صراع السُلطات: الحلقة الأولى
عبدالرحيم محمد صالح
2 July, 2021
2 July, 2021
Salih@american.edu
*نُشرت في صحيفة السوداني بتاريخ 1 يوليو 2021
قيل إنّ القضاء أساس العدل، والعدل أساس الحكم، والحكم العادل أساس الدولة واستقرارها فالحكم بالعدل والصد للحق والقسم بالسوية والوفاء بالعهد من أسمى قيم الإنسانية عند العديد من الأمم والشعوب. للعدل معالم وأمارات وتباشير يُعرف بها حين تخفق راياته بسطاً للعدل وإنجازاً للحق فالناس في الحق سواء. نعلمُ أنّ التدافع والصراعات بين الأفراد والجماعات والطوائف قديم قِدم الإنسانية؛ فيقع الصراع بين نور الحق وظلام الباطل ولا غرابة في ذلك؛ أما أن يقع الصراع بين طرفين أحدهما من المفترض أن يكون عضداً للآخر فهذا لا يحدث في دولة تحترم سيادة حكم القانون. وفيما يلي سأسوق للقارئ الكريم أًنموذجا مؤسفاً لصراع السُلطات جعل أمتنا السودانية تسقط في امتحان فصل السلطات واحترام سيادة القانون بعد أن كانت مثالاً للعدل بين الأمم. فدور النائب العام الأساس الوفاء بالدستور بأن يقف أمام القضاء نيابة عن المواطنين والحكومة صادعاً بالحق لا حائداً عنه، بإقامة العدل في القضاء، فهو أحد طرفي النزاع ولا ينبغي له أن يتغول على ميزان العدالة. فإن لم يقتنع بقرارات المحكمة وحقها في التفسير وفهم النصوص، فليتبع الاجراءات القانونية وأن يحترم سلطة القضاء المستقل والتي تستطيع أن تصحح نفسها بمقتضى القانون والدستور .لكن بدلا من أن يكون النائب العام هو المدافع عن القوانين وحاميها أصبح منصب النائب العام عادةً يشغله القانونيون الطيِّعون ليكونوا رسناً وسوطاً لإرهاب القضاة والمحامين ولإدخال دوائر السلطة القضائية عنوة تحت نير (إسلَم) السلطة التنفيذية . ولضمان السيطرة المتواصلة التي تمارسها السلطة التنفيذية على الشؤون القضائية، دائماً تُعيّن شخصية طيّعة لتتحكم في مفاصل القضاء والتشريع واتخاذ القرارات عند كلّ استحقاق. وقد يتعدى النائب العام المُعيَّن أحياناً دوره المنوط به في تمثيل مصالح الشعب والدولة إلى مرحلة التآمر والتستر و "شيل وش القباحة" دفاعاً عن السلطة التنفيذية.
جرى الصراع حول سير وأحداث هذه القضية الشهيرة والتي شغلت الرأي العام في ثمانينات القرن الماضي بين وزير العدل والنائب العام من جهة والدكتور إبراهيم خالد المهدي قاضي المحكمة العليا من جهة أخرى .رُفِعت هذه القضيّة ضد ثماني من الشخصيات النافذة آنذاك، ومعظمهم أعضاء بالاتحاد الاشتراكي والحكومات المحلية بالعاصمة القومية الخرطوم، وسُجِّلت في سجلات القضاء بالبلاغ رقم 352/1981م المتهم فيه أحمد عبد الله فضل الله وسبعة متهمين آخرين. وعُرِفت بـين العامّة بـ "قضية عكاشة مضوي"، وفي وسائل الإعلام بـ "قضية المخابر الوهمية" ومعروف عن هذه القضية أنها كانت تمس نافذين بالدولة لهم علاقة بالسيد الرشيد الطاهر بكر، القانوني والسياسي المعروف والذي كان يشغل منصبي وزير العدل والنائب العام آنذاك. وظلت هذه القضية مع مجموعة من قضايا الفساد الأخرى الحساسة مثل "قضية وزارة الأشغال" وقضية "مزارع ومنتجات سجن كوبر" والتي يُعتقدُ أنّها تمس السيد عمر محمد الطيب نائب رئيس الجمهورية، قيد الانتظار "مركونة "إلى أن تولى أمرها قاضي المحكمة العليا د. إبراهيم خالد المهدي رئيس محكمة جنايات الخرطوم رقم (12) ، وهي إحدى ماكان يُعرف بمحاكم العدالة الناجزة.
