سايكولوجيا الانفصال والوحدة
مدخل أول : خروج الحماس
قالها أحد أصدقائي وعبرت عني حيال موقفي تجاه الوطن الآن : " أنا مع الوحده وأرى أن مصلحة البلاد فيها لكن لو كنت جنوبيا لصوت للانفصال " .. أنتقدني الكثيرون وقالو أن هذا تناقض ، أما أنا فأرتحت كثيرا وأحسست أنني وجدت ضالتي ..
فمنذ أكثر من ستة أشهر عندما بدأت برفقة شباب وشابات من أبناء وبنات الوطن الشرفاء الغيورين عليه ، بتأسيس مبادره شعبيه أسميناها "مليون ميل موحد" لنعلن من خلالها موقفنا الحاسم تجاه وحدة السودان عندها كنت مشتعله حماسا وأتوق لتدشين الحمله التي وضعنا لها خططا كبيره ومتنوعه لتعبر عن نفسها مثل العروض المسرحيه والغناء والرسم والندوات وغيرها ، لنشهر من خلالها عن موقف تاريخي يدعو لوحدة البلاد ويرفض انفصال جنوبها عن شمالها ....
توالت الأيام والأسابيع عامره بالنقاش والحركه والأفكار المتجدده، وحماس الشابات والشباب ، وجديتهم خير برهان على حبهم وغيرتهم على مصلحة الوطن .. اما أنا فلا أدري لماذا بدأ يخمد بداخلي الحماس رويدا رويدا، مثلما مغيب الشمس ، دونما استئذان وفي مراحل ليس لها فواصل ، في هدوء تام وصل حد الرتابه . التي وصلت حد الضيق كلما حدثني أصدقائي عن أمر المبادره عبر الهاتف أو عند المصادفات اليوميه وجها لوجه ، عندها ماكنت أجد كلمات لأشاركهم أو أرد على تساولاتهم أو بالأحري كنت أقول كلمات كثيره عفويه وعندما أنتهي أشعر وكأنني لم أقل شيء وذلك لأن ما أقوله لايعبر عن حقيقة مابداخلي . لا أدري ماحقيقة بداخي ، فقط أشعر بالاغتراب بين كلماتي واحساسي ...
حركة النشاط اليومي المزدحمه بالمهمات والوجوه والمواقف ما كانت الا حاجزا زجاجيا بيني وبين روحي وذكرياتها ... شوائب الطريق وقطرات الماء " التي لا ادري ان كانت رزازا أم دموع" .. تبدأ جميعها تدريجيا في التلاشي من على سطحه ، ليبدو الزجاج أكثر نصوعا كلما مرت الأيام حتى تتبدى لي الرؤيه واضحه أكتشف ذات أصيل أنني على مدي أيام بل اسابيع طوال أسترجع ببطء ذكريات مواقف عشتها أو تخيلتها أو قرءتها في الكتب الأكاديميه لعلم النفس عن ما يسمى باضطراب ضغوط مابعد الصدمه . أحسست الى أي مدى أن تلك الذكريات أثرت في حماسي ، والى أي مدى هي متداخله مع موضوع المليون ميل موحد ، انها من نوع اللحظات التي تنتبه فيها لذاتك بدون مقدمات وبدون مؤثر خارجي معلوم لديك ، انها تأتيك كما الوحي تملؤك فجأه وتنتشر في شرايينك وتعطيك خلاصه ثقيله ترهق أعصابك لكنها تريح بالك ، لأن فيها تفسير ، نعم فيها تفسير .. أدركت سبب ضيقي وبهتان الحماس بداخلي حيال المبادره ، مالم ادركه حتى الآن أنه " ماسر تزامن تلك الذكريات مع تسارع الزمن تجاه ميعاد تقرير مصير شعب الجنوب؟ " .... بالأحرى ماهو الشيء الذي يجعل تزامن الأثنين معا في محطة شخصك لا في محطة شخص آخر ،
أنهم ضحايا وأنها أعراض لأزمات أناس يتألمون ويعيشون ليلا ونهارا معناة لايعلمها سواهم وسواي وزملائي في العمل الخاص بعلم النفس ، تأكدت حينها أن المليون ميل موحد هو مليون صرخة ألم تشق السماء كل ليل .
