ولكنها أوفت بأغراضها. إنّ الرجل الذي عرف احترام الأنثى وهي طفلة، مثلما كبرت أمامه امرأة صبية ، ثم هي الأم والجدّة والتاريخ التليد والمستقبل القادم، كسب قدرا كبيراً  في فهم المرأة وفي احترام انسانيتها. أما في التعبير عن مناصرته لها، فقد التزم الشفافية في طرح الكلمة الخالية من التمويه ، البعيدة عن التخفّي، البريئة من "التقية". ذلك ممّا  ترك غلاة المُتزمتين في حيرة،  لا يعرفون معها  كيف  النيل من طرحه الرصين ومن رؤيته الصادقة. . لأنه جسّد كلّ ذلك التكوين، فقد وطّن نفسه على  أن يناصر المرأة، ظالمة- وذلك قليل- أو مظلومة، وذلك أغلب أحوالها. فساند صوت المرأة، وأيده حراً طليقا، مثلما  رأى لجسدها حقه في البراءة من عنف التأديب ومن شراسة الطهارة الفرعونية،  التي ما زال يتولاها نفر من الإنس، ولعلهم  إلى الجنّ أقرب. . !     

(3)        يقول د.حيدر عن المرأة: (لازمتني المرأة في كل مراحل حياتي، وتشكلاتها، واحتياجاتها وضروراتها. فقد كانت الأم، والزوجة ، والعشيقة، والحبيبة، والابنة، والصديقة، والقضية. وكنت منذ مولدي ذا صلة ما بامرأة ما، ولم تكن حياتي خالية من وجودها..)       تستوقفني إلى ذلك، شهادة حيدر عن بذل المرأة في حقول الإبداع، مدافعاً ومناصرا. يحدّثك عن المُغنية المُميّزة في جيلها "عائشة الفلاتية". يحلل لك  كيف أنهم ألصقوا بها لقب "الفلاتية"، لكأنّ  ذلك المجتمع الممعن في الالتصاق  بتقاليده البالية،  لا يقبل أن تكون تلك المغنية التي خرجت بصوتها الجهير تغني للناس وللجندي السوداني، سودانية بمعاييرهم المهترئة. من تزمّت المجتمع والأسر السودانية تحديداً، تجاه المطربين في السنوات  قبل الوسيطة من القرن العشرين، أن جاء وصفهم للمطربين من الرجال آنذاك، أنهم "صُيّاع"، بما يعني أنهم منبتين بلا أصل ولا مرجعية اجتماعية، فما بالك- إذاً-  بامرأة تغنّي للرجال. .؟ "عائشة الفلاتية" أنموذج لامرأة صارت أيقونة زمانها،  وأحدثت انعطافاً لافتًا في مسيرة  إبداع المرأة السودانية وبذلها المفتوح . قبلتْ أن تغنّي بتوصيفها الإثني الملتبس، والذي يبعدها عن  انتماءها  لمجتمعها الذي مثلته،  وبيئتها التي نشأت في أكنافها، وذلك في حد ذاته  لهو انتصارها  المكلل بكلّ نجاح.

(4)         لعلك  ترى عزيزي القاريء، ما رأيت أنا  من عُمق نظرٍ عند حيدر، وهو يقدّم لك رؤيته الفكرية بلغة سلسة زاهية، لتوصيف أوضاع المرأة في مجتمعٍ، يجاهد أن يخرج من طغيان التخلف . قليل من علماء الاجتماع في السودان، من التفتوا  لدلالات مثل هذه الظواهر في ساحات المجتمع، فيردّونها في التحليل إلى أصولها ، وإن أثار ذلك حنق البعض، أو جلب للجريئين من أمثال حيدر، استنكاراً ممّن  تكون المرأة في نظرهم "نصف رجل"، فيما يقول صديقنا حيدر معترضاً ، أنها "رجل ونصف"، مجازاً  بالطبع حتى لا يخرج علينا أهل الفتوى  بما يشين. . !        لحيدر طروحات تخالف أغلب طروحات سدنة التقاليد، وتناقض كلّ أساليب حماة العادات المنقولة من كهوف التاريخ، وجلّ دفوعات رعاة  الخط العام ، الذين يأنفون من الخروج عن المتعارف من السلوك، فنرى د.حيدر في الضفة المقابلة،  ينافح بقلمه  منافحة صادقة جادة. لا يستنكف أو يتلجلج، إن حدثك حيدر بصريح اللغة أو مساررة، عن ما يسكت عنه السودانيون عادة، عن قصص عشقهم الأولى، ومغامرات الصبا الفضائحية. ولأن للمرأة مكانتها المقدرة عنده، فتراه يحدّث عن قصص عشقه باحترام لافت وتقدير مستحق. كتب عن امرأة عرفها في ألمانيا، وعاشرها  المعاشرة الكاملة، ولم تثمر تلك العلاقة عن زيجة. ثم يصارح قارءه بقصة زواجه، التي ابتدرها شاباً يافعاً، ثم أرجأته ظروف المهاجر الأكاديمية، فتأجل كل شيء  سنين عددا. ما كان يظن أنه قادر على استئناف تطلعه لزواج، بدأت فكرته قبل ثماني سنوات، لكنه جرّب مغامرات الهجرة الطويلة ، ونجح مسعاه آخر الأمر، وحقق تطلعه برغم العواصف والتقلبات ، فصارت له أسرة وأبناء .  كسائر أولاد البلد. .