وأول مابدأ رئيس محكمة جنايات الخرطوم الإجراءت بتوجيه التهم واستدعاء الشهود في هذه القضية الهامة، طلب النائب العام ملف القضية للنظر فيها، وأعاد الملف للمحكمة بعد حوالي أسبوع، وذلك حق من حقوق النائب العام. وأُعيد ملف القضية إلى محكمة الموضوع بعد أن أُهدِر جهد المحكمة في إعلان المتهمين والشهود حيث لم تتمكن المحكمة من السير في الإجراءات دون وجود ملف القضية. وعندما اُستأنفت الإجراءات مرة أخرى، قام النائب العام بطلب ملف القضية للمرة الثانية للنظر فيه، فاستجابت المحكمة لطلب الوزير وأُرسل ملف القضية للنائب العام كما طلب والذي قام، هذه المرة، بإعادة الملف للمحكمة بعد مدة ليست بالطويلة ولكن بعد أن أهدر جهد المحكمة في إعلان المتهمين والشهود للمرة الثانية حيث لم تتمكن المحكمة في الاستمرار دون وجود ملف القضية. وعندما بدأ القاضي المذكور بتحريك الإجراءات للمرة الثالثة، قام النائب العام بطلب الملف ولكن هذه المرة أمر بحفظ الملف وقف الإجراءات الجنائية في البلاغ المشار إليه ، وذكر أنه لا ينوي توجيه الإتهام في البلاغ المذكور ضد المتهمين عدا واحداً دون ذكر أسباب. وهنا أصدر القاضي أمراً قضائياً للنائب العام بإعادة ملف القضية وقام بتكليف أحد ضباط الشرطة بإعادة ملف القضية للمحكمة. وحين سُئِل النائب العام عن سبب توجيه الاتهام لمتهم واحد فقط دون الآخرين، رفض النائب العام ذكر الأسباب، وأغلب الظنّ أن المتهم الذي لم يستثنه قرار النائب العام كان وقتها خارج السودان ورفض تسوية الموضوع مادياً مع النائب العام. ومن حق النائب العام عمل تسويات لكن قبل أن يصل الأمر للمحكمة، فلايجوز للنائب العام فرض تسوية في موضوع أمام المحكمة.
وقد خاطب قاضي محكمة الموضوع محكمة الاستئناف بتاريخ 26/يناير/1985م حسب المادة [10] من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405 ه فقال: أرى أن يُطلب من السيد رئيس الجمهورية رفع الحصانة عن الرشيد الطاهر بكر النائب العام وفتح بلاغ ضده تحت المادة 192 (أ) من قانون عقوبات السودان لسنة 1445م وأن يُقبض على جميع المتهمين فى البلاغ وألا يُطلق سراحهم إلا بعد تصديق هذه المحكمة على ضماناتهم ــ وأن يقدمّوا للمحاكمة فى أقرب وقت ممكن. قررت محكمة الاستئناف الجنائية أن قرار محكمة الموضوع بإلغاء قرار النائب العام جاء صحيحاً وموافقاً لمقتضى القانون وموافقاً أيضاً لأحكام الشريعة الإسلامية. وذلك لأن قرار النائب العام الذي قرّر فيه عدم توجيه الاتهام في هذه القضية جاء مخالفاً للقانون والشريعة معاً، وذلك لأن السلطات الممنوحة للنائب العام بموجب المادة 215 إجراءات ليست سلطات مطلقة، فالقانون والسوابق القضائية تفترض وجود أسباب معقولة وأن السلطة المخولة للنائب بموجب المادة 215 إجراءات جنائية ليست سلطة مطلقة بل تخضع لقوانين وأسس، فاذا لم يراع النائب في إقراره تلك الضوابط والأسس يكن قراره باطلاً. ويجوز للسلطة الاستئنافية العليا إلغاء قرار النائب العام وتأييد قرار محكمة الموضوع.
