ثقافة المساءلة وشروط الحكم الراشد خلال الفترة الانتقالية

 


 

 

 

 

استوقفني المقال الذي كتبه د. حيدر إبراهيم في صحيفة الديمقراطي بعنوان : ثقافة المساءلة والمحاسبة – شروط الحكم الديمقراطي الراشد، واستفتحه بعبارة نيرة تنطوي على أهمية بالغة وهي أن (المساءلة والمحاسبة ركن أساسي في أي نظام ديمقراطي حقيقي لأنه مرتبط بدور البرلمان والمجتمع المدني والإعلام والقضاء المستقل والخدمة المدنية الفعالة، والأهم من ذلك تأكيد حق المواطنة، إذ يشعر المواطن العادي بأنه شريك في الثروة والسلطة فعلياً) وكان يجدر السير بهذه الفقرة إلى نهاية منطقية تتناول الوضع الراهن خلال الفترة الانتقالية، وتوضح مدى تأثير غياب المساءلة والمحاسبة على أداء الدولة وعلى حالة التقاعس العام في الأداء الحكومي، والسيولة التي جعلت المهام والواجبات التي يتعين أن تقوم بها الجهات الحكومية في حالة غياب.

امتازت الفترة الانتقالية الحالية بأنها طويلة نسبياً مقارنة بالفترات الانتقالية التي خلت خلال العهد الوطني، فمدتها وفقاً للوثيقة الدستورية الأصلية التي تم توقيعها في 20/8/2019 تسعة وثلاثون شهراً تبدأ من تاريخ التوقيع على الوثيقة الدستورية، ثم جرى تعديلها من قبل مجلسي السيادة والوزراء منفردين ليبدأ احتساب فترة التسعة والثلاثين شهراً من تاريخ التوقيع على اتفاق جوباً في 3 أكتوبر 2020، وبذلك أضيفت مدة عام وشهرين تقريباً على المدة الأصلية، مما يجعل منها دورة حكم كاملة تزيد مدتها على دورات الحكم في بعض الدول مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وليست مجرد فترة انتقالية سريعة تمهد الطريق لسلطة منتخبة تقوم بتنفيذ مهام التحول الكبير. ويستدعي هذا الوضع وجود أجهزة الضبط والمساءلة التي تملك صلاحية محاسبة مؤسسات الحكم المختلفة عن الأخطاء وصور التراخي في الأداء الحكومي، وتملك تصحيح المسار بما يعزز قدرة الدولة على سلوك الطريق الصحيح لتحقيق أهداف فترة الانتقال والوفاء بمتطلبات الثورة.

أهم آليات الضبط الحكومي والمساءلة هي المجلس التشريعي، فهو ليس فقط هيئة لإصدار التشريعات وإنما الجسم الذي يملك حق في النظر في خطط الحكومة ومحاسبتها على تنفيذها وعن أوجه القصور التي تعتور أداء الجهاز الحكومي. وما أكثر أوجه القصور التي تتطلب مساءلة عاجلة بما في ذلك التفلت الأمني الذي عم ربوع البلاد وانعدام الخدمات العامة التي أدت بالمواطن إلى أن يقف في الصفوف الطوال طلباً للرغيف والوقود وانتظاراً للكهرباء وإنفاق وقته بحثاً عن الخدمات الصحية، والشلل العام الذي اعتور الخدمة المدنية وانتظار عدالة غائبة للقصاص من قتلة الشهداء، وغيرها من أوجه القصور التي لا يمكن إحصاؤها.

كانت الذريعة المعلنة للخرق الدستوري بعدم تشكيل المجلس التشريعي خلال المدة المحددة دستورياً هي إتاحة الفرصة للاتفاق مع الحركات المسلحة على التأجيل ريثما يتم التوصل لاتفاق سلام معها، ثم تم توقيع الاتفاق المطلوب ومرت أكثر من ستة شهور والمجلس مجرد فكرة في رحم الغيب. وصدرت مصفوفة عن مجلس شركاء الحكم وحددت تاريخ تشكيل المجلس هو 25 فبراير 2021، ثم مضى التاريخ المعلن وتناسى القوم الوعد المضروب دون اعتذار أو توضيح، الأمر الذي يعضد ما أثاره كثير من اللصيقين بصناع القرار وهو أن (شركاء الحكم لا يريدون الإيفاء بتشكيل المجلس التشريعي لضمان احتكار القرار والمصير الوطني أو أنهم وهو الأسوأ يمارسون مسلسل تضليل يوهم الشعب باهتمامهم بالأمر بينما تمضي الأيام والشهور وتنتهي الفترة الانتقالية بلا برلمان) كما أورد الصحفي عثمان ميرغني في أحد مقالاته.

