أيُّ مستقبلٍ للحزام الرعوي في ظل الاستقطاب العسكري والسياسي الحالي؟

 


 

 

وضح جلياً بعد خراب الخرطوم أنَّه لا مستقبل لأي بقعةٍ في السودان في ظل الاحتراب الذي إذا انتهى بانتصار أحد الفريقين سيؤدي إلى تكريس الاستبداد، إهمال سبل الرشاد وتقنين حيل الفساد والإفساد. لا أحتاج لتبيان ما سيكون عليه الوضع إذا ما انتصر الجيش بقيادته الحالية فتجربة ثلاثة عقود ما زالت حيَّةً في أذهان الناس، كما لن أحتاج لتوضيح حال الوطن حال انتصار الدعم السريع الذي موَّل حملته العسكرية حتى الآن من مقتنيات المواطنين ولم يتردد في طردهم واحتلال مساكنهم عندما اضطرته الضرورة لذلك. لا عجب أننا نري أنَّ الشعب قد بات منقسماً على نفسه من أثر الغيرة الوطنية أو الروح القومية التي ترى أن جيش البلاد هو الملاذ عند الشدائد والنائبات، أو العصبية - بمعنى الحمية - التي ترى أنَّ الهزيمة فيها كسر لشوكة البقارة الذين كانوا حتى لحظة المواجهة الأخيرة رديفين للجيش في كافة حملاته التي سعت لتقويض حلم الدولة المدنية، خاصة تلك المحاولات التي قام بها أبناء الهامش في جنوب البلاد وغربها.

أثبتت الثلاثة أشهر الماضية أنَّ الحل العسكري غيرَ مُجدٍ البتة وأنَّه إذا ما كُتب له التحقق فإنَّ له تكلفة إنسانية واجتماعية واقتصادية باهظة الثمن، لا سيما مع ظهور المغامرات العسكرية التي لم تتوانَ لحظة عن إبادة المساليت في غرب دارفور وحرق قراهم حينما سنحت الفرصة أو تلك التي ظهرت بوادرها في استهداف بعض الإثنيات - التي ينحدر منها أفراد الدعم السريع - في الخرطوم. صحيح أنَّ هنالك غضبٌ وحقدٌ يعتمل في النفوس لكنَّنا يجب أن نرعوي قبل أن تصل البلاد إلى محطة اللا عودة التي يحدث فيها تفشي الغبينة الذي يعقبه تشظي المدينة. لا محيص للسودانيين من إجراء حوار بين جميع الأطراف يفضي إلى تسوية تاريخية تضع حدَّاً للاحتراب، تكفُل الحقوق الدستورية المتكافئة لكل المواطنين، تحافظ على كرامة الإنسان المهدرة، تفتح آفاقاً للتنمية الريفية الشاملة، وتُعبِّد الطريق لاستدامة النظم الديمقراطية الفدرالية.

عوض عن أن نَكون أدواتٍ للاستقطاب ومفاعيلاً في مختبره - كأن تنحاز كل مجموعة لأحد الفريقين - يجب أن نسعى لتكوين "جبهة مدنية عريضة" تكون هي بمثابة الحاجز المنيع الذي يحول دون تماديهما في الحرب أو رجوعهما للسلطة تحت أيٍّ من المسميات، بل محاسبتهما على ما أحدثا من ضررٍ مادي شمل دمار البنية التحتية للعاصمة وضررٍ معنوي ظهرت آثاره في تصدع الوجدان القومي للبلاد. أعتقد أنَّه ليس من مهمَّة المثقف التحشيد إنَّما يكمن دوره في الترشيد والتبصير بمجريات الأمور. لقد أخطأ المثقف السوداني - والدارفوري خاصة - يوم أن تبنَّى أجندة الحركات المسلحة وانداح وراءها دون أن يتخير لنفسه موضعاً يكون فيه موجهاً للفعل السياسي وليس متلقياً لتعليمات العسكريين. كل الجهات الجغرافية - الشرق والغرب والوسط - تعاني من سيطرة شاويش تصور أنَّه ارتقى يوم أن اعتلى المنصة ممسكاً بطبنجته!.