ولاحظت محكمة الاستئناف أن قرار النائب العام مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية فتقديم بعض المتهمين وترك الآخرين أو تميز بعضهم على االبعض الآخر فيه عدم للمساواة بين العباد، والمساواة مبدأ راسخ و أصل إسلامي كبير، كما أن المصلحة العامة تقتضى أن يُقدم المتهمون للمحاكمة لأنهم تلاعبوا بأقوات الشعب. ولذلك أيّدتْ محكمة الاستئناف قرار محكمة الموضوع بإلغاء قرار النائب العام وتقديم المتهمين للمحاكمة فوراً. ولكن محكمة الاستئناف لم تؤيد قرار محكمة الموضوع برفع الحصانة عن النائب العام ولا ندري إن كان ذلك عجزاً أم لا مبالاة. (قرار محكمة الاستشاف الجنائية، النمرة أ س ج /1184/ 1405هـ) ـ
كان هناك عدة شهود منهم كمندان بوليس كسلا آنذاك وأربعة ضباط أمن. حاول أربعة من ضباط الأمن الاقتصادي الاعتذار عن الادلاء بشهاداتهم أمام المحكمة، إذ ادّعوا أنّهم تلقوا أوامر من السيد عمر محمد الطيب نائب رئيس الجمهورية بعدم الإدلاء بشهاداتهم فحذرهم القاضي بمحاكمتهم بالسجن والغرامة حسب القانون إذا رفضوا المثول أمام المحكمة (عدم حضور) مذكراً إياهم بأنّ الأمن الأقتصادي هو من كشف أبعاد هذه القضية الخطيرة المتعلقة ببيع دقيق المعونة الأمريكية بما يقارب قيمته 35 مليون دولار إلى مخابز وهمية، وأنّ الأمن الاقتصادي هو من ادعى أن المتهمين قاموا بتزوير المستندات المتعلقة بالدقيق موضوع الدعوى، فأثروا وركبوا أفخر السيارات وبنوا شاهق البنايات من قوت الشعب . فوافق الضباط على الحضور الإدلاء بشهادتهم أمام المحكمة، وقُبض على خمسة من المتهمين وإيداعهم الحراسة.
كانت الجلسة الأولى بمقر المحكمة وقد منع نائب رئيس الجمهورية السيد عمر محمد الطيِّب الصحف من تغطية أحداث المحكمة. وأدلى الشهود في الجلسة الأولى بشهاداتهم ومنهم كمندان بوليس كسلا . وبذلت السلطة التنفيذية قصارى جهدها لمنع المحاكمة، ووجد القاضي نفسه في مواجهة مباشرة مع جهاز الأمن والنائب العام و وزير العدل وثمانية سياسين من الحزب الحاكم، فخشي على نفسه وأهله وازداد احترازاً، حسب ماذكر، وقرر نقل إجراءت المحاكمة لتكون مفتوحة للعامة في مبنى البرلمان القديم قبل سحبها إلى الأبد ورغم منع الصحف تغطية سير المحكمة، إلا أنّه حضرها جمهور كبير.
يقول القاضي د. إبراهيم خالد المهدي: عقب رفضي تسليم ملف القضية للنائب العام زارني في مكتبي السيد النيَّل أبوقرون وخاطبني قائلاً: "إنّ إصرارك على السير في القضية هذه وتعنتك هذا سيؤدي إلى إلغاء قوانين الشريعة الإسلامية التي عملنا من أجلها طوال الوقت مع هذا الرجل (يقصد الرئيس جعفر النميري) لتطبيقها في السودان، وستكون أنت سبباً في إلغائها". يقول القاضي د. إبراهيم خالد المهدي إنّي قلت له إذا كانت هذه القوانين تطبق على الفقراء والضعفاء وتترك الأثرياء والأقوياء فهي ليست من الشريعة في شئ ولا ترتقي لوصفها بالإسلامية. قال: فوقف السيد النيَّل أبوقرون وقال السلام عليكم وخرج من مكتبي غاضباً. والسيد النيَّل أبوقرون والسيد عوض الجِيد والسيدة بدرية سليمان كانوا مستشارين بالقصر الجمهوري، وكانوا أقرب لرئيس الجمهورية ولهم نفوذ وسلطات تضاهي سلطات وزير العدل. و يقول القاضي د. إبراهيم المهدي، وحسب إفادة السيد مدير مكتب الرشيد الطاهر، والذي جمعته به بعد ذلك ظروف الاعتقال، أنه أخبره بأن السيدين النيّل أبوقرون وعوض الجيد زارا السيد الرشيد الطاهر وزير العدل واعتذرا بشدة عن رفضك تسليم ملف القضية وطلبك رفع الحصانة عن النائب العام، وقد ذكرا بالحرف الواحد "نحن فُجعنا في هذا القاضي وسنقوم بالواجب" . وأقسم السيد الرشيد الطاهر، بعد مغادرتهما مكتبه، بأنه لن يترك هذا القاضي وأقسم أن يحلق لحاهمها (السيدين النيل أبوقرون وعوض الجيد)!