من أكبر صور التضليل والتحايل الدستوري العبارة التي وردت في صفحة مجلس السيادة الانتقالي ووصفت مجلسي السيادة الوزراء (بالمجلس التشريعي الانتقالي) فهما ليسا مجلساً تشريعياً وإنما منحت لهما صلاحيات المجلس التشريعي لمدة تسعين يوماً فقط من تاريخ التوقيع على الوثيقة الدستورية لملء الفراغ خلال هذه الفترة التي كان يتعين أن يتم فيها تشكيل المجلس، أما استلاب صلاحياته بصورة دائمة تحت مسمى مجلس تشريعي مؤقت فهو إمعان في تكريس الخرق الدستوري ونقض المواثيق والاستحواز على صلاحيات لا يملكها مجلسا السيادة ومجلس الوزراء.
بالطبع فقد قاد تكريس السلطة في أيدي فئة قليلة هم أعضاء مجلسي السيادة والوزراء بالمخالفة لما تم الاتفاق عليه وأدرج في الوثيقة الدستورية، إلى تجميع سلطة حكم لا يوجد من يحاسبها أو يسائلها عن أعمالها، فكانت النتيجة الحتمية في ختام المطاف تراكم الضعف العام في الأداء الحكومي والتسيب في تنفيذ المهام رغم تغيير شاغلي المناصب الوزارية.

ينطبق نفس الأمر على المحكمة الدستورية وهي الجهة الرقيبة على دستورية القوانين التي تصدر خلال الفترة الانتقالية ولها حق الرقابة على أداء أجهزة الدولة تحت ما يسمى بالرقابة الدستورية، كما أنها المعنية بحماية الحقوق والحريات. وقد شهدت المحكمة الدستورية تغييباً متعمداً منذ يناير 2020 بانتهاء أجل قضاتها ولم يتم تعيين قضاة آخرين، في فشل أدنى ما يمكن أن يقال عنه أنه مزري ولا يليق بثورة عظيمة كثورة ديسمبر. فكان يتعين وجود خطة واضحة لملء المناصب الشاغرة من قضاة المحكمة الدستورية، تفادياً للدخول في فراغ عريض بحجم أهمية المحكمة الدستورية في مثل الظروف التي تمر بها البلاد التي تتطلب وجود الرقابة الدستورية

من الآليات الضرورية التي تم تغييبها، مفوضية مكافحة الفساد واسترداد الأموال العامة، وهي واجب دستوري نصت عليه الوثيقة الدستورية ووضعت على عاتق مجلس الوزراء تعيين رئيسها وأعضاءها، إلا أن هذا الواجب لا يزال حلماً في مهب الريح، رغم الأهمية القصوى لهذه المفوضية في مكافحة الفساد خلال الفترة الانتقالية وتعزيز النزاهة والشفافية. فهي الجهة المعنية بالتقصي حول شبهات ومزاعم الفساد وملاحقة المفسدين خلال الفترة الانتقالية. وغني عن القول أن مهامها تختلف عن مهام لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو التي تمارس صلاحياتها مقتصرة على تفكيك النظام البائد والكشف عن الفساد الذي تم بسبب التمكين واسترداد الأموال العامة التي تتعلق به، بينما مفوضية مكافحة الفساد واسترداد الأموال العامة موجهة في الأساس لمكافحة الفساد الذي ينشأ في الفترة الانتقالية واسترداد الأموال العامة التي تتعلق به من خلال ممارسة مؤسسات الدولة لمهامها.

أثبتت التجربة العملية خلال الفترة المنقضية من عمر الفترة الانتقالية أن غياب أجهزة الحكم الراشد ومؤسسات الرقابة البرلمانية والقضائية والتنفيذية أضعف الأداء الحكومي بصفة خاصة وأداء أجهزة الدولة بصفة عامة، ولا غنى للقوم من استكمال أجهزة الرقابة والمساءلة والمحاسبة بما فيها المجلس التشريعي والمحكمة الدستورية ومفوضية مكافحة الفساد لتعزيز حيوية أجهزة الحكم، وتقوية قدرتها على استكمال مهامها وواجباتها وكسر قيد احتكار السلطة.

abuzerbashir@gmail.com

 

آراء