إنَّ دحر المتحرك الخامس للجيش السوداني من قبل "مليشيا متمردة" (حسب تصنيف الإعلام المرئي والمسموع للحركة الإسلامية) أمر يستدعي الشفقة والحسرة، إذا كان هذا هو وضع جيشنا فلماذا نكشف حالنا أمام الأمم المتربصة بنا؟. لماذا تتغيب قيادة الجيش عن المنتديات الإقليمية؟. لماذا لا تَحضر وتُبين وجهة نظرها بحسم وجدية؟. فالجيش رقم تقهقره الميداني قد كسب المعركة الأخلاقية إذ لم تدون حالة اعتداء واحدة على مواطن أو مواطنة - من قبل أفراده - حتى هذه اللحظة، وهم على ما عليه من فاقة وسوء حال. لا يمكن للجيش أن يكسب المعركة عسكريا إلا إذا كسبها سياسياً - كأن يكون له مشروع وطني - ينحاز له جموع السودانيون دون تمييز. هذا لن يحدث إلا بتبدل قيادته الحالية وانعتاقها من سطوة الإسلاميين.

يزعجني جداً ويؤسفني حقاً تنادي كثيرٍ من المتعلمين - وإذا شئت المثقفين - من أبناء الحزام الرعوي للاصطفاف وراء الدعم السريع والقيام بنوعٍ من التحشيد الغرض منه تكبير الكوم، وهم بذلك يرتكبون ذات الخطأ الذي ارتكبته نخب الهامش يوم أن دفعتها حماستها للوقوف وراء الشهيد خليل إبراهيم دون الانتباه إلى أنَّه يمثل أجندة خاصة بشخصه، فصيلته التي تؤويه، وتنظيمه الإسلامي الذي يوفر له الغطاء الفكري والأيديولوجي. ترى هل يختلف الأمر بالنسبة لحميتي الذي يستثير حمية البقارة ويستغل حماستهم القتالية من أجل مشروع توسعي إمبريالي يخص عيال زايد؟. لقد اضمحلت فكرة "التحول المدني الديمقراطي" ثمَّ انتقلت الأجندة إلى ترداد ببغائي عن دولة ١٩٥٦، والآن يتم تبني أجندة الحركة الشعبية من منظور انتقائي وفكري غير متماسك.

لم ينتبه الناشطون من أبناء الحزام الرعوي والمتحمسون لدعاوى "القائد" إلى أنه بتصرفاته الخرقاء هذه قد أدخل الكيان العربي برمته في أزمة وجودية. لم يحدث أن اعتدت أيُّ من الحركات الثائرة على المواطنين بهذه الطريقة السافرة طيلة الستة عقود، وقد كان بمقدورهم القيام بعمليات انتحارية تشمل التفجيرات والاغتيالات في الخرطوم، إلا إنَّهم انتبهوا إلى أنَّ مثل هذه الأفعال تقدح في ثوريتهم وتنال من شرعيتهم النضالية. أذكر أنَّ ضابطاً في الحركة الشعبية - من جنوب السودان - وقد كان مُجاوراً لنا في العمل قدم إلى مكتبنا الهندسي يوم اغتيال قرنق وحرص على اصطحاب والدي الدكتور آدم مادبو إلى سيارته والتأكد من سلامته إذ رأى الفوضى العسكرية وانفلات الأمن. هل يمكن مقارنة هذا السلوك الحضاري الإنساني بمن يرتادون منزل "عميد الأسرة الدارفورية" و"أحد أعمدة الديمقراطية السودانية" ويحرصون على تدمير عمارته وسرقة دابته؟.