يقول القاضي إنّ المتهمين حين أُحضروا من الحراسة في بداية الجلسة الثانية كانت تبدو عليهم علامات الإرهاق والتعب فأشفق على حالهم وأمر سراً بإحضار العصير والقهوة والشاي من حسابه الخاص لهم بدون علمهم. كان محامي المتهمين هو الأستاذ عبدالباسط سبدرات والذي قال في بداية الجلسة الأخيرة "إنّي أطلب من المحكمة الموقرة عدم السير في هذه القضيّة لأنّ السيد رئيس الجمهورية قد أصدر عفواً رئاسياً عن المتهمين في "ليلة الصفح والغفران" في احتفالٍ ديني بمسجد الشيخ الصايم ديمة بأمدرمان. وبالطبع كما هو معروف فإن من حق رئيس الجمهورية العفو عن المتهمين. وسأله القاضي: هل لديك قراراً مكتوباً من السيد رئيس الجمهورية؟ فأجاب بالنفي. سأله القاضي هل تريد أن تطلب من المحكمة بعض الوقت لأحضار قرار السيد رئيس الجمهورية الذي ذكرت؟ أجاب بالنفي! ثم زاد المحامي سبدرات قائلاً: "أطلب من المحكمة الأذن بالانصراف لأني لا أستطيع التعاون مع المحكمة. فأذنت له المحكمة بالانصراف. سأل القاضي المتهمين إن كانوا يريدون محامياً آخر بدلاً عن الأستاذ سبدرات، فأجابوا بنعم، فتم رفع الجلسة وسيق المتهمون إلى الحراسة.
توجه الأستاذ سبدرات من قاعة المحكمة إلى مكتب النائب العام وأخطره بما حدث في جلسة المحكمة. وهناك جرت أشياء من خلف الكواليس لا نعرف تفاصيلها، ولكن اتضح فيما بعد أن السيد الرشيد الطاهر استطاع اقناع السيد رئيس الجمهورية ونائبه بأن هناك مؤامرة يقودها الدكتور حسن عبدالله الترابي للنيل من أعمدة النظام المايوي والانقضاض على السلطة. وأقنع السيد نائب رئيس الجمهورية بأن هناك قضية ضده في المحكمة رقم (12) وسيتم تحركيها ضده وعليه أن يفعل شيئاً! وكان السيد الرشيد الطاهر قد نشر مقالاً في بعض الصحف السودانية والخليجية بعنوان "أرى تحت الرماد وميض نارٍ"، شرح فيه كيف يخطط الإسلاميون بقيادة الدكتور حسن الترابي لقلب نظام الحكم واستلام السلطة . ويقول القاضي د. إبراهيم المهدي أنه في نفس يوم انعقاد الجلسة الأخيرة حضر إلى مكتبه القاضي حاج نور مبعوثاً ومكلفاً من السيد فؤاد الأمين رئيس القضاء، وطلب منه تسليم ملف قضية المخابز الوهمية للقاضي حاج نور. فطلب القاضي د. إبراهيم من مراقب المحكمة تسليم ملف القضية للقاضي حاج نور فورا!. وقال للقاضي حاج نور: "إنّي قد رفضتُ تسليم هذا الملف للنائب العام، وهأنذا أسلّمك إياه باعتبارك مبعوثاً من سلطة قضائية عليا، وأنت مسؤول أمام الله من حقوق الناس المتعلقة بهذه القضية". ويقول القاضي إبراهيم: "شعرتُ براحة وحزن من نوعٍ ما، ومع أني سلمت الملف لجهة عدلية ولكن كان عندي شعور بأنّ العدالة لن تتحقق في هذه القضية وأن ملف القضية سيتنهي به المقام في نهاية المطاف في يد النائب العام وسوف لن ترى القضيّة النور". وفي اليوم الثاني صدر أمر رئاسي بعزل القاضي د. ابراهيم المهدي عضو المحكمة العليا وقاضي محكمة الموضوع، واعتقاله ومنعه من الخروج من البلاد وحرمانه من جميع حقوقه المعاشية والدستورية.
يقول مولانا د. إبراهيم المهدي في مقابلة معه بولاية فيرجنيا بأمريكا يوم 8 أبريل 2021 :"كنت أسكن في منزلي الخاص في منطقة درجة ثالثة في الكلاكلة. وقبلها كانت القضائية عرضت عليّ أن أسكن في بيت حديث فاخر يقع على النيل في الخرطوم بحري وبه حدائق وأكثر من عشر غرف، وذهبت والقاضي أحمد محجوب حاج نور برفقة السيّد علي محجوب مدير إدارة المحاكم لمعانية البيتين الذَين خُصصَّا لنا. وعندما وصلنا الموقع وجدنا منزلين متجاورين ومتشابهين أحدهما من المفترض أن يكون لي والآخر للقاضي حاج نور. بعد المعاينة قال لي القاضي أحمد محجوب حاج نور اختر ما تشاء منهما لنفسك. قلت لهم هذه البيوت لاتلزمني! رد علي محجوب مستغرباً " رئيس القضاء ماعنده بيت زي دا". أما القاضي حاج نور تساءل "طيب ليه؟". قلتُ ما كنتُ أشعر به، إنّ أمامي قضايا حساسة ضد نافذين في النظام، وإذا سكنت فيه سيكون أداة ضغط عليّ ولن أسلم، ولن تطول أقامتي فيه". قال "كنت أشعر بالراحة في بيتي الخاص رغم تواضعه. ولسببٍ لا أعرفه، رفض القاضي أحمد محجوب حاج نور المنزل الآخر"!