ان حماسي التهمه ظلام الليل الذي يستيقظ فيه "أحد هؤلاء الضحايا الشرفاء" بكابوس مرعب يشق عنان الهدوء.
فما توصلت اليه هو أن معرفتي بما يسمى " بأضطراب ضغوط مابعد الصدمه" ومعرفتي بمستوى الاهتمام بالخدمات العلاجيه النفسيه في البلاد ، هي نقاط التقاء معاناتي مع معاناة موطني ، لتنزف عند تلك التعرجات في الخريطة الفاصلة بين الشمال الجغرافي والجنوب الجغرافي الكليلين .
اذن ماهو اضطراب ضغوط مابعد الصدمه ؟ وماهي علاقته بوحدة أو انفصال جنوب السودان؟
مدخل ثاني : بوابة العلم النارية
اضطراب ضغوط مابعد الصدمه
Post Traumatic Stress Disorder PTSD
بعد مرور 15 سنه على الحرب الفيتناميه أكتشف أن نصف مليون محارب أمريكي يعانون من اضطراب ضغوط مابعد الصدمه ، وهذا الحدث هو صاحب الفضل في اكتشاف هذا الاضطراب وتشخيصه وتصنيفه وتفسيره وايجاد العلاج له . كما أن دراسات أخرى مهمه توصلت الى أن أعدادا كبيره من المواطنين الفيتناميين والكمبوديين الذين عانوا لعقود طويله من الحروب الاهليه مصابون باعراض هذا المرض النفسي . كما يقال ان 20%من سكان كمبوديا البالغ عددهم سبعه ملايين نسمه أصيبوا بهذا الاضطراب جراء الفظائع التي ارتكبها "بول بوت" . واضا ماتوصلت اليه الدراسات بشان سكان يوغسلافيا السابقه أن 25%من سكانها الذين شهدوا الحرب العرقيه يعانون من اضطراب ضغوط مابعد الصدمه .
أن أضطراب ضغوط مابعد الصدمه هو أحد الاضطرابات النفسيه العصابيه والتي تكمن خطورتها في عدم ظهورها المباشر مع الحدث في كثير من الاحيان حيث يمكن أن تظهر اعراضه بعد سنوات من حدوث الفعل المسبب ، وايضا خطورته في ان اعراضه ذات مدى طويل قد تصل من شهور الى سنوات وتتخلل حياة الفرد وتؤثر على نشاطه اليومي بشكل مزعج جدا ومؤلم .
كشفت الدراسات والبحوث أن أكثر الناس عرضه لهذا الاضطراب هم ضحايا الحرب ، وأن أهم الاسباب المباشره هي الصدمات من صوت القنابل أومشاهدة أحداث مؤلمه مثل موت شخص أو اندلاع الحرائق ، أو رؤية شخص مجروح أو مصاب اصابه بالغه خصوصا اذا كان من ذوي القربى ، أو الاصابات المؤديه لفقد الأعضاء الحركيه أو بترها ، أو التعرض لفقدان الأهل أو العشيره ، أو تدمير الممتلكات الخاصه مثل المأوى والمنزل .
وعليه يمكن القول بانه اضطراب نفسي ينشأ بسبب صدمه ماديه او نفسيه او كليهما .
( DSM-III-R , 1987 ) وصفته الطبعه المنقحه للمرشد التشخيصي
بأنه أي حادثه تكون خارج استجابة مدى الخبره المعتاده للفرد ، وتسبب له الكرب النفسي وتكون استجابة الضحيه متصفه بالخوف الشديد والرعب والشعور بالعجز .
أعراضه ومعاناة المريض :
أن الشخص المصاب بهذا الاضطراب لهو شخص يعاني معاناه نفسيه داخليه تشعره بالالم والضيف النفسي والتوتر لفترات طويله جدا من حياته ، يكون بسببها غير قادر على الشعور بالحب والسعاده جراء الاحداث المفرحه ، ويعاني قصورا في القدره عن التعبير عن الاحداث السعيده مما يسبب الخلل في العلاقات الحميمه أو الزواجيه أو الصداقه أو الأسريه .