(5)         أنا أكتب خاطرة ممّا عنّ لي أن أفاكر عبرها كاتب السيرة، مِن سردٍ في سيرته الذاتية، فلا تتوقع منّي، عزيزي القاريء، أن أشركك في كلّ الذي صادفت ، ذلك الذي ألهب خيالي، أو ذلك الذي تجاوزته مستنكفاً، وتركته عامداً خلف ظهري. آمل أن يغفر لي د.حيدر تغوّلي على ما كتب، بخواطري هذي،  فشهادته هي الشهادة الأكثر وثوقاً ، وهو فيما حكى يمثل الاستثناء الأفصح، واللغة الأقدر والتشكيل الأجمل. أما أنا  فليس لي من فضلٍ، إلا فضل استراق  المطالعة والمرافقة الحميمة ، وتقديم خلاصة ما صادفت لقراءٍ،  أحثهم لمطالعة كتاب سيرته الذاتية: "أزمنة الريح والقلق والحرية". .       أستطيع أن أقول إنّ حيدر، وبفطرة التنشئة الأولى، وقبل أيّ مؤثرٍ آخر، قد  استشرف أفق توجهه الأكاديمي لدراسة المجتمعات من حوله، لسبب يمتّ للمرأة- بمطلق توصيفها- بصلة وتأثير، فقاده ذلك المزاج إلى الانخراط والتخصّص في دراسة علم الأنثروبولوجيا وعلوم الاجتماع. يحدّثك في سيرته الذاتية، عن تكوينه الفكري ، صبياً يافعاً في مرحلة، ثم رجلاً  محدد الاتجاهات والرؤى، في مرحلة أخرى، بما عكس إدراكه بكل تلك المؤثرات .

(6)        لعل تجلّيات حقبة "الحرب الباردة" التي جئنا على ذكرها أوّل حديثنا، قد شكلتْ  البيئة المؤاتية التي انتظمت العالم القريب والبعيد،فاستوعبها حيدر،  ولم تغب عن ملاحظته ولا عن استكناه تداعياتها، لصياغة رؤيته وفلسفته الفكرية. ولم يكن  حيدر مُراقباً محايداً يتابع عن بعد. كلا. .! كان الرجل يتفاعل بفكره مع الواقع من حوله،  وذلك منذ أيام تكوينه الفكري في السودان، أو في انطلاقه إلى مهجره الأكاديمي في ألمانيا، ثم لاحقاً ما أثرى كسبه من  العمل الأكاديمي ، أوما تكثفت خلاله تجاربه في العمل الانساني الحر. .      دفعتْ تلك الرؤية الشفيفة بالرجل ليكون أميناً مع واقعه ، قريباً من الحراك السياسي والاجتماعي  في البلاد ، فكان برغم عزوفه عن الانتماءات السياسية المقيّدة  لحرية الفكر والحراك الاجتماعي ، هو الأقرب إلى تيارات المجتمع المدني . كان قد استفزه إخفاق الحكومات الوطنية المتتالية بعد الاستقلال، في  التصدّي لبناء الوطن- الأمّة، فجنح لتجاوز دورها والعمل بجهد المثقف الوطني الحقيقي، باتجاه التوعية الفكرية، عبر منابر  مستقلة، مثل منبر "مركز الدراسات السودانية" في الخرطوم ، الذي ضاق صدر السلطة بنشاطه فضيّقوا عليه.  .        من يحمل عليك ضغناً  ، فلن تجد منه  إلا نظر السخط حتى لو لفه ظلام دامس ، كما  يقول المثل العامي عندنا (يحمّر ليك في الضلمة) ... تمعّن في شعر الإمام الشافعي:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا    ولنا عودة  إلى أزمنة حيدر، فانتظرني ، أيّها قاريء العزيز. .  

الخرطوم في 18 أغسطس 2015

 

آراء