يقول القاضي د. إبراهيم المهدي في اليوم التالي للجلسة الأخيرة وهو اليوم الذي صدر فيه أمر القبض عليّه، سمع طرقاً قوياً على الباب حوالي الساعة الثالثة صباحاً، فشعر بأمر غير عادي ولم يفتح الباب بسرعة، فاشتدَّ الطرق على الباب حوالي الرابعة صباحاً، فنادى على جاره، وهو أحد أقاربه، ضابط شرطة ذي رتبة عالية، وطلب منه أن يعرف مايدور خارج المنزل، فعاد بعد فترة قصيرة وأخبره بأنّ السيارة التي أمام باب منزله تتبع لجهاز الأمن. وفي هذا الأثناء كادوا أن يفتحوا الباب عنوة ففتح لهم الباب وكان ذلك حوالي الساعة الرابعة والنصف صباحاً، فقدموا له أمر الاعتقال الصادر من القصر وموقع بالحبر الأحمر. وقال له أحدهم وهو يسلمه أمر الاعتقال: "نحن نستحي أن نعتقل رجلاً في مقامك وقاضياً لمحكمة عليا". فطلب منهم أن يشربوا معه الشاي أولاً فوافقوا. وبعد الشاي سألهم عن الأغراض التي يجب أن يأخذها معه، فقالوا كل شئ موجود هناك، لكن ممكن أن تأخذ ملاية ومخدّة. وشهد أنهم كانوا في غاية الأدب والاحترام والتهذيب. ويقول القاضي إنه كان يرتدي جلباباً وعمامة وركب معهم في سيارتهم في المعقد الأمامي وركبوا هم في صندوق العربة البوكس. وذكر أنه حرص أن يحمل معه أوراق نحو 50 قضية للمحكوم عليهم بالإعدام كانت في عهدته للمراجعة. وقد كان قلقاً جداً على مصير هذه القضايا فآثر أن يحملها معه، وما كان يعرف الوجهة التي سيأخذونه إليها، ولكنه سمع أحدهم يقول: "الطيارة قامت"!، فعلم منهم حين سألهم بأنهم كانوا سيأخذونه إلى طائرة متوجهة إلى دارفور برفقة الدكتور حسن الترابي والقاضي أحمد محجوب حاج نور، ولكنهم أخذوه إلى مبنى عرف فيما بعد أنه رئاسة جهاز الأمن. يواصل الدكتور أبراهيم قائلاً بإنهم قد صعدوا إلى الطابق الثاني واستقبله شخص مهذب، ويبدو أنه كان من كبار ضابط الأمن، فأحضر له مصلاية وسأله إن كان يريد أن يتنفل وأمر له بكباية شاي وأجلسه على كرسي وثير. ويقول أثناء جلوسه حضر شخص قال بنزق: "دا مقعدنوا هنا ليه، نزلوه الزنزانات"، فانتهره الضابط الكبير وأمره بمغادرة المكتب فوراً، ففعل.
رأى القاضي على يمين باب المكتب الذي أجلسوه فيه أريكة تسع لثلاثة أو أربعة أشخاص وبها بعض المعتقلين يهتفون بصوت عالٍ وباستمرار:" يسقط السفاح" فلم يرد عليهم أحد أو يمنعهم الهُتاف، إلى أن أخذوهم إلى جهة ما خارج المكتب. ما كان القاضي يعرف أين سيذهبون به ولكنه عرف أخيراً أن وجهته ستكون سجن كوبر. يقول القاضي د. إبراهيم: "إنّي أعرفُ سجن كوبر جيداً منذ أن كنت قاضياً في الدرجة الثانية في محكمة الامتداد الجنائية في نحو عام 1974، حيث كنت أزور السجن لمراجعة شؤؤن المنتظرين. وكان يستقبلني مدير السجن عند بوابة السجن استقبالاً رسمياً. لكن زيارتي هذه المرة كانت، وأنا قاض ٍ بالمحكمة العليا (Supreme Court Judge) ، كانت من نوع مختلف، فقد جئت بائساً ومعتقلاً ! استقبلني مدير السجن بكل احترام. فقلت له ضاحكاً هذا أول مرة يتم اعتقالي فيها، وأنا زول شاي وقهوة في الصباح. فقال لي يامولانا أي حاجة سنوفرها لك!"