وأهم الاعراض تتمثل في استرجاع الاحداث الصادمه بشكل متكرر وقسري اثناء النشاط اليومي أو اثناء النوم فقد يعاني الشخص من كوابيس مفزعه أو يشاهد صور ذهنيه اثناء اليقظه لنفس الاحداث التي سببت له الصدمه ، ويكون ذلك الاسترجاع مصحوب بنفس المشاعر المخيفه والمؤلمه لحظة التعرض للحدث في الماضي ، وكأنه يعيش داخل الحدث الآن بكل تفاصيله وتظهر عند البعض في شكل نوبات هستيريه أو بكاء أو صراخ .
ان هذا الشخص يتجنب بشكل سافر كل مايمكن أن يذكره بالحدث الصادم ويحاول الهرب منه او عدم الدخول في أي مواقف قد تذكره به ، مثل مقابلة اشخاص أو مشاهدة برنامج تلفزيزني أو المشاركه في حوار ما .
نوبات الغضب أو الهيجان المصحوبه بسلوك عدواني لفظي أو بدني تمثل ايضا احد الاعراض المهمه ، ويكون الشخص دائما في حالة حذر وتيقظ على غير العاده . وسريع الاستثاره والانفعال مما يجعل المحيطين يستغربون في أن هذا الشخص انفعل لسبب غير مبرر او لايستدعي كل هذا الانفعال والهيجان .
يقل نشاط الشخص المصاب وتصبح دافعيته نحو الانجاز منخفضه ، وغالبا مايتخلى عن ممارسة هواياته المححبه ويتجنب الاختلاط بالآخرين حيث يبدأ يفقد علاقاته الاجتماعيه وصداقاته وحتى علاقته بأفراد أسرته تتضائل .
ومن المهم الانتباه الى ان وجود واحده من تلك الاعراض لايعني أن الشخص مصاب بهذا الاضطراب وانما وجودها مجتمعه ولفتره طويله ومعها ايضا اعراض اخرى تصب كلها في خانة الشعور بالقلق والكآبه .
أما عن العلاج فقد ابتدعت بفضل الدراسات والبحوث النفسيه وسائل علاجيه ناجحه منها العلاج السلوكي المعرفي ومنها العلاج بالعقاقير والعلاج بالاسترخاء . واهم مايذكر هنا هو أن أكثر الناس احتمالا للشفاء من غيرهم هم الذين يجدون السند الاجتماعي أي الرعايه الأسريه في المقام الاول واهتمام الوالدين والاخوه أو من افراد العائله الآخرين أو من الاصدقاء أو الأشخاص الآخرين المقربين اجتماعيا
أحبائي : أن الشخص المعرض لهذا الاضطراب ليس له أي يد في صنع حالته لأن تعريف السبب الأساسي للاصابه يتمثل في أن الشخص يتعرض لاحداث خارجيه من صنع انسان آخر أو أحداث الطبيعه مثل الزلازل والبراكين . ان المريض هنا ضحيه وفي السودان هو ضحيه مرتين فبعد أن يمرض هو ضحيه لعدم توفر العلاج والدراسات والبحوث .
وقفه : كم من شعب الجنوب تعرضوا لتلك الصدمه وهو شعب عانى ويلات الحرب فترة خمسين عاما .. هل نتوقع منهم التصويت لخيار الوحده ؟؟ هل يلام أحد هؤلاء الشرفاء على أنه صوت للانفصال في ظل ظروف لبلاد تنعدم فيها البحوث والدراسات العلميه النفسيه ؟؟ ويتضائل فيها العلاج النفسي والتوعيه الصحيه والطبيه ؟؟ . . . . هل ؟؟.
ندى حليم / اختصاصية نفسية وناشطه في مجال حقوق الانسان
Nada Haleem Saeed [nadahaleem19@yahoo.com]