لقد انتبه الرعيل الأول من مثقفي دارفور وكردفان أمثال دريج وآدم مادبو وبكري عديل ودبكة وجمَّاع وأحمد عبدالقادر أرباب وعلي الحاج وآخرون إلى ضرورة العمل السياسي المدني والنأي قدر الإمكان عن العمل العسكري الذي يضع غرب السودان في مرمى المدفعية والبلاد لم تزل تعاني من هشاشة التكوين الاقتصادي والاجتماعي. لم يكن هذا المخاض سهلاً فقد واجهت هذه النخب المعتدلة صلف واستبداد وعنصرية النخب المركزية، بيد أنَّهم صبروا وصابروا حتى نالوا مواقع قيادية تتناسب وتأهليهم العلمي والأكاديمي، تتوافق وعدد ناخبيهم وتليق بتضحيات أهاليهم واستبسالهم في المعترك الوطني، لكنَّهم لم يستطيعوا رغم ذلك أن يُغيِّروا في بنية الدولة وهيكلها الأوتوقراطي نسبة لغياب الرؤية أو لبطء الأسلوب الذي اعتمد التدرج ونأى عن الثورية.

لم يدم الحال طويلاً حتى جاءت الإنقاذ والتي كانت مرتعاً للانتهازيين من مثقفي الزرقة والعرب قصيري القامات من بؤس الهامات، منتفخي البطون من مال السحت، طالبي المناصب ولو على جماجم ذويهم وركام القرى والفرقان. لقد ارتضي بعض المتعلمين تسلق ظهر "حركات الكفاح المسلح" للوصول إلى مناصب سياسية واستمرأ آخرون أساليب السمسرة في "حرس الحدود" الذي صار من بعد "الدعم السريع". والحال هكذا فقد تمَّت عسكرة السياسة بالكلية وتمَّ اعتماد سياسة العسكرة التي أفسحت المجال لكل طامح في الحكم للبحث عن فريق عسكري يعمل وفق مواجهاته. لقد مثلتا (اتفاقية جوبا "التي اتخذت من الحركات رافعة عسكرية") و(الاتفاق الإطاري "الذي اتخذ من الدعم السريع رافعة عسكرية") قمة التتويج لهذا الأسلوب الانتهازي والذي رعته ال (kleptocracy) بكل حفاوة. لك أن تراجع المصروف اليومي لأعضاء الوفد المفاوض الذين كانوا يتسكعون في شوارع جوبا وأحياناً ما يلجون قاعة الاجتماعات. لم يغب عن ناظري مشهد أحد أعضاء المجلس السيادي وهو يعدل الميكرفون للسيد "القائد" وقد كان من قبل يعتبره مجرد مرتزق يعمل لصالح الهارب الكبير عمر البشير.

ختاماً، بانتهاء الحرب - والتي ستحسمها "الكتيبة الظافرة" بإذن الله، تلك المُكونة من شرفاء وطنيين - تكون قد انتهت حقبة العسكريين المؤدلجين وقادة المليشيات المدلسين إلى غير رجعة. بقي أن يضطلع المثقفون والمتعلمون من أبناء الأقاليم كافة بدورهم في إعداد منصة التأسيس التي يجب أن يسعوا من خلالها على وضع التصورات اللازمة لتشييد أنظمة الحكم الرئاسي الفدرالي، تحديد دور المفوضيات، وتقنين دور الجيش في المعادلة الحكمية الجديدة. يلزم أن يعمل المثقفون من أبناء الحزام الرعوي على تجاوز المحنة، وذلك بالانخراط بجدية وعلمية مع الآخرين في تكوين المنصات المدنية والسياسية التي توظف أفكارهم ورؤاهم من أجل المصلحة القومية مستفيدين من وزنهم الجماهيري - الذي يغنيهم عن ارتكاب الحماقات العسكرية - وتطلعات أهاليهم في التنمية والاستقرار. لقد انعتقت الشعوب من الخرافة وتحررت من سبل الاستبداد التي كانت تمارسها النخب المركزية سيما تلك التي أدمنت لعبة التوازنات وبرعت في استقطاب نخب الهامش - والتي كانت في الأصل تعاني من ضعف المناعة - على أساس عرقي وقبلي.

Auwaab@gmail.com

 

آراء