وكما ذكر آنفاً أنه كان يدرس بغرض المراجعة والتصديق أكثر من 50 قضية عندما اعتقلوه، كانت مرتبة ومصنفة تتضمن قضايا إعدام، بذل فيها القضاة والمحققون جهداً كبيراً، فكان يخشى على مصيرها ومصير أصحابها، إن فُقدت. فطلب من مدير السجن أن يتسلم هذه القضايا ولا يسلمها إلا لرئيس القضاء شخصياً، على أن تُرسل بالسيرك ولا تُفتح ولا تُصور ولا يطّلع عليها أحد حتى تُسلم إلى رئيس القضاء. وقد اِلتزم مدير السجن بذلك.
جاء جندي وسار به داخل أزقة داخل السجن إلى أن وصلوا إلى منطقة بها غرفة كبيرة كبيرة ذات بوابة حديدية. فتح العسكري الباب فرأى حوالي 20 شخصاً داخل هذه الغرفة. و ما أن دخل الغرفة حتى أغلق العسكري الباب وانصرف! يقول د. إبراهيم أنه دُهش عندما رحبوا به جميعاً بـِ "أهلاً يا مولانا". فتعجب كيف عرفوا أنه قاضٍ معتقل، وهو لا يعرف منهم أحداً. يقول أجلسوني على مسطبة في شكل سرير ووقفوا صفين متساويين وغنوا "عازة في هواك" وهتفوا و رددوا "يسقط السفاح" و "تعيش العدالة" ترحيباً به.
سألهم كيف عرفوا أنه قاضٍ؟ وإلى أحزاب أو فكر ينتمون. وقال لهم بالحرف الواحد إنه قاضٍ مستقل وليس له أي ولاء حزبي ولا أهواء سياسية ولا له علاقة بالسياسة من قريب أو بعيد، فهو ليس معهم ولا ضدههم. وسألهم كيف عرفوه من قبل أن يُقدم عليهم، فأخذوه إلى الحائط في أقصى الغرفة حيث هناك خرطوش مدفون ينقل الأخبار من الغرفة المجاورة وإليها، وكل غرفة بها خرطوش يتواصل به ساكن كل غرفة مع الغرفة المجاورة له، وهكذا يتداولون الأخبار فور وصولها مكتب مدير السجن. جاء منادٍ ينادي باسمه وأعلمه بأن تعيناته ستبدأ من غٍد بعد الظهر، وكان قد اشتد به الأرهاق والجوع حيث لم يطعم شيئاً منذ الثامنة من مساء الأمس. فطبخ له رفاق السجن كبدة بقر بخبز قديم وأتوا له بالقهوة. وعرف منهم أنهم بعثيون! ثم جاءت الأخبار بالخرطوش أنّ شخصاً اسمه الجزولي دفع الله قد اُعتقل واُحضر إلى السجن، وكذلك صحفي اسمه حسين خوجلي. وفي ذلك اليوم تعرف على واحد من هؤلاء الشباب قال لي إنّ اسمه مطابق لاسم شخص آخر من البعثيين وله في السجن مع البعثيين أكثر من ثلاثة أشهر حيث لم يستطع الخروج ليُثبِت لهم أنّه ليس الشخص المطلوب، وأنّه أُدخِل السجن لمجرد تشابه أسماء! وتتابعت الاعتقالات فورد إلى السجن السيد محمد يوسف المحامي؛ والدكتور عبدالرحيم حمدي، السيد أحمد عبدالرحمن محمد، السيد الصادق عبدالله عبدالماجد، السيد محمد الصادق الكاروري، السيد مبارك قسم الله، السيد أحمد الحسن إبراهيم، السيد الحبر يوسف نورالدائم، السيد عثمان خالد مضوي، والسيد حافظ الشيخ زاكي الدين وآخرين كثر جمعته بهم ظروف الاعتقال لاحقاً. ويضيف قائلاً: إنّ القاضي المكاشفي طه الكباشي لم يدخل السجن مع من اعتقلوا من الإسلاميين في سجن كوبر، كما هو متداول. ظل القاضي د. إبراهيم معتقلاً مع البعثيين إلى أن ناداه أحد الجنود باسمه وطلب منه أن يأخذ أغراضه، فودعه المعتقلون وداعاً حاراً كرفيق سجن لا كقاضٍ معتقل وطلب منهم وهو يودعهم بأن يترحَّموا عليّه إن سمعوا بإعدامه.
أخذه السجانون إلى زنزنات أخرى وهي زنزانات المحكوم عليهم بالإعدام بعد أن تفريغها من منتظري التنفيذ وهي زنزنات صغيرة تفتح على حوش به شجرة لبخ كبيرة وهناك وجد عدداً من قيادات الأخوان المسلمين وكان في كل رأس ساعة يصل معتقل جديد ومن غرائب الصدف جاؤوا بمدير مكتب الرشيد الطاهر ضمن المعتقلين، فظن الدكتور إبراهيم، و إنّ بعض الظن إثم، أنه مزروع وسط المعتقلين لجمع المعلومات! والله أعلم، فقد كان يرفع كفيْه عالياً يدعو الله متضرعاً ألا يصيب الرشيد الطاهر مكروه من كثرة تقديره ومحبته له، خاصةً عندما سمع كل من في السجن دويّ الهتافات بسقوط النظام وانفجار الشارع. كانت أبواب الزنزنات تظلّ مفتوحة طوال النهار وكان المعتقلون يتحركون داخل هذا الحوش ذي الأسوار العالية جداً فلا يستطيع من في داخل الحوش أن يرى غير السماء والشمس والقمر أو طائراً عابراً أو طائرة في السماء! يتذكر القاضي إبراهيم الكتابات على جدران الزنزنات التي كتبها بعض المحكومين بالإعدام. ويتذكر جيداً كتابات بخط الضابط حسن حسين، عليه رحمة الله، والذي أعدمه نظام نميري. قضى الدكتور إبراهيم في الزنزانات أربع جُمع، ويقول الدكتور إبراهيم إن المكان كان مسرحاً للذكر والتسبيح والدعاء رغم الشعور بالاعتقال واتساخ الملابس وعدم الحلاقة. !ويذكر أـن الشيخ محمد الصادق الكاروري ضاق بالأمر وقرر خلع العراقي الوحيد الذي يلبسه وغسله بالماء دون صابون، فأقسم عليه الدكتور إبراهيم وغسل العراقي بدلاً عنه وفاءً لدين مستحق فقد كان الشيخ الكاروري أستاذاً له في المرحلة المتوسطة. وكان زملاؤه السجناء من الإخوان المسلمين كثيري المزاح معه لنزعته الصوفية وإكثاره من الذكر والأدعية.
يقول القاضي د. إبراهيم أن سجيناً جاء مرة يسأل عنه، واندهش ذلك السجين عندما رآه في حالة مزرية لا تقارن بما كان يراه عليه في السابق فيما سبق بزي القاضي المتكامل، وقد توقع د. إبراهيم، من نظرات ذلك الشخص أنه يبحث عنه، وأسر لمن كان حوله أن ذلك الشخص لن يتعرف عليه لما طرأ عليه من هزال وشعث وتغيير في السجن. يقول القاضي أنه عرف ذلك الشخص في لحظته، فهو ضابط أمن كان متهماً في قضية قتل لشخص اسمه أحمد الفتح، كان ملفها عند الدكتور إبراهيم وكان النائب العام قد طالب بإعدامهم في تلك الجريمة. وقد قال له ذلك الضابط المتهم إنه كان على علم بمؤامرة تحاك لقتله، وهنأه وحمد الله أنه ما زال حياً. ويتذكر القاضي أبراهيم أن ذلك الضابط ومن كان معه في تلك القضية، لم يطلبوا محامياً للدفاع عنهم وتُرِكوا للدفاع عن أنفسهم دون محامٍ في جريمة قتل شائكة. فأمر القاضي إبراهيم بتعيين محامٍ لهم لتعقيدات القضية. ويقول د. إبراهيم بأن عدم إلزام القاضي بتعيين محام للمتهم في مثل هذه القضايا الخطيرة، يُعد من الثغرات في القانون الجنائي السوداني الذي لا يأخذ في الاعتبار جهل المتهمين بحقوقهم القانونية.
يذكر الدكتور أبراهيم أن في يوم جمعة عند العصر، وأثناء انشغاله بالتسبيح سمع صوت أزيزياً وصوتاً غير عادي يشبه صوت المجنزرات. وسأل رفاقه في السجن قبيل المغرب إن كانوا يسمعون ما يسمع، فنفوا سماعهم لأي شيء ووصفوا حالته بهذيان رجل أنهكته أيام السجن! ولكن سرعان ما سُمع صوت الهتافات بعد صلاة العشاء من داخل السجن وخارجه. ثم بدأت في وقت متأخر من الليل الموسيقى العسكرية من الإذاعة تتخللها عبارات "بيان هام من القوات المسلحة فترقبوه" وظل من في السجن وخارجه طوال الليل حتى صباح السبت في انتظار البيان للتعرف على الجهة التي ستصدِرُ البيان. فجاء البيان الأول والذي تلاه الفريق سوار الذهب مبتدئاً بالآية " وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا" وخاتماً بـ "لا غالب إلا الله" في حوالي الساعة السابعة ونصف صباح السبت. ثم سمع السجناء هتافات الجماهير وإطلاق الرصاص من الديدبانات واستطاعت الجماهير اقتحام السجن وتحرير السجناء من الشيوعيين والبعثيين لكن منطقة المحكوم عليهم بالإعدام التي كان فيها الدكتور إبراهيم سجيناً فيها مع الإ خوان المسلمين داخل السجن نفسه كانت منطقة معزولة عالية الأسوار ولها باب قوي وضخم، استعصى على الجماهير الهادرة لفترة، ولكنهم استطاعوا أخيراً اعتلاء الأسوار وكسر باب السجن، فخرج الدكتور أبراهيم ومن معه، وعشرات السجناء بملابس السجن، حتى السجناء المحكومين بالأعدام خرجوا بقيدوهم الحديدية إلى الشارع. يقول الدكتور إبراهيم أنه كان في معيته السيد أحمد الحسن إبراهيم والذي تعرّف عليه منذ زمن طويل وفي السجن وحين خرجا وجدا زوجته سعاد الفاتح وابنه حسن في سيارة في انتظاره، وذهب معهم الدكتور إبراهيم في سيارة خضراء إلى منزلهم في أم درمان، بعد إصرارهم الشديد لمرافقتهم، ثم غادر بعد ذلك إلى منزله في الكلاكلة في حوالي الساعة الرابعة مساء، وقد أخذه أحد أقارب السيد أحمد الحسن إلى الخرطوم رغم المخاطر وشح الوقود الشديد. وبعد أن كاد بترول السيارة ينفذ، خاطب ذلك الشخص النبيل أحد سائقي التاكسي جوار طلمبة ود الحسين أن كان في إمكانه مشوار إلى الكلاكلة، فاعتذر أولاً ولكن بعد أن عرف أن الزبون هو القاضي الذي كان معتقلاً جاء إليّه بالأحضان، وأوصله إلى بيته في الكلاكلة ولم يأخذ مليماً واحداً، بل غضب حين طلب منه القاضي الانتظار ليحضر له أجرته، قائلاً بل من واجبي أن أحضر لكم خروفاً بهذه المناسبة، فياله من سائق تاكسي شهم كسائر أبناء بلادي، وقال إنه سمع أنباء اعتقاله من التلفزيون. وعندما وصل القاضي الطليق إلى داره وجد عدداً كبيراً من الجيران وغيرهم لا يعرف معظمهم، أتوا مهنئين ومجاملين.
يقول الدكتور إبراهيم إنه كان أول قاضي محكمة عليا يُعزل ويُحرم من جميع حقوقه ومستحقاته ويُمنع من السفر، ويُزج به في السجن، ويعلن عن ذلك في نشرات الإذاعة والتلفزيون. فقضاة المحكمة العليا عادة لا يُعزلون، بل يحالون إلى المعاش عند الضرورة. ترك الدكتور القاضي إبراهيم خالد المهدي السودان الذي كاد أن يغتال ويعدم لانحيازه لضعفائه ومحاربة الفساد والمفسدين فيه، فهاجر واستفادت من معارفه وخبراته دول وشعوب أخرى.
ونختم بالقول إنّه يجب أن يتم تعيين النائب حسب الكفاءة والمؤهلات والخبرة ولا جدال في أنّ كل نائب عام يفسر المواقف ويقييمها وفقاً لتصوراته الشخصية أفكاره ومنطلقاته الأيديولوجية التي يؤمن بها. لكن حيدة النائب العام في أية دعوى قضائية أمام المحاكم واستقلال القضاء وتحرره من تدخل السلطات الأخرى في شؤونه القضائية هما الركنان الاساسيان للعدل والمساوة في الدولة الدستورية الحديثة.
تعريف بالقاضي المذكور:
هو الدكتور إبراهيم خالد المهدي حصل على الماجستيرMCJ من جامعة هورد، بمدينة واشنطون دي سي، وحصل على درجة ماجستير أخرى LL.M) Master of Laws) من جامعة جورج واشنطون بمدينة واشنطون دي سي، ثم حصل على درجة الدكتواه في القانون (J Doctorate SJD) أيضاً من جامعة جورج واشنطون. تدرّج في العمل في السلك القضائي من مساعد قاضٍ حتى أصبح قاضياً بالمحكمة العليا. وهو يعيش حالياً بالولايات المتحدة الأمريكية.
salih@